الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد
كثيرٌ من حاول تقديم الأعمال الدِّينية وبخاصة تمثيل الأنبياء هم اليهود والنصارى من صناع السينما العالمية، وليس الغرض من ذلك التدين في الغالب، لكنهم استلهموا منذ البداية أن هذه الأعمال ورقة تجارية رابحة، ومن ثم أقبلوا عليها بما يملكون من إمكانات، وقدموا مجموعة أعمال دينية كبيرة جدا، تناولوا فيها قصص التواراة والإنجيل، وكان من أبرز ما قدم في هذه الأعمال قصص لأنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، داود وسليمان ويحيى ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى، وكان الأخيران أكثر من قدم عنهما أعمال تمثيلية، كالوصايا العشر، وفيلم موسى عليه السلام، كما قدم عن المسيح عليه السلام أعمال كثيرة جدا، كفيلم ملك الملوك، وأجمل قصص محكاة، والإغراء الأخير للسيد المسيح، وجولجانا، والمسيح، وغيرها كثير، وانتهى بفيلم آلام المسيح، والذي قدم لعدة مرات، وقد قدم كمسرحية تعرض كل عشر سنوات.
وأما نبي الله محمَّد صلى الله عليه وسلم فلا أعلم إلى هذا الوقت وجود أي عمل تمثيلي قُدِّم عنه، غير ما نقل من أن المُمثِّل يوسف وهبي حاول تمثيل شخصية النبي صلى الله عليه وسلم بعرض زائف من أحد الأتراك، وهو وداد عرفي، إلا أن الأزهر كان موقفه عظيما إزاء هذه الفكرة، وهُدِّد ذلك المُمثِّل بسحب جنسيته إذا حاول الإقدام على هذا العمل، وكان ذلك في عام 1926م وكانت الوسيلة التي استعملها من عرض هذه الفكرة أنه في حال رفض هذا العمل فسيلعب هذا الدور نصرانيٌّ غربيٌّ لا يعرف عن الدِّين الإسلامي حرفا واحدا إلخ، ولم يكن أحد يعرف في ذلك الوقت أن وداد عرفي يهودي الديانة كما اتضح بعد ذلك لكن بحمد الله لم يتم هذا العمل، ولم ينقل فيما وقع في يدي من مراجع أي معلومات عنه.
ثم تم توقيع عقد تأسيس الشركة العربية للإنتاج السينمائي العالمي على فيلم بعنوان "محمَّد رسول الله" وتولى التوقيع عليه مُمثِّلو الحكومات بليبيا والكويت والمغرب والبحرين، وأن الفيلم سيخرج بعشرين لغة عالمية بما فيها العربية، إلا أنه تصدى لذلك هئية كبار العلماء وصدر قرار المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي بمكة بتحريم ومنع ذلك.
وغاية ما قدم مسرحية طفولة محمَّد صلى الله عليه وسلم تناولت حوارا رمزيا بين الأصنام تُبيِّن من خلال ذلك الحوار سَفَه عابدي تلك الأصنام، وتجسد للمشاهد صورة ساخرة من عبادة الأصنام، ولم تظهر شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه المسرحية، بل حتَّى في طفولته ولقائه مع بحيرا الراهب، ورهط قريش.
وقد اتفق العلماء المعاصرون على تحريم تمثيل الأنبياء عليهم السلام عامة، ونبينا محمَّد صلى الله عليه وسلم خاصة، وأنه لا عبرة بخلاف من قال بجواز ذلك؛ مُعلِّلا إياه بأنه لا يخرج عن كونه درس وعظ على طريقة التأثير النافع الذي ينشده مشاهير الوعاظ.
وبتحريم هذا الأمر صدرت فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية، وبه صدر قرار مجلس المجمع الفقهي الإسلامي المنعقد بمكة المكرمة.
والحق الذي لا مِرية فيه أنه يحرم تمثيل أي نبي من أنبياء الله صلى الله عليهم وسلم تسليما كثيرا، مهما كانت المصلحة، وأن المفاسد التي تترتب على هذا العمل أكثر، ويدلُّ على تحريمه ما يأتي: -
أولا: أن تمثيل الأنبياء والرسل سيؤدي إلى الكذب عليهم؛ لأن التَّمثيل ليس إلا ترجمة للأحوال والأقوال والحركات والسَّكَنات، ومهما يكن في المُمثِّلين من دقة وإتقان فلا مناص من زيادة أو نقصان، وذلك سيجر طوعا أو كرها إلى الكذب على الأنبياء، والكذب على الأنبياء كذب على اللهوهو كفر وبهتان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن كذبـا عليَّ ليس ككذب على أحد، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار".
ثانيا: على تقدير أن التَّمثيل لا يتناول إلا القصص الحق، وأنه لا كذب فيه، فكيف يمثل آدم أبو البشر وزوجه وهما يأكلان من الشجرة، وما هي هذه الشجرة، وكيف كون حالهما وقد طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، وهل يمثَّل الله تعالى وقد ناداهما: (أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ) (الأعراف –22) أو نترك تمثيله وهو الركن الركين في القصة؟! وكيف يمثل موسى عليه السلام وهو يناجي ربه، وكيف يمثل يوسف عليه السلام وقد همت به امرأة العزيز وهمَّ بها، وما تفسيرُ الهمَّ في لغة الفن؟! وكيف يمثل أنبياء الله وأقوامهم يرمونهم بالسِّـحْر تارة، وبالكهانة والجنـون تارة أخرى؟!
ثالثا: أن تمثيل الأنبياء والرسل قد يؤدي مع طول الوقت إلى عبادتهم وتقديسهم، وفي ذلك عودة للجاهلية، وقد حصل مع قوم نوحأن صَوَّرا صالحيهم ثم عبدوهم، وهذا في التصوير المجسم وغير المجسم، فكيف بتمثيلهم؟! خاصة أن التَّمثيل أكثر تأثيرا من الصور.
رابعا: أن تمثيل الأنبياء ازدراء وتنقُّص لهم، وغضٌّ من قدرهم، وذلك لما استقرَّ في نفوس البشر من إجلال وهيبة وتعظيم لهم، فإذا ما مثلوا في حال أو هيئة تزري بمقامهم كان ذلك ذريعة إلى الانتقـاص من قدرهم، فيفـضي إلى ضعف الإيمان بهم، والإخلال بتعظيمهم عليهم صلوات الله تعالى وسلامه، فلا شـك أن في هذا السلوك طمـسا لمعالمهم، وإهدارا لقيمتهم ، وتشويها لشخصيتهم في أنظار الناس، ولو سلَّمنا جدلا أن تمثيل الأنبياء لا نقيصة فيه ولا مهانة فلن نستطيع أن نتجاهل أنه ذريعة إلى اقتحام حمى الأنبياء وابتذالهم.
خامسا: أن المتتبع لأحوال أكثر العاملين في هذا الحقل يرى أن أكابرهم سقط من الناس ليس للصلاح مكان في حياتهم، فلا يوجد في ذلك الوسط ولا في غيره الشَّخْص الذي يستطيع أن يصور شخص رسول من رسل الله صوات الله وسلامه عليهم؛ إذ لا يوجد الشَّخْص الذي ابيضت صفحته، وطهرت سريرته، ونقاه الله من الخطايا كما عصم أنبياءه ورسله، ثم كيف تتأتى الاستفادة من تمثيل إنسان لشخص نبي، ومن قبل مثَّل دور عربيد أو مقامر سِكِّير أخٍ للدعارة والداعرات؟! ثم هذا الشَّخْص الذي يقوم بهذا الدور من أجل المبلغ الذي سيتقاضاه سوف يعود إلى سيرته الأولى ضاحكا لاهيا معرضا عن الخير الذي قدمه في ذلك العمل.
ويتفرع على ذلك أن يكون هذا العمل مدعاة للاستهزاء والسخرية، فربما خاطب ذلك المُمثِّل بعض السفهاء بلقب رسول الله في غير وقت التَّمثيل على سبيل الحكاية أو الاستهزاء، لاسيما إذا رآه يباشر معصية، وما أكثرها !! فلو لم يكن إلا هذا الوجه للمنع من تمثيل الأنبياء لكان كافيا.
سادسا: أن في تمثيل الأنبياء إثارة للجدل والمناقشة والنَّقْد والتعليق حول هذه الشَّخْصيات الكريمة ومُمثِّليها من أهل الفن والمسرح تارة، ومن غيرهم تارة أخرى، وأنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم فوق النقد والتعليق.
سابعا: أن عمل الأنبياء أعظم وأجل وأكثر وأوسع تأثيرا، وانتشارا على نحو يفوق الحاجة إلى تمثيلهم على المسـرح أو الشاشة أو غيرهما، فلا حاجة إذاً لاستعمال التَّمثيـل كوسيلة توضيح وتبيين لما كانوا عليه؛ حيث قاموا بالأعمال العظيمة التي تغني عن هذا التَّمثيل.
ثامنا: هذا العمل في الغالب يؤدي إلى تحزُّب الطوائف ونشوب الخصام والتهاب المشاعر بين المسلمين وغيرهم، وبل وبين أهل الكتاب بعضهم من بعض، وهذا يؤدي إلى زعزعة الأمن وإثارة الفتن، وما أحوج المسلمين إلى الأمن والاستقرار، وإطفاء الفتن وتسكينها، لا إثارتها وإشعالها.
تاسعا: أن في قصص الأنبياء في كتاب الله الكفاية، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(يوسف – 111)والعبرة لا تزال ماثلة في مواطنها، واضحة في معالمها، ينتفع بها في القُرْآن الكريم وصادق الأخبار.
عاشرا: أنه إذا كان ثمَّ مصلحة وهي أن التَّمثيل تقريب وتصوير أكثر من غيره، إلا أن المفسدة في تجسيد النبي عظيمة، والخطر منها أفدح، ولا شك أن درء المفاسد مُقدَّم على جلب المصالح كما اقتضته الشريعة الغراء.
فجملة القول أن أنبياء الله ورسله-صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين-معصومون بعصمة الله لهم من النقائص، وأن تمثيلهم تنقيص لهم وزراية بهم أو ذريعة إلى ذلك، فَلْنَدَعْهم محفوفين بالجلال والوقار الذي حفهم الله به.
تمثيل أقارب الأنبياء:
بعد ما تقرَّر من تحريم تمثيل الأنبياء، يحسن التنبيه على أن الأمر لا يقف إلى هذا الحدَّ، بل إن أُمَّ النبي صلى الله عليه وسلم، أو أخته، أو زوجه، أو بنته، ونحوهم يأخذون هذا الحكم، فلا يجوز أن يتقمَّص أشخاصهم أحد من المُمثِّلين، بل نسمع أقوالهم منسوبة إليهم نطقا؛ لأن الله تعالى كرم أم موسى بقوله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ)(القصص – 7)وكذلك أخته وزوجه لكل منهما مكانتها وموضعها الذي رفعها الله إليه في قرآنه، فمن ثم ينبغي صونهم عن التَّمثيل والتَّشْخيص، ويكتفى بما ذُكر من ترديد أقوالهـم مسموعة منسوبة إليهم.
لكن جاء في فتوى الأزهر: "أما من لم يثبت إسلامه كأبي طالب وغيره ممن له عونٌ أكيد في دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ونصرته فلا مانع من ظهور من يمثله إذا رُوعِيَت صلة دعوته للنبي صلى الله عليه وسلم بحيث لا يكون في تمثيله ما يخدش مقامه؛ تقديرا لما كان منه نحو الرسول صلى الله عليه وسلم من مناصرة وعون أكيد".
إلا أن هذا يرد عليه أن تمثيل هؤلاء ربما ألقى في قلوب المشاهدين حبًّا لهم مع كونهم كفارا، يجب ديانةً بغضهم، واعتقاد كونهم في النار خالدين فيها أبدا، مع حفظ ما لهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مواقف عظيمة، فالواجب سدُّ هذا الباب مطلقا.
كتبه: د. محمد بن موسى الدالي
في 23/2/1426هـ