الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
فإنه كثر جدا أن تنكح المرأة نفسها، سواء كانت بكرا أم ثيبا، تأخذ بقول جماعة من أهل العلم، في جواز أن تنكح المرأة نفسها، فكتبت هذا إبراءً للذمة، وقررت أنه لا يجوز بحال أن تزوج المرأة نفسها، وأن النكاح لا يصح إلا بولي مطلقا، سواء كانت تلك المرأة بكرا أم ثيبا، حسب ما تقتضيه نصوص الشريعة الإسلامية في هذا الباب،
لكن إحقاقا للحق أقول: اختلف الفقهاء في إنكاح المرأة نفسها بدون ولي على قولين:
القول الأول:-
أنه لا نكاح إلا بوليٍّ، وهو قول أكثر أهل العلم، وهو المروي عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم، وبه قال سعيد والحسن وعمر بن عبد العزيز وسفيان الثوري وابن المبارك، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد، قال ابن منـدة: "لا يعرف عن الصَّحابة خلاف ذلك"، ونحوه عن ابن المنذر. انظر :تفسير القرطبي 3/73، ونيل الأوطار 6/51، ومابعدها، والمحلى9/455وما بعدها، والتمهيد 19/95، وكفاية الطالب2/49 .، وروضة الطالبين 7/5.، وإعانة الطالبين 3/3.7 المبدع7/29، وكشاف القناع 5/48 ، وتحفة الأحوذي 4/197 ، وشرح الزركشي2/319، وعون المعبود6/76، وسبل السلام3/117، ونيل الأوطار 6/25..
واستدلوا بالآتي: -
أولا: قـوله تعـالى: ]وَإِذَا طَلَّقْتُم النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ[(البقرة-232) .
ووجه الدلالة كالآتي:
أولا:-
أن هذه الآية نزلت في معقل بن يسارtإذ عَضَلَ أختَه عن مراجعة زوجها.أخرجه البخاري (4529) عن الحسنt0
ولولا أن له حقًّا في الإنكاح ما نُهِيَ عن العضل. التمهيد19/85، والمبدع 7/28 0
ثانيا: أنه لو كان لها أن تزوج نفسها لم تحتج إلى أخيها، ومن كان أمرُهُ إليه لا يقال: إن غيره منعه منه. فتح الباري 9/187، وعون المعبود 6/78 0
المناقشة: نوقش هذا بأن الحديث ضعيف؛ لأن في سنده مجهولاً، وهو الذي روى عن سماك. ختصر اختلاف الحديث2/247 0
قلت: والجواب: أن يقال: سلَّمنا بعدم صحة الحديث، لكن الدلالة من الآية واضحة في كون الولي له تأثير في إنكاح موليته، وأن منعه وعضله إياها مؤثِّر؛ إذ لولا ذلك ما توجَّه الخطاب إليه بالمنع حيث كان منعه وعدمه لا تأثير له، فلما خوطب علم أن رضاه معتبر، وأنه في حال منعه إياها ، وجب الامتناع، وليس لها أن تزوج نفسها.
ثـانيـــاً:-
قوله تعالى: ]فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ[(النساء-25)
ثـالثـــاً: -
قوله تعالى: ]وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ[(النور-32).
ووجه الدلالة من الآيتين: أن اللهIلم يخاطب بذلك إلا الرجال، ولو كان الأمر إلى النساء لذَكَرَهُن . تفسير القرطبي 3/73 0
المناقشة:-
نوقش هذا بأن كون الخطاب للأولياء لا يدلُّ على أن الولي شرط جواز
النكاح، بل إنه جرى على وفاق العرف والعادة، فإن النساء لا يتولين النكـاح بأنفسهن عادةً لما فيه من الحاجة إلى الخروج إلى محافل الرجـال، وهذا يشعر بوقاحتهن، فخـرج الخطاب مخرج العرف والعادة، لا الحتم والإيجاب.بدائع الصنائع 2/393 0
رابعــاً:-
قوله تعالى: ]قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ[(القصص-27).
ووجه الدلالة: أن الله جعل النكاح للرجل، فهو الذي يعقده، ولا دخل للمرأة في هذا.تفسير القرطبي 3/73 0
خـامســاً:-
عن أبي موسى الأشعريtقال: قال رسول اللهr: "لا نكاح إلا بوليٍّ". أخرجه الإمام أحمد4/394، وأبو داود(2085)والترمذي (1101)وابن ماجه(1881)والدارمي (2087)والحاكم في المستدرك، وأطال في تخريج طرقه2/189، وابن الجارود في المنتقى(176)وابن حبان في صحيحه9/389، والحديث حسنه الترمذي،وصححه الحاكم،واختلف في وصله وإرساله،والأرجح كونه متَّصلا صحيحا0انظر:نصب الراية3/183،والتلخيص الحبير3/156،والفصل للوصل للخطيب2/921، 757، وعلل الترمذي(156)، والإرواء 6/235، وهو مروي عن علي وابن عباس ومعاذ وأبي ذر والمقداد وابن مسعود وغيرهم، كما صحت الرِّواية به عن أزواج النبيrعائشة وأم سلمة وزينب بنت جحش رضي الله عنهم،
والحديث صريح في نفي الصحة، فلا يصح نكاح امرأة إلا بولي. شرح النووي على صحيح مسلم 9/205، ط/دار إحياء التراث العربي 0
المناقشة: نوقش هذا الحديث بأحد أمرين:
أولاً:-
أنه لا اعتراض فيه على موضع الخلاف؛ لأن هذا نكاح بولي، فالمرأة ولي نفسها، كما أن الرجل ولي نفسه، فالولي هو الذي يستحق الولاية على من يأتي عليه، والمرأة تستحق الولاية والتصرف على نفسها في مالها، فكذلك في بِْضعِها.أحكام القُرْآن للجصاص2/103 .
ثـانيـــاً:-
أن الحديث محمول على نفي الكمال. المبدع 7/28 0
الجواب: يجاب عن الأول بالآتي:
أن هذا غير مقبول لا من حيث الشرع ولا من حيث اللغة، أما عدم قبوله من حيث الشرع؛ فلأنه إذا جاء في خطاب الشرع ذِكْر الولي لم يعهد من الشرع أن يحمل المـراد على الشَّخْص نفسه، لكن شخص آخر تكون له الولاية عليه، وليس في الشرع ما يدلُّ على هذا المعنى حتَّى يمكن حمل هذا النَّص عليه، بل فيه ما يدلُّ على عدم صحة نكاح المرأة نفسها.
وأما من حيث اللغة فإن الولي يطـلق على الصاحب والحليـف والناصر والجار ونحوهم، قال ابن فارس: وكل من وَلِيَ أمرَ آخرَ فهو وليه.مقاييس اللغة مادة (و ل ي) (1064، 1065)0
ولم يأتِ في اللغة كونه يطلق على الشَّخْص نفسه.
وعن الثاني: أن كلام الشـارع محمول على الحقائق الشرعية، أي: لا نكاح شرعي إلا بولي، والأصل في النفي نفي الوجود، فإن تعذر فنفي الصحـة، فإن تعذر فنفي الكمال، فلا ينتقل عن أحد هذه المعاني المرتبة إلا في حال تعذر حمله على أحدها، فقد تعذر حمله على نفي الوجود، فانتقل إلى نفي الصحة، ولم ينتقل إلى نفي الكمال؛ لأن نفي الصحة ممكن.الإحكام في أصول الأحكام3/19، والتمهيد للإسنوي(228)، وشرح منظومة أصول الفقه وقواعده لابن عثيمين(308)0
سـادســاً:-
عن أبي هريرةtقال: قال رسول اللهr: "لا تزوج المرأةُ المرأةَ، ولا تزوج المرأةُ نفسَها، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها". أخرجه ابن ماجه (1882) والدارقطني 3/227، والبيهقي7/110، واختلف في رفعه ووقفه، فرجح الدارقطني وقف الجملة الأخيرة منه، كذا الألباني، وهو الأقرب، انظر:الخلاصة 2/187، ومصباح الزجاجة2/104، والتعليق المغني على سنن الدارقطني4/325، والإرواء6/248، وصحيح ابن ماجه1/317 0
ووجه الدلالة من الحديث واضح، فإن فيه النهي عن تزويج المرأة نفسَها، أو أن تزوِّج غيرَها مما يدلُّ على أنها ليست أهلا لذلك، ووصفت المرأة التي تزوج نفسها بأنها زانية، والزنا ليس نكاحا، فدل على بطلان نكاح المرأة نفسها، وأنه بمثابة الزنا .
المناقشة: نوقش هذا الحديث بوجهين:
الأول:-
أن النهي محمول على الكراهة لحضور المرأة مجلس الإملاك؛ لأنه مأمور بإعلان النكاح؛ ولذلك يجمع له الناس فكره للمرأة الحضور .
الثاني:-
أن قوله "فإن الزانية ..."من قول أبي هريرةt. أحكام القُرْآن للجصاص2/104، ونيل الأوطار 6/251 0
الجــواب:-
يجاب عن الأول: بأن الأصل في النهي التحريم، ولا يصرف النهي إلى الكراهة إلا إذا وجد ما يصرفه، فضلا عن إتيان النصوص بتأييد هذا النهي مما يؤكد دلالته على التحريم، كما أنه ليس في الحديث ما يدلُّ على أن مناط الحكم هو كراهة حضور المرأة مجلس الإملاك، بل الأظهر كونُهُ علةً للحكم هو عدم أهلية المرأة لمثل هذه العقد الخطير.
ســـابعـاً:-
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول اللهr: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما أصاب منها، فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له" . أخرجه أحمد6/47، وأبو داود (2083)، والترمذي (1102)، وابن ماجه (1879)0، والدارمي (2089)، وابن الجارود في المنتقى(175)، وابن حبان9/384، والحاكم2/182، والحديث حسنه الترمذي، وصححه الحاكم، وقال ابن معين:إنه أصح حديث في الباب، وصححه الألباني، انظر:نصب الراية3/184، والتلخيص الحبير3/156،والخلاصة2/187، والتنقيح لابن عبد الهادي3/144، وتذكرة المؤتسي للسيوطي(22)، والإرواء6/243 0
المنـاقشــــة:-
نوقش هذا الحديث أنه محمول على الأَمَة تزوج نفسها بغير إذن مولاها أو المكاتَبَة؛ لأن فيها شوبا من الرق وشوبا من الحُرِّيَّة، فيكون المهر لها كالحرة أو الصغيرة، ويخص عموم الحديث بالقياس على البيع، وتخصيص العموم بالقياس جائز عند كثير من الأصوليين. أصول السرخسي 2/196، وأحكام القُرْآن للجصاص2/103 0
الجـــواب:-
أما قولهم: المراد بالمرأة الأَمَة، فإن هذا يردُّه قولُهr: "فلها المهر" حيث أضاف إليها المهر بلام الملك، والأَمَة لا تملك .
وأما حملها على المكاتَبَة فأجيب بالآتي:-
1-أن الحديث صدِّر بلفظ"أي" وهي ظاهرة في العموم؛ لأنها من ألفاظ الشرط.
2-أنه أكَّدها بـ"ما" وهي من مؤكدات العموم .
3-أنه رتَّب بطلان النكاح على هذا الشرط المفيدِ للعموم في معرض الخبر، وقرائحُ ذوي الفصاحة لا تسمح في العموم بأبلغ من هذه العبارات .
فضعف تأويلهم؛ لأنه تخصيص بعد تخصيص؛ حيث قصروا العموم على الأَمَة، ثم قصروا الأَمَة على المكاتَبة، وهي صورة في غاية الندرة بالنسبة إلى هذا العموم المؤكد، وإطلاق هذا العموم، وإرادة مثل هذه الصورة النادرة يعد عند ذوي الفصاحة إلغازاً وهذرا من الكلام، بل لو قال المتكلم بهذا العموم: لم أُرِد المكاتبة، ولم يخطر ببالي، لم يستنكر عليه ذلك؛ وذلك لقِلَّتها وندرتها، فما يبلغ في القِلَّة والندرة بحيث لا يرد على خاطر المتكلم، كيف يجوز قصر العموم عليه، وإلغاء أضعافِ أضعافِ مدلوله؟!
وأما حملُهُ على الصغيرة فهذا غير مُسلَّم لوجهين:
أولاً:-
أنه قال: "امرأة"ولا تسمى الصغيرة امرأة في وضع اللسان.
ثــانيـــا:ً-
أن هذا مخالف لمذهب الحنفية؛ حيث حكموا ببطلان النكاح في الحديث، والمذهب عندهم صحته بإذن الولي، فهو موقوف على إذنه. الإحكام في أصول الأحكام 3/73، وانظر: شرح مختصر الروضة 1/575، 576 .
ثـامنـــاً:-
من النظر، استدلوا بأن عدم تزويج نفسها صونٌ عن مباشرة ما يشعر بوقاحتها، ورعونتها، وميلها إلى الرجال، فوجب ألا تباشر النكاح تحصيلا لذلك.المغني 7/6 0
القول الثاني: صحة تزويج المرأةُ نفسَها كفئا بشاهدين.
وبهذا قال ابن سيرين، والزهري، والشعبي،وقتادة، وأبو حنيفة، وزفر،وعند صاحبيه يجوز بإذن الولي، فإن أبى والزوج كفءٌ أجازه القاضي،ولا خـلاف عندهم أنه إذا أذن لها الولي فعقدت النكاح بنفسها جاز،وهو رواية عن أحمد. انظر: تفسير القرطبي 3/75، 74، تحفة الأحوذي 4/196، والمبسوط 5/10،وحاشية ابن عابدين3/223، وبدائع الصنائع 2/391،ومعتصر المختصر 1/282وما بعدها، والفروع 5/129، والمبدع 7/29 0
واستدلوا بما يأتي:
*** أولاً :-
قوله تعالى: ] فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ[ (البقرة-232)
ووجه الدلالة من وجهين:
- أولا: أنه أضاف النكاح إلى النساء، فدل على صحته منهن.
- ثانيا: أنه نهى الأولياء عن منع نكاح النساء أنفسَهن من أزواجهن إذا تراضى الزوجان،
والنَّهْي يقتضي تصور المنهي عنه، بمعنى أنه مادام توجه المنع للولي ألا يمنع المرأة أن ترجع إلى زوجها، فهو دال على أنها تملك هذا الشئ. تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق2/494، وبدائع الصنائع 2/393 0
المناقشة:-
أولا: -
أن هذا لا يدلُّ على صحة نكاحها، بل على أن نكاحها إلى الولي؛ إذ لو لم يكن لمعقِل الذي نزلت فيه الآية ولاية النكاح لما نهاه الله عن عضلها، وإنما أضافه إلى النساء لتعلقه بهن وعقده عليهن. شرح الزركشي على مختصر الخرقي 2/320، ومنا ر السبيل2/140 0
ثـانيـــا: -
يجاب عن الثاني بالتسليم في كون النهي عن الشيء يعني تصوره، فهو من حيث التصور جـائز، ومن المعلوم أنه يمكن للمرأة أن تنكح رجلا بغير ولي، لكن النزاع في صحته إذا وجد، فإنه منهي عنه، والنهي يقتضي الفساد، فلو وقع فإنه يقع فاسدا، فمجرَّد تصوُّرِهِ ليس موجِباً لصحته.
*** ثـانيــــا: -
قـوله تعـالى: ]فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ
[البقرة-23.]فأضاف النكاح إليهن، فدل على صحته منهن . تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق2/494، وبدائع الصنائع 2/393 0
المناقشة:-
نوقش ذلك بأن هذا يحمـل على ما يجب من النكـاح الذي أمر الله ورسولهrبه، ومن ذلك اشتراط الولي، والشهود، ووجوب الصداق، وغير ذلك، ولأنه متوقف على إذنهن . التمهيد 19/96 ، عون المعبود6/78 0
*** ثـالثـــاً:-
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول اللهr: "ليس للولي مع الثيب أمر". أخرجه أحمد1/334، والنسائي (3211)، وأبو داود (2100)، والدارقطني3/239، وابن حبان9/399، والبيهقي 7/118، والحديث صححه الألباني كما في صحيح سنن أبي داود2/395 0
فهذا يسقط اعتبار الولي في العقد.أحكام القُرْآن للجصاص 3/102.
المناقشة:-
نوقش بأنه ليس للولي أمر مع الثَّيِّب بمعنى أنها لا تجبر، وأن لها الحق في تعيين الزوج فلا تنكح إلا من شاءت، فإذا أرادت النكاح فلا يجوز إلا بإذن وليها، جمعا بين النصوص. المحلى 9/457، وشرح النووي على مسلم9/205، وعون المعبود6/71 0
*** رابعـــاً:-
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول اللهr: "الأيم أحق بنفسها من وليها" . أخرجه مسلم (1421)0
ووجه الدلالة من وجهين:-
أولا: أنه شارك بينها وبين الولي، وقدمها بقوله: "أحق"وقد صحَّ العقدُ منه، فوجب أن يصح منها .
ثانيا: أنه لم يقل: إنها أحق بنفسها في الإذن دون العقد، ومن ادَّعى أنه أراد الإذن دون العقد فعليه الدليل. نصب الراية 3/182 0
المناقشة:-
نوقش ذلك بأنها أحق بنفسها، أي: لا ينفذ عليها أمره بغير إذنها، ولا تنكح إلا من شاءت، وهذا لا يبطل اشتراط الولي. المحلى 9/457، وشرح النووي على مسلم9/205، وعون المعبود6/71 0
*** خـامســـاً:-
عن عليtأنه جاءه رجل، فقال: امرأة أنا ولِيُّها، تزوَّجت بغير إذني، فقال علي: "ينظر فيما صنعت فإن كانت تزوجت كفئا أجَزْنا ذلك لها، وإن كانت تزوجت من ليس لها بكفء جعلنا ذلك إليك". أخرجه الدارقطني3/237، وفي إسناده محمَّد بن أحمد بن عثمان المدني، قال ابن عدي:يغلط ويثبت عليه ولا يرجع، انظر:التعليق المغني 4/343 0
ووجهه ظاهر في أنه أوقف صحة النكاح على كونه كفئا، ولم يلتفت إلى كونه وقع بغير ولي، مما يدلُّ على عدم اشتراطه في العقد .
المناقشة: نوقش هذا الأثر بالآتي:
أولا: أن في إسناده ضعفا .
ثانيا: أن هذا الأثر يخالف ما صحَّ عن عليٍّtمن طريق الشعبي قال: ما كان أحدٌ من أصحاب رسول اللهr أشدَّ في النكاح بغير ولي من عليt، وكان يضرب فيه. التعليق المغني على الدارقطني4/344 0
ثالثا: يمكن أن يناقش هذا أنه من المتشابه، ونصوص اشتراط الولي محكمة، والقاعدة المطردة أن المتشابه يحمل على المحكم.
*** ســادســاً:-
عن عائشة رضي الله عنها أنها أنكحت رجلا امرأةً من بني أخيها فضربت بينهما بسِتْرٍ، ثم تكلمت حتَّى إذا لم يبقَ إلا العقد أمرت رجلا فأنكح، ثم قالت: "ليس إلى النساء نكاح". أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار3/10، وذكره بدون إسناد في مختصر اختلاف العلماء 2/249، ثم أعله بالإرسال 0
ووجه الدلالة أن عائشة رضي الله عنها قرَّرت المهر وأحـوال النكاح، وتولى العقد أحدُ عصبَتِها، ونسب العقد إليها لما كان تقريره إليها. أحكام القُرْآن للجصاص 3/102 0
المناقشة: نوقش هذا الأثر بالآتي:
أولا: أنه أثر مرسل .
ثانيا: أنه من الجائز أن تكون أمرت رجلا بالتزويج فكان مضافا إليها لأمرها به. مختصر اختلاف العلماء2/249 0
ثالثا: يناقش أيضا بأنه حجة عليهم؛ ووجه ذلك أن الذي تولى العقد أحد عصبتها، وكون عائشة رضي الله عنها تقرَّر المهر والنكاح لا يعني أنها تولت العقد، إذ لو كان الأمر كذلك لما قالت: ليس على النساء إنكاح، ولتولت ذلك بنفسها .
***ســابعـاً:-
أن عائشة رضي الله عنها زوجت امرأةً رجلاً، وأبوها غائب بالشَّام، فلما قدم ، قال: أمثلي يصنع به هذا ويُفتاتُ عليَّ، فكلمت عائشةُ الزوجَ، فقال: إن ذلك بيد أبيها ، فقال أبوها : ما كنت أردُّ أمـرا قضيتِيِه، فقرَّت المرأة عنده، ولم يكن ذلك طلاقا،
فهذا يوجب أن يكون النكاح بغير وليٍّ جائزا. أخرجه مالك في الموطأ (1182)وعبد الرزاق في المصنف7/3، وهو صحيح بهذا الإسناد 0
المناقشة:-
نوقش هذا الأثر بأنه لم يرد في الخبر التصريح بأنها باشرت العقد، فيحتمل أن تكون البنت المذكورة ثيِّباً ودُعِيَت إلى كفءٍ وأبوها غائب فانتقلت الولاية إلى الولي الأبعد، أو السلطان.فتح الباري 9/186 0
وقد أجاب الشوكاني عن هذا بأنه بناء على ما تراه عائشة رضي الله عنها من صحة النكاح بغير ولي، وفعلها ليس بحجة. نيل الأوطار 6/301 0
***ثـامنــاً:-
استدلوا بالنظر من وجهين:
أولا: اتفاق الجميع على جواز نكاح الرجل إذا كان جائز التصرف في ماله، كذلك المرأة لما كانت جائزةَ التصرف في مالها وجب جواز عقد نكاحها.
ثانيا: أنه عقد أكسبها مالا فجاز أن تتولاه بنفسها كالبيع والإجارات.أحكام القُرْآن للجصاص 3/102 0
المناقشة: نوقش هذا النظر بأنه قياس فاسد الاعتبار؛ لأنه قياس مع النص.التمهيد 19/96، وسبل السلام 3/117 0
*** التَّــرجـــيح ***
يترجح القول الأول القائل باشتراط الولي في النكاح، وهو قول الجمهور، للآتي: -
**أولاً: قوة أدلة الجمهور حيث قرَّرت أن الولي شرط في صحة النكاح، وأنه لا يصح النكاح بلا ولي، وإذا ما عقد فهو نكاح باطل حيث جاءت الأحاديث صريحة على وجه لا يمكن دفعه ولا تأويله، وأن سائر ما اعترض على هذه الأدلة لا وجه له من الصحة ، فسَلِمَت أدلة هذا القول من المعـارض، فوجب القول بموجبها، من اشتراط الولي للنكاح.
ثـانيــــاً: عدم سلامة أدلة القول الآخر، وعدم انتهاضها للاستدلال حيث كانت إما أدلة عامة ليس فيها ما يدلُّ صراحة على عدم اشتراط الولي، أو أقيسة في مقابلة النصوص، وما كان شأنه كذلك فلا ينهض دليلا يعارض به الأدلة الصريحة في اشتراط الولي.
ثـالثــــاً: القول باشتراط الولي في العقد هو القول الذي يتمشى مع قواعد الشريعة القاضية بحفظ المرأة، وعدم تعريضها لمباشرة مثل هذا العقد الذي يفتقر إلى الاحتياط والخبرة والدِّراية، التي لا تكاد توجد في المرأة على الوجه الكافي، فالمرأة في هذا المقام قليلة الخبرة والدراية بأخبار وأحوال الرجال، ومَنْ يصلح ومَنْ لا يصلح زوجا لموليتها، مع كونها سريعة العاطفة، شديدة الاندفاع، مما قد يوقعها في الخطأ، بخلاف الرجال الذين يخالط بعضهم بعضا، ويعرف بعضهم بعضا، مما يسهل عليهم معرفة حال الزوج، وعدم الانخداع فيه؛ فلذلك كان اشتراط الولي مما يحصل به حفظ المرأة، وسلامة العاقبة.
رابعــــاً: يؤيد ذلك أنه المروي عن الصَّحابة رضي الله عنهم، كما حكاه ابن المنذر وابن مندة إجماعا، الأمر الذي يؤكد كونه أصلا معمولا به عندهم، والله الموفق.
كتبــه: د.مـحمــد بـن مـوسـى الـدالــي
فـي :8/4/1427هــ