تعريفُ الاستيطانِ والإقامةِ وأثرُ النِّيةِ في ذلك
الحمد
لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى
آله وصحبه أجمعين، وبعد.
ففي
هذا المبحث أتناول معنى الاستيطان والإقامة لغةً واصطلاحًا، وبيان أثر النية في ذلك، وبيان حكم السفر وانقطاعه بناء على ذلك.
فالاستيطان
لغة: اتخاذ المكان وطنا، يقال: وَطَنَ بالمكان أو البلدِ يَطِنُ وأوْطَنَ أقامَ
به، وأوْطَنَهُ وَوَطَّنَهُ واسْتَوْطَنَهُ اتَّخَذَهُ وَطَناً، أي: محلا ومسكنا
يقيم فيه([1]).
الاستيطان
اصطلاحا:
اختلفت
عبارات أهل العلم في تعريف الاستيطان، فمنهم من نظر فقط إلى اعتبار حال الشخص
ونيته، ومنهم من اعتبر حال المكان.
أما
اعتبار النية والعزم، فأكثر من نصَّ عليها هم المالكية.
قال
الباجي في تعريف الاستيطان: "هُوَ الْإِقَامَةُ بِنِيَّةِ التَّأْبِيدِ"([2]).
وجاء
في حاشية الدسوقي في سياق حديثه على شروط الجمعة: " وأما ما يأتي من أن
الاستيطان شرطُ وجوب، فالمراد استيطان الشخص نفسه، أي: عزمه على الإقامة في البلد
على التأبيد "([3]).
وفي
منح الجليل: "( باستيطان بلد ) أي: سكناه لا بنية الانتقال منه"([4]).
وفي
حاشية الصاوي: "وشروط صحتها خمسة: أولها: الاستيطان، وهو أخص من الإقامة؛
لأنه الإقامة بقصد التأبيد"([5]).
فيلاحظ
أن النية والعزم على الإقامة شرط فيه، وأن الاستيطان مردُّه إلى الشخص نفسه، بحسب
ما قام في قلبه.
وقد
جاء اعتبار القصد والعزم والنية ضمنًا في كلام أصحاب المذاهب الأخرى([6]).
أما
اعتبار المكان، وكونه صالحا للمعيشة، فقال صاحب الشرح الكبير: "والاستيطان الإقامة
في قرية مبنية بما جرت به العادة بالبناء به، من حجر أو طين أو لبن أو قصب أو شجر
أو نحوه، فلا يظعنـون عنها صيفا ولا شتاء"([7]).
وزاد
صاحب المجموع: "وسواءٌ فيه البلاد الكبار ذوات الأسواق، والقرى الصغار، والأسراب
المتخذة وطنا"([8]).
ولشيخ
الإسلام كلام يبين أن المقصود بالبناء الذي في القرية هو ما جرت به عادة الناس،
فقال في سياقِ كلامٍ له على الجمعة والتجميع: "ولعل الذين قالوا: إن الجمعة
لا تقام قد تقلدوا قول من يرى الجمعة لا تقام فى القرى، أو اعتقدوا أن معنى قول
الفقهاء فى الكتب المختصرة: إنما تقام بقريةٍ مبنيةٍ بناء متصلا، أو متقاربا بحيث
يشمله اسمٌ واحد، فاعتقدوا أن البناء لا يكون إلا بالمدر من طين أو كلس أو حجارة
أو لبن، وهذا غلط منهم، بل قد نصَّ العلماء على أن البناء إنما يعتبر بما جرت به
عادة أولئك المستوطنين من أى شىء كان، قصبٍ أو خشبٍ ونحوِه([9]).
فيتضح
من هذا أن الاستيطان هو ما كان مشتملا على شرطين أساسين:
الأول:
نية الإقامة على وجه التأبيد.
الثاني:
كون المكان الذي سيُستوطن به مبنيا بما جرت به عادة الناس، صالحا للمعيشة.
وبناء عليه فالاستيطان اصطلاحا: "هو الإقامة بالمكان الصالح للمعيشة على وجه التأبيد مع نية عدم الانتقال".
التعريف بالإقامة:
الإقامة
لغة: مصدر أقام يقوم ويقيم، يقال: أَقَمْتُ بالمكان إقامةً وإقاماً ومُقاماً، بضم
الميم.
والمُقامُ
والمُقامةُ: الموضع الذي تقيم فيه([10]).
والأَلِفُ
في الإقامة تسمى ألف القطع؛ لأنها تكتب وتنطق همزة قطع في فعل الأمر، وفي
الاستئناف، وفي الوصل([11]).
والهاء
عوض عن عين الفعل؛ لأَن أصلَه (إقْوام)، فحذفت الواو وعُوِّض عنها بالهاء في آخر
الكلمة([12]).
قال
ابن فارس: القاف والواو والميم أصلانِ صحيحان، يدلُّ أحدهما على جماعةِ ناسٍ،
وربِّما استعير في غيرهم، والآخَر على انتصابٍ أو عَزْم([13]).
ولعل
المعنى الثاني هو المقصود في هذا المبحث؛ وذلك أن المكث في المكان والتعايش به نوعٌ
من العزم على البقاء فيه.
ولهذه
الكلمة مرادفات كثيرة جدا، يقال: نزل بالمكان، وتبوَّأه، وثوى به، واستوطنه،
ورَبَع فيه، وعكف به ولزمه، وعَاج، وعدن، وألبَّ وتأرَّى وتلبَّث.. إلخ، كله بمعنى
أقام([14]).
الإقامة
اصطلاحا: يراد بها المكث بالمكان بنيَّة عدم الانتقال([15]).
ويراد
بها بهذا الاصطلاح الإقامة المؤبدة، وهي ما يعرف في لسان الفقهاء بالاستيطان، وفي
لسان القانونيين بالجنسية([16]).
وأما
الإقامة المؤقتة، فالمراد بها إقامة الشخص مدةً زمنيةً محددةً، يقضيها في مكان ما
لقضاء حاجة، ثم تنتهي بقضاء تلك الحاجة، وعليه فالإقامة بهذا المعنى هي المكث
بالمكان بنية الانتقال عنه.
أثرُ
النيةِ في إثباتِ حكمِ الاستيطانِ
تقدم
أن الاستيطان يشترط له شرطان أساسيان:
الأول:
نية الإقامة على وجه التأبيد.
الثاني:
كون المكان الذي سيستوطن به مبنيا بما جرت به عادة الناس، صالحا للمعيشة([17]).
ومعلومٌ
ما أَوْلتَه الشريعةُ الإسلاميةُ من تعظيم شأن النية، وبناء سائر الأحكام عليها، يدل
على ذلك الحديث الذي جعله الشارع أصلا لكل عمل، وهو حديث عمر رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ
رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: ( إنَّمَا الأعمَال بالنِّيَّاتِ،
وإِنَّما لِكُلِّ امريءٍ ما نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللهِ
ورَسُولِهِ فهِجْرَتُهُ إلى اللهِ ورَسُوْلِهِ، ومَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ
لِدُنْيَا يُصِيْبُها أو امرأةٍ يَنْكِـحُهَا فهِجْرَتُهُ إلى ما هَاجَـرَ إليهِ)([18]).
وفي
لفظ: (إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى )([19]).
وفي
لفظ: ( الْعَمَلُ بِالنِّيَّةِ وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى )([20]).
فهذا
الحديثُ أحدُ الأحاديثِ التي يدُورُ الدِّينُ عليها.
قال
الشَّافعي رحمه الله: "هذا الحديثُ ثلثُ العلمِ، ويدخُلُ في سبعينَ باباً
مِنَ الفقه"([21]).
وعن
أبي داود صاحب السنن رحمه الله قال: كتبتُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة
ألف حديثٍ، انتخبتُ منها ما ضَمَّنْتُهُ هذا الكتاب -يعني السنن- جمعت فيه أربعةَ
آلاف وثمانمائة حديثٍ، ويكفي الإنسانَ لدينه مِنْ ذلك أربعةُ أحاديث: أحدُها: قوله
صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمالُ بالنِّيَّات )([22]).
ونقل
المناوي عن النووي قوله: "استحب العلماء أن تفتتح المصنفات بهذا الحديث، وممن
ابتدأ به البخاري في صحيحه، ثم روى النووي عن ابن مهدي: من أراد أن يصنف كتابا
فليبدأ به، ورواه عنه أيضا العراقي في أماليه"([23]).
وقد
اختلف شراح الحديث في المراد بالأعمال المذكورة في الحديث بناء على اختلافهم في
تقدير قوله: ( الأعمال بالنيات
) هل
المراد الأعمال الشرعية، أو كل الأعمال؟ على قولين حكاهما ابن رجب رحمه الله:
القول
الأول: وهو ما ذهب إليه جمع من أهل العلم من أن التقدير: أن الأعمال صحيحة، أو
معتبرة، أو مقبولة بالنيات، فيكون المراد بها الأعمال الشرعية المفتقرة إلى النية،
وأما ما لا يفتقر إلى النية، كالعادات من الأكل والشرب واللبس وغيرها، فلا يحتاج شيء
من ذلك إلى نية([24]).
القول
الثاني: أن الأعمال في الحديث على عمومها، لا يخص منها شيء، حكاه بعضهم عن الجمهور،
وهو ظاهر كلام الإمام أحمد.
قال
في رواية حنبل: "أحب لكل من عمل عملا من صلاة، أو صيام، أو صدقة، أو نوع من
أنواع البر أن تكون النية متقدمة في ذلك قبـل الفعل، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
( الأعمال بالنيات ) فهذا يأتي على كل أمر من الأمور"([25]).
فظاهر
كلام الإمام أحمد أن هذا يدخل في كل عمل، سواء في العبادات، أو في غيرها، وأن
النية تكون حينئذ مؤثرة.
مع
احتمال أن يكون سياق كلامه يدل على أنه إنما أراد الأعمال الشرعية التي تفتقر إلى
النية لتخلُّصِها لله وحده.
وعلى
هذا القول، يكون الحديث إخبارا عن الأعمال عموما، وأنها لا تقع إلا عن قصد من
العامل، وأنه سبب عملها ووجودها، ويكون قوله بعد ذلك: ( وإنما لكل امرىء ما نوى )
إخبارا عن حكم الشرع، وهو أن حظَّ العامل من عمله نيتُه، فإن كانت صالحة فعمله
صالح، فله أجره، وإن كانت فاسدة فعمله فاسد، فعليه وزره([26]).
وقد
جاء في تعريفات النية ما يفيد هذا المعنى، قال البيضاوي: " أنها عبارة عن
انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا لغرض، من جلب نفعٍ، أو دفع ضرٍّ حالا أو مآلا "([27]).
هذا،
وإن كان الشرع قد خصَّص النية بالإرادة المتوجهة نحو الفعل ابتغاء رضوان الله
وامتثال حكمه.
قال
الحافظ: "والنية في الحديث محمولة على المعنى اللغوي ليحسن تطبيقه على ما
بعده وتقسيمه أحوال المهاجر، فإنه تفصيل لما أجمل"([28]).
فإذا
تأملت تتمة الحديث وجدت أن قصد الدنيا بالعمل مؤثر في بطلان أجره، إذا كان مما
يبتغى به وجه الله، بل ومحبط له، وهذا يعني أن من الأعمال ما يعمل فقط للدنيا،
وهذا يدل على تحقق المعنى اللغوي للنية.
فإذا
كان العمل مما يبتغى به وجه الله فلا يصح حتى يخلصه لله، أما إذا كان من الأمور
المباحة، ولا يتصور فيه القربى، فقصد العمل متوجِّه وممكن الوقوع، فجرت النية في
مثله.
الترجيح:
الذي
يترجح القول الثاني القائل بتعميم الأعمال؛ فما من عمل يعمله أحدٌ إلا وله إرادة
وقصد فيه وهي النية، فمنشأ الأعمال- سواء كانت صالحة أم فاسدة، طاعة أم غير طاعة- إنما
منشؤها إرادة القلب لهذا العمل، وإذا أراد القلب عملا، وكانت القدرة على إنفاذه
تامة، فإن العمل يقع على حسب هذه النية.
وعليه
فأثر النية في الاستيطان كبير، وعلى أساس هذه النية يكون استيطانه في المكان، ويترتب
عليه جملة كبيرة من الأحكام التي تأتي مفصَّلةً في فصول ومباحث هذه الرسالة.
انقطاع
حكم السَّفر بالاستيطان
تقرر
فيما سبق أن النية مناطُ الاستيطان، ومتى نوى الإنسان الاستيطان ببلدة، فإنه بهذه
النية تكون تلك البلدة وطنا له، ويبقى النظر في الوطن الأصلي، فإن رفضه بطل برفضه له،
وإن لم يرفضه كان له وطنان.
فما
دام الإنسان في سفر فإن له أحكاما يترخَّص فيها، من قصر وجمع وفطر ومسح، وهذه
الأحكام باقية ثابتة، حتى يأتي بما ينقض هذا الوصف، وذلك بأن ينشئ نية الاستيطان
في البلد الذي سافر إليه.
والشخص
فيما يتعلق بهذا الباب لا يخلو من أن يكون أحد ثلاثة أشخاص باعتبار تقسيم جمهور
الفقهاء:
الأول:
أن يكون مسافرا.
الثاني:
أن يكون مقيما.
الثالث:
أن يكون مستوطنا.
فالمسافر:
هو من خرج من عمران بلده مع قصد سير مسافة مخصوصة، دون جزم بإقامة عدد من الأيام محدد([29]).
فإن
جزم الإقامة، فقد اختلف أهل العلم في تحديد الأيام التي يكون بها مقيما اختلافا
كبيرا([30])،
ويكون في حكم المواطن من لحظة دخوله البلد، فلا يترخَّص برخص السفر، وإن لم يجزم
إقامة معينة، ولم يعلم متى يخرج قصر ولو كان شهورا؛ لأنه ليس بمستوطن، بل منزعج انزعاج
السائرين، فصار بمثابة السائر([31]).
وعليه
فالمقيم([32]):
هو المسافر الذي دخل بلدة، فنوى الإقامة بها المدة التي يلزمها فيها إتمام الصلاة.
ويزيد بعضهم: "الإقامة الخالية عن نية المكث على
التأبيد"([33]).
وذلك
أن الإقامة اعتقاد المقام بموضع مدةً يلزمه إتمامُ الصلاةِ بها([34])،
وهذا أعم تعبير جاء في تعريف الإقامة، فهو يشمل ما ذكره الفقهاء من كون هذه المدة
أربعة أيام فأكثر، أو خمسة عشر يوما، أو تسعة عشر يوما، أو التحديد بعدد صلوات.
والمسافر
بهذا القيد لا يترخص عند الجمهور برخص السفر من أول وصوله تلك البلدة التي دخلها؛
لأنه يصبح في حكم المقيم، فإن لم يجمع إقامة مدة معينة، أو نوى إقامة مدةً أقل من
أربعة أيام، فهو مسافر يترخص برخص السفر ما دام على هذا الوصف.
قال
ابن المنذر رحمه الله: "للمسافر القصر ما لم يجمع إقامةً، وإن أتى عليه سنون"([35]).
والمستوطن:
هو من اتخذ بلداً ما وطناً له بنية عدم الانتقال عنه([36]).
والفرق
بين المقيم والمستوطن أن المقيم إذا نوى إقامة المدة التي توجب عليه إتمام الصلاة
انقطع عنه حكم السفر، ولزمه الإتمام من أول وصوله، لكن لا ينقطع بالنسبة للجمعة؛
لأن الجمعة يشترط فيها الاستيطان، وهو غير مستوطن، بخلاف المستوطن فإنه تلزمه
أحكام المواطن كاملة بما في ذلك وجوب الجمعة.
فالمقيم
غير المستوطن تثبت في حقه أحكام السفر من وجه، وتنتفي من وجه آخر([37]).
لذلك
يمكن أن يقال: كل استيطان إقامة وليس كل إقامة استيطانا، فالاستيطان أعمُّ من
الإقامة.
هذا
التقسيم الثلاثي المذكور بناء على تقسيم جمهور الفقهاء المسافرَ إلى: مسافرٍ نوى
الإقامة مدة معينة ويسمى مقيما، ومسافرٍ لم ينوِ مدة معينة، أو نوى مدة لا يلزمه
فيها إتمام الصلاة، وهي أقل من أربعة أيام في قول الأكثرين، فإنه يبقى مسافرا، فكان
المسافر بهذا قسمين، وثالثهما المستوطن، غير أن هذا تقسيم ليـس له أصل من كتاب أو
سنة أو عرف أو لغة.
قال
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"فقد
تضمنت هذه الأقوال -يعني أقوال المحدِّدين لمدة انقطاع السفر- تقسيم الناس إلى
مسافر، ومقيم مستوطن، ومقيم غير مستوطن، أوجبوا عليه إتمام الصلاة والصيام
والجمعة، قال: وهذا تقسيم لا دليل عليه من جهة الشرع، قال: والتمييز بين المقيم
والمسافر بنية أيام معدودة ليس معلوماً بشرع ولا لغة ولا عرف".
وقال: "وقد بُيِّن في غير موضع أنه ليس في كتاب
الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلا مقيم ومسافر، والمقيم هو المستوطن،
ومن سِوى هؤلاء فهو مسـافر يقصر الصلاة"اهـ([38]).
فالصحيح
أن الشخص بين أن يكون مسافرا أو مقيما مستوطنا، فإن أقام بمكان بنية السفر بعد
فترة، فهو مسافر، سواء حدَّد المدة ابتداء، أو كانت نيته أنه متى أراد أن يخرج خرج،
على حدٍّ سواء؛ وذلك أنه لم يقم دليل على هذا التقسيم، بل الأدلة كتاباً وسنةً
تكاد تتوافر على التقسيم الثنائي للناس، وهو إما أنه مسافر أو مقيم مستوطن.
أما
اعتبار أن المقيم فقط هو من نوى مدة معينة، سواء أربعة أيام أو أكثر فأين الدليل
على هذا؟!
بل
قام الدليل الأثري على أن الذي يقابل المسافر هو المقيم المستوطن دون غيره، وليس
في النصوص غير هذا التقسيم، ومن ذلك الآتي:
أولا:
عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ الصَّلَاةَ عَلَى
لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُسَافِرِ
رَكْعَتَيْنِ وَعَلَى الْمُقِيمِ أَرْبَعًا وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً)([39]).
ثانيا:
عَنْ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ رحمه الله قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا عَنْ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ؟ فَقَالَتْ: ائْتِ عَلِيًّا فَإِنَّهُ
أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنِّي، فَأَتَيْتُ عَلِيًّا فَسَأَلْتُهُ عَنْ الْمَسْحِ؟
فَقَالَ:
( جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ
وَلَيَالِيَهُنَّ لِلْمُسَافِرِ وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ )([40]).
ثالثا:
عن عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه صَلَّى بِمِنًى أَرْبَعَ
رَكَعَاتٍ فَأَنْكَرَهُ النَّاسُ عَلَيْهِ! فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ،
إِنِّي تَأَهَّلْتُ بِمَكَّةَ مُنْذُ قَدِمْتُ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( مَنْ تَأَهَّلَ فِي بَلَدٍ
فَلْيُصَلِّ صَلَاةَ الْمُقِيمِ ) ([41]).
ووجه
الاستدلال من هذه النصوص:
تعريفُ الاستيطانِ والإقامةِ وأثرُ النِّيةِ في ذلك
الحمد
لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى
آله وصحبه أجمعين، وبعد.
ففي
هذا المبحث أتناول معنى الاستيطان والإقامة لغةً واصطلاحًا، وبيان أثر النية في ذلك، وبيان حكم السفر وانقطاعه بناء على ذلك.
فالاستيطان
لغة: اتخاذ المكان وطنا، يقال: وَطَنَ بالمكان أو البلدِ يَطِنُ وأوْطَنَ أقامَ
به، وأوْطَنَهُ وَوَطَّنَهُ واسْتَوْطَنَهُ اتَّخَذَهُ وَطَناً، أي: محلا ومسكنا
يقيم فيه([1]).
الاستيطان
اصطلاحا:
اختلفت
عبارات أهل العلم في تعريف الاستيطان، فمنهم من نظر فقط إلى اعتبار حال الشخص
ونيته، ومنهم من اعتبر حال المكان.
أما
اعتبار النية والعزم، فأكثر من نصَّ عليها هم المالكية.
قال
الباجي في تعريف الاستيطان: "هُوَ الْإِقَامَةُ بِنِيَّةِ التَّأْبِيدِ"([2]).
وجاء
في حاشية الدسوقي في سياق حديثه على شروط الجمعة: " وأما ما يأتي من أن
الاستيطان شرطُ وجوب، فالمراد استيطان الشخص نفسه، أي: عزمه على الإقامة في البلد
على التأبيد "([3]).
وفي
منح الجليل: "( باستيطان بلد ) أي: سكناه لا بنية الانتقال منه"([4]).
وفي
حاشية الصاوي: "وشروط صحتها خمسة: أولها: الاستيطان، وهو أخص من الإقامة؛
لأنه الإقامة بقصد التأبيد"([5]).
فيلاحظ
أن النية والعزم على الإقامة شرط فيه، وأن الاستيطان مردُّه إلى الشخص نفسه، بحسب
ما قام في قلبه.
وقد
جاء اعتبار القصد والعزم والنية ضمنًا في كلام أصحاب المذاهب الأخرى([6]).
أما
اعتبار المكان، وكونه صالحا للمعيشة، فقال صاحب الشرح الكبير: "والاستيطان الإقامة
في قرية مبنية بما جرت به العادة بالبناء به، من حجر أو طين أو لبن أو قصب أو شجر
أو نحوه، فلا يظعنـون عنها صيفا ولا شتاء"([7]).
وزاد
صاحب المجموع: "وسواءٌ فيه البلاد الكبار ذوات الأسواق، والقرى الصغار، والأسراب
المتخذة وطنا"([8]).
ولشيخ
الإسلام كلام يبين أن المقصود بالبناء الذي في القرية هو ما جرت به عادة الناس،
فقال في سياقِ كلامٍ له على الجمعة والتجميع: "ولعل الذين قالوا: إن الجمعة
لا تقام قد تقلدوا قول من يرى الجمعة لا تقام فى القرى، أو اعتقدوا أن معنى قول
الفقهاء فى الكتب المختصرة: إنما تقام بقريةٍ مبنيةٍ بناء متصلا، أو متقاربا بحيث
يشمله اسمٌ واحد، فاعتقدوا أن البناء لا يكون إلا بالمدر من طين أو كلس أو حجارة
أو لبن، وهذا غلط منهم، بل قد نصَّ العلماء على أن البناء إنما يعتبر بما جرت به
عادة أولئك المستوطنين من أى شىء كان، قصبٍ أو خشبٍ ونحوِه([9]).
فيتضح
من هذا أن الاستيطان هو ما كان مشتملا على شرطين أساسين:
الأول:
نية الإقامة على وجه التأبيد.
الثاني:
كون المكان الذي سيُستوطن به مبنيا بما جرت به عادة الناس، صالحا للمعيشة.
وبناء عليه فالاستيطان اصطلاحا: "هو الإقامة بالمكان الصالح للمعيشة على وجه التأبيد مع نية عدم الانتقال".
التعريف بالإقامة:
الإقامة
لغة: مصدر أقام يقوم ويقيم، يقال: أَقَمْتُ بالمكان إقامةً وإقاماً ومُقاماً، بضم
الميم.
والمُقامُ
والمُقامةُ: الموضع الذي تقيم فيه([10]).
والأَلِفُ
في الإقامة تسمى ألف القطع؛ لأنها تكتب وتنطق همزة قطع في فعل الأمر، وفي
الاستئناف، وفي الوصل([11]).
والهاء
عوض عن عين الفعل؛ لأَن أصلَه (إقْوام)، فحذفت الواو وعُوِّض عنها بالهاء في آخر
الكلمة([12]).
قال
ابن فارس: القاف والواو والميم أصلانِ صحيحان، يدلُّ أحدهما على جماعةِ ناسٍ،
وربِّما استعير في غيرهم، والآخَر على انتصابٍ أو عَزْم([13]).
ولعل
المعنى الثاني هو المقصود في هذا المبحث؛ وذلك أن المكث في المكان والتعايش به نوعٌ
من العزم على البقاء فيه.
ولهذه
الكلمة مرادفات كثيرة جدا، يقال: نزل بالمكان، وتبوَّأه، وثوى به، واستوطنه،
ورَبَع فيه، وعكف به ولزمه، وعَاج، وعدن، وألبَّ وتأرَّى وتلبَّث.. إلخ، كله بمعنى
أقام([14]).
الإقامة
اصطلاحا: يراد بها المكث بالمكان بنيَّة عدم الانتقال([15]).
ويراد
بها بهذا الاصطلاح الإقامة المؤبدة، وهي ما يعرف في لسان الفقهاء بالاستيطان، وفي
لسان القانونيين بالجنسية([16]).
وأما
الإقامة المؤقتة، فالمراد بها إقامة الشخص مدةً زمنيةً محددةً، يقضيها في مكان ما
لقضاء حاجة، ثم تنتهي بقضاء تلك الحاجة، وعليه فالإقامة بهذا المعنى هي المكث
بالمكان بنية الانتقال عنه.
أثرُ
النيةِ في إثباتِ حكمِ الاستيطانِ
تقدم
أن الاستيطان يشترط له شرطان أساسيان:
الأول:
نية الإقامة على وجه التأبيد.
الثاني:
كون المكان الذي سيستوطن به مبنيا بما جرت به عادة الناس، صالحا للمعيشة([17]).
ومعلومٌ
ما أَوْلتَه الشريعةُ الإسلاميةُ من تعظيم شأن النية، وبناء سائر الأحكام عليها، يدل
على ذلك الحديث الذي جعله الشارع أصلا لكل عمل، وهو حديث عمر رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ
رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقولُ: ( إنَّمَا الأعمَال بالنِّيَّاتِ،
وإِنَّما لِكُلِّ امريءٍ ما نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللهِ
ورَسُولِهِ فهِجْرَتُهُ إلى اللهِ ورَسُوْلِهِ، ومَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ
لِدُنْيَا يُصِيْبُها أو امرأةٍ يَنْكِـحُهَا فهِجْرَتُهُ إلى ما هَاجَـرَ إليهِ)([18]).
وفي
لفظ: (إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى )([19]).
وفي
لفظ: ( الْعَمَلُ بِالنِّيَّةِ وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى )([20]).
فهذا
الحديثُ أحدُ الأحاديثِ التي يدُورُ الدِّينُ عليها.
قال
الشَّافعي رحمه الله: "هذا الحديثُ ثلثُ العلمِ، ويدخُلُ في سبعينَ باباً
مِنَ الفقه"([21]).
وعن
أبي داود صاحب السنن رحمه الله قال: كتبتُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة
ألف حديثٍ، انتخبتُ منها ما ضَمَّنْتُهُ هذا الكتاب -يعني السنن- جمعت فيه أربعةَ
آلاف وثمانمائة حديثٍ، ويكفي الإنسانَ لدينه مِنْ ذلك أربعةُ أحاديث: أحدُها: قوله
صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمالُ بالنِّيَّات )([22]).
ونقل
المناوي عن النووي قوله: "استحب العلماء أن تفتتح المصنفات بهذا الحديث، وممن
ابتدأ به البخاري في صحيحه، ثم روى النووي عن ابن مهدي: من أراد أن يصنف كتابا
فليبدأ به، ورواه عنه أيضا العراقي في أماليه"([23]).
وقد
اختلف شراح الحديث في المراد بالأعمال المذكورة في الحديث بناء على اختلافهم في
تقدير قوله: ( الأعمال بالنيات
) هل
المراد الأعمال الشرعية، أو كل الأعمال؟ على قولين حكاهما ابن رجب رحمه الله:
القول
الأول: وهو ما ذهب إليه جمع من أهل العلم من أن التقدير: أن الأعمال صحيحة، أو
معتبرة، أو مقبولة بالنيات، فيكون المراد بها الأعمال الشرعية المفتقرة إلى النية،
وأما ما لا يفتقر إلى النية، كالعادات من الأكل والشرب واللبس وغيرها، فلا يحتاج شيء
من ذلك إلى نية([24]).
القول
الثاني: أن الأعمال في الحديث على عمومها، لا يخص منها شيء، حكاه بعضهم عن الجمهور،
وهو ظاهر كلام الإمام أحمد.
قال
في رواية حنبل: "أحب لكل من عمل عملا من صلاة، أو صيام، أو صدقة، أو نوع من
أنواع البر أن تكون النية متقدمة في ذلك قبـل الفعل، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
( الأعمال بالنيات ) فهذا يأتي على كل أمر من الأمور"([25]).
فظاهر
كلام الإمام أحمد أن هذا يدخل في كل عمل، سواء في العبادات، أو في غيرها، وأن
النية تكون حينئذ مؤثرة.
مع
احتمال أن يكون سياق كلامه يدل على أنه إنما أراد الأعمال الشرعية التي تفتقر إلى
النية لتخلُّصِها لله وحده.
وعلى
هذا القول، يكون الحديث إخبارا عن الأعمال عموما، وأنها لا تقع إلا عن قصد من
العامل، وأنه سبب عملها ووجودها، ويكون قوله بعد ذلك: ( وإنما لكل امرىء ما نوى )
إخبارا عن حكم الشرع، وهو أن حظَّ العامل من عمله نيتُه، فإن كانت صالحة فعمله
صالح، فله أجره، وإن كانت فاسدة فعمله فاسد، فعليه وزره([26]).
وقد
جاء في تعريفات النية ما يفيد هذا المعنى، قال البيضاوي: " أنها عبارة عن
انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا لغرض، من جلب نفعٍ، أو دفع ضرٍّ حالا أو مآلا "([27]).
هذا،
وإن كان الشرع قد خصَّص النية بالإرادة المتوجهة نحو الفعل ابتغاء رضوان الله
وامتثال حكمه.
قال
الحافظ: "والنية في الحديث محمولة على المعنى اللغوي ليحسن تطبيقه على ما
بعده وتقسيمه أحوال المهاجر، فإنه تفصيل لما أجمل"([28]).
فإذا
تأملت تتمة الحديث وجدت أن قصد الدنيا بالعمل مؤثر في بطلان أجره، إذا كان مما
يبتغى به وجه الله، بل ومحبط له، وهذا يعني أن من الأعمال ما يعمل فقط للدنيا،
وهذا يدل على تحقق المعنى اللغوي للنية.
فإذا
كان العمل مما يبتغى به وجه الله فلا يصح حتى يخلصه لله، أما إذا كان من الأمور
المباحة، ولا يتصور فيه القربى، فقصد العمل متوجِّه وممكن الوقوع، فجرت النية في
مثله.
الترجيح:
الذي
يترجح القول الثاني القائل بتعميم الأعمال؛ فما من عمل يعمله أحدٌ إلا وله إرادة
وقصد فيه وهي النية، فمنشأ الأعمال- سواء كانت صالحة أم فاسدة، طاعة أم غير طاعة- إنما
منشؤها إرادة القلب لهذا العمل، وإذا أراد القلب عملا، وكانت القدرة على إنفاذه
تامة، فإن العمل يقع على حسب هذه النية.
وعليه
فأثر النية في الاستيطان كبير، وعلى أساس هذه النية يكون استيطانه في المكان، ويترتب
عليه جملة كبيرة من الأحكام التي تأتي مفصَّلةً في فصول ومباحث هذه الرسالة.
انقطاع
حكم السَّفر بالاستيطان
تقرر
فيما سبق أن النية مناطُ الاستيطان، ومتى نوى الإنسان الاستيطان ببلدة، فإنه بهذه
النية تكون تلك البلدة وطنا له، ويبقى النظر في الوطن الأصلي، فإن رفضه بطل برفضه له،
وإن لم يرفضه كان له وطنان.
فما
دام الإنسان في سفر فإن له أحكاما يترخَّص فيها، من قصر وجمع وفطر ومسح، وهذه
الأحكام باقية ثابتة، حتى يأتي بما ينقض هذا الوصف، وذلك بأن ينشئ نية الاستيطان
في البلد الذي سافر إليه.
والشخص
فيما يتعلق بهذا الباب لا يخلو من أن يكون أحد ثلاثة أشخاص باعتبار تقسيم جمهور
الفقهاء:
الأول:
أن يكون مسافرا.
الثاني:
أن يكون مقيما.
الثالث:
أن يكون مستوطنا.
فالمسافر:
هو من خرج من عمران بلده مع قصد سير مسافة مخصوصة، دون جزم بإقامة عدد من الأيام محدد([29]).
فإن
جزم الإقامة، فقد اختلف أهل العلم في تحديد الأيام التي يكون بها مقيما اختلافا
كبيرا([30])،
ويكون في حكم المواطن من لحظة دخوله البلد، فلا يترخَّص برخص السفر، وإن لم يجزم
إقامة معينة، ولم يعلم متى يخرج قصر ولو كان شهورا؛ لأنه ليس بمستوطن، بل منزعج انزعاج
السائرين، فصار بمثابة السائر([31]).
وعليه
فالمقيم([32]):
هو المسافر الذي دخل بلدة، فنوى الإقامة بها المدة التي يلزمها فيها إتمام الصلاة.
ويزيد بعضهم: "الإقامة الخالية عن نية المكث على
التأبيد"([33]).
وذلك
أن الإقامة اعتقاد المقام بموضع مدةً يلزمه إتمامُ الصلاةِ بها([34])،
وهذا أعم تعبير جاء في تعريف الإقامة، فهو يشمل ما ذكره الفقهاء من كون هذه المدة
أربعة أيام فأكثر، أو خمسة عشر يوما، أو تسعة عشر يوما، أو التحديد بعدد صلوات.
والمسافر
بهذا القيد لا يترخص عند الجمهور برخص السفر من أول وصوله تلك البلدة التي دخلها؛
لأنه يصبح في حكم المقيم، فإن لم يجمع إقامة مدة معينة، أو نوى إقامة مدةً أقل من
أربعة أيام، فهو مسافر يترخص برخص السفر ما دام على هذا الوصف.
قال
ابن المنذر رحمه الله: "للمسافر القصر ما لم يجمع إقامةً، وإن أتى عليه سنون"([35]).
والمستوطن:
هو من اتخذ بلداً ما وطناً له بنية عدم الانتقال عنه([36]).
والفرق
بين المقيم والمستوطن أن المقيم إذا نوى إقامة المدة التي توجب عليه إتمام الصلاة
انقطع عنه حكم السفر، ولزمه الإتمام من أول وصوله، لكن لا ينقطع بالنسبة للجمعة؛
لأن الجمعة يشترط فيها الاستيطان، وهو غير مستوطن، بخلاف المستوطن فإنه تلزمه
أحكام المواطن كاملة بما في ذلك وجوب الجمعة.
فالمقيم
غير المستوطن تثبت في حقه أحكام السفر من وجه، وتنتفي من وجه آخر([37]).
لذلك
يمكن أن يقال: كل استيطان إقامة وليس كل إقامة استيطانا، فالاستيطان أعمُّ من
الإقامة.
هذا
التقسيم الثلاثي المذكور بناء على تقسيم جمهور الفقهاء المسافرَ إلى: مسافرٍ نوى
الإقامة مدة معينة ويسمى مقيما، ومسافرٍ لم ينوِ مدة معينة، أو نوى مدة لا يلزمه
فيها إتمام الصلاة، وهي أقل من أربعة أيام في قول الأكثرين، فإنه يبقى مسافرا، فكان
المسافر بهذا قسمين، وثالثهما المستوطن، غير أن هذا تقسيم ليـس له أصل من كتاب أو
سنة أو عرف أو لغة.
قال
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"فقد
تضمنت هذه الأقوال -يعني أقوال المحدِّدين لمدة انقطاع السفر- تقسيم الناس إلى
مسافر، ومقيم مستوطن، ومقيم غير مستوطن، أوجبوا عليه إتمام الصلاة والصيام
والجمعة، قال: وهذا تقسيم لا دليل عليه من جهة الشرع، قال: والتمييز بين المقيم
والمسافر بنية أيام معدودة ليس معلوماً بشرع ولا لغة ولا عرف".
وقال: "وقد بُيِّن في غير موضع أنه ليس في كتاب
الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلا مقيم ومسافر، والمقيم هو المستوطن،
ومن سِوى هؤلاء فهو مسـافر يقصر الصلاة"اهـ([38]).
فالصحيح
أن الشخص بين أن يكون مسافرا أو مقيما مستوطنا، فإن أقام بمكان بنية السفر بعد
فترة، فهو مسافر، سواء حدَّد المدة ابتداء، أو كانت نيته أنه متى أراد أن يخرج خرج،
على حدٍّ سواء؛ وذلك أنه لم يقم دليل على هذا التقسيم، بل الأدلة كتاباً وسنةً
تكاد تتوافر على التقسيم الثنائي للناس، وهو إما أنه مسافر أو مقيم مستوطن.
أما
اعتبار أن المقيم فقط هو من نوى مدة معينة، سواء أربعة أيام أو أكثر فأين الدليل
على هذا؟!
بل
قام الدليل الأثري على أن الذي يقابل المسافر هو المقيم المستوطن دون غيره، وليس
في النصوص غير هذا التقسيم، ومن ذلك الآتي:
أولا:
عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ الصَّلَاةَ عَلَى
لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُسَافِرِ
رَكْعَتَيْنِ وَعَلَى الْمُقِيمِ أَرْبَعًا وَفِي الْخَوْفِ رَكْعَةً)([39]).
ثانيا:
عَنْ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ رحمه الله قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا عَنْ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ؟ فَقَالَتْ: ائْتِ عَلِيًّا فَإِنَّهُ
أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنِّي، فَأَتَيْتُ عَلِيًّا فَسَأَلْتُهُ عَنْ الْمَسْحِ؟
فَقَالَ:
( جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ
وَلَيَالِيَهُنَّ لِلْمُسَافِرِ وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ )([40]).
ثالثا:
عن عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه صَلَّى بِمِنًى أَرْبَعَ
رَكَعَاتٍ فَأَنْكَرَهُ النَّاسُ عَلَيْهِ! فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ،
إِنِّي تَأَهَّلْتُ بِمَكَّةَ مُنْذُ قَدِمْتُ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( مَنْ تَأَهَّلَ فِي بَلَدٍ
فَلْيُصَلِّ صَلَاةَ الْمُقِيمِ ) ([41]).
ووجه
الاستدلال من هذه النصوص: