الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد
فإن مسألة اختلاف المطالع تقرر جوازها من عهد النبوة إلى عهدنا ذلك، دون نكير، مع أنه وقع بعض الاختلاف في المسألة، غير أن المتقرر من حيث الدليل والعمل على مر الأزمنة السابقة، هو اعتبار اختلاف المطالع، وهو من المعلوم شرعا وحِسًّا (فلكيا) وعقلا، ووقوع النزاع في هذه المسألة يعود إلى قولين مشهورين:
الأول، وهو الأشهر والمعتبر شرعا وحسا وعقلا، واقتضته الضرورة هو اعتبار اختلاف مطالع الهلال، واستقلال رؤية كل قُطْر برؤيته، فهي ظاهرة فلكية لا مجال للنزاع في وجودها واعتبارها وثباتها، وهو ما عليه العمل على مر الزمان.
الثاني: عدم اعتبار هذا الاختلاف، وأنه إن رئي الهلال في قُطْر لزم عامةَ المسلمين العملُ بهذه الرؤية، ولم يطبق هذا القول في تاريخ أمة الإسلام البتة، فلم ينقل لا في العهد النبوي، ولا في غيره.
وأما أدلة هذه المسألة، فأبدأ بالقول الأخير، فإنهم استدلوا بعمومات النصوص، من نحو قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وقوله صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته»، وقوله: (الصوم يوم يصوم الناس، والفطر يوم يفطر الناس) فالنصوص كما تراها عامة، لعامة الأمة، فمتى رآه مسلم في الشرق، لزم مَن في الغرب أن يصوم!!!
هذا هو تقرير الدليل لديهم، وهذه الأدلة قد تليت على الصحابة رضي الله عنهم، وفيهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وقعت الهجرة، وانتشر الإسلام، على الأقل في مكة والمدينة، ولم ينقل أنه إن رئي الهلال في المدينة، كان النبي صلى الله عليه وسلم يرسل لأهل مكة يعلمهم أن عليهم الصوم، أو غيره من الأقطار التي دخلها الإسلام، ولا في عهد الخلفاء فهموا هذا الفهم، مع توسع الفتوحات الإسلامية، فلم يكونوا يبحثون عن ثبوت الهلال في قُطر، حتى يلزموا أهل الأمصار الأخرى، إنما فهموا أن النصوص تخاطب كل قوم مجمتعين في مكانهم، فالناس في النصوص هم أهل القطر الواحد، ويكون هذا من جنس قوله تعالى: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم .. الآية) ومعلوم أنه ليس المراد الناس في جميع بقاع الأرض، إنما هي فئة قليلة جدا من الناس، وساغ لغة هذا التعبير القرآني البليغ.
كما أن حمل النصوص على عموم المسلمين في كل الأرض متعذر شرعا؛ إذ إن الله تعالى يعلم -وهو خالق الخليقة كلها سبحانه- أن انفصال الهلال عن شعاع الشمس يختلف باختلاف الأقطار، فهذه ظاهرة فلكية مخلوقة لله تعالى، لا يمكن أن تتخلف البتة، فحمل النصوص على خلافها محال.
أما أدلة القول الثاني، فإنهم استدلوا بنفس الأدلة السابقة، وحملوها على العهد الذهني، وأن المراد بالناس أهل المِصر الواحد، وأن الخطاب بشهادة الرؤية لمن تحت حاكم أو والٍ واحد، وليس لجميع المسلمين في شتى بقاع الأرض، وأنه لا يصح لمسلم لم ير الهلال أو يكتمل شهره أن يفطر، تماما كما هو الحال في غروب الشمس، فإن البلد الواحد يختلف فيه وقت الغروب، ولا يجوز لمن لم تغرب شمسهم الفطر بناء على غروبها في ناحية أخرى من البلد، وهم مع ذلك في بلد واحد، فإن اختلف المصر والقطر فمن باب أولى.
فمن كان في مصر (جمهورية مصر) -على سبيل المثال لهذا العام-، فعلى أي أساس قد أفطر؟! وقد جعل الشارعُ الفطرَ بأحد سببين: إما الرؤية، وإما اكتمال الشهر، وكلاهما منتفٍ، فلم يُرَ الهلال، ولم يكتمل الشهر، ولم يُعرف في الشرع أن من لم يرَ الهلالَ أو يكتمل شهرُهُ أنه يفطر بناء على فطرِ بلدٍ آخر! فهذا لم ينقل، ولو كان هذا من الشرع لحرص النبي صلى الله عليه وسلم على تتبع أخبار الهلال في الأقطار المجاورة، حتى يفطر بفطرهم أو يصوم بصومهم، ولم يحصل، وكذا الصحابة رضي الله عنهم، والخلفاء الراشدون وغيرهم، فكل هذا لم يقع، بل وقع خلافه، كما في حديث مسلم الصحيح عن كريب أَنَّ أُمَّ الْفَضْلِ بِنْتَ الْحَارِثِ بَعَثَتْهُ إِلَى مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ، قَالَ: فَقَدِمْتُ الشَّامَ، فَقَضَيْتُ حَاجَتَهَا وَاسْتَهَلَّ عَلَيَّ هِلالُ رَمَضَانَ وَأَنَا بِالشَّامِ، فَرَأَيْتُ الْهِلالَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، وَرَآهُ النَّاسُ وَصَامُوا وَصَامَ مُعَاوِيَةُ، فَقَدِمْتُ الْمَدِينَةَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ، فَسَأَلَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، ثُمَّ ذَكَرَ الْهِلالَ، فَقَالَ : مَتَى رَأَيْتَ الْهِلالَ؟ فَقُلْتُ: رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، قَالَ: أَنْتَ رَأَيْتَهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ رَأَيْتُهُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، وَرَآهُ النَّاسُ وَصَامُوا وَصَامَ مُعَاوِيَةُ، فَقَالَ: لَكِنَّا رَأَيْنَاهُ لَيْلَةَ السَّبْتِ، فَلا نَزَالُ نَصُومُ حَتَّى نُكْمِلَ ثَلاثِينَ أَوْ نَرَاهُ، فَقُلْتُ: أَوَلا تَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ مُعَاوِيَةَ وَصِيَامِهِ؟ فَقَالَ : لا هَكَذَا أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ".
فهذا الحديث صريح في أن اختلاف المطلع واعتباره هو أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم، ولم ينقل عنهم خلاف ذلك البتة، وعلى مر التاريخ، وإنما استحسن اعتبارَ اتحادِ الرؤية جمع من أهل العلم لكونه أدعى لاتحاد الكلمة!!
وقد علمتم دليل هذا القول الذي عمل به المسلمون على مر الزمان، مع أنه يحصل اختلاف في الميقات اليومي للصلوات بين الأقطار، فلا إشكال فيما لو حصل اختلاف في الميقات الشهري، ولم تحصل الفرقة بين المسلمين بسبب ذلك، على مر الزمان، إنما أسباب الفرقة أو الائتلاف أمور أخرى غير مطلع الهلال قطعا!
مع ما في فِطْر جماعةٍ من المسلمين في بلد، وبقية الناس صائمون، من الفتنة والشقاق والنزاع، وشق جماعة المسلمين ما فيه، فهذا أدعى إلى تخطئة مَنْ أفطرَ والناسُ حوله صيامٌ، وعيَّد والناسُ يكملون صوم شهرهم!!، وقد علمت أن اتحاد الرؤية في الأمصار الإسلامية كلها لم يقع منذ العهد النبوي إلى عهدنا هذا، وما كان خيرا في القرون المفضلة الثلاثة كان خيرا الآن، بل هو الفضل كله والخير كله.
فالذي أَدِينُ اللهَ تعالى به أن من أفطر لمجرد وجود قول في المسألة، لم يُعمل به أصلا، والشهر لم يكتمل، والهلال لم يُرَ في قُطْره ومِصْرِهِ أن عليه قضاءَ اليومِ، لكونه أفطر بغير الدليل الشرعي، إنما فقط استنادا إلى خلافٍ وقولٍ غيرِ معمولٍ به، فأين هذا المفطِرُ من قوله صلى الله عليه وسلم: ( صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)؟!!
هل يكفيه للخروج من عهدة هذا النص مجرد وجود قول في المسألة؟!
كما تلزمه التوبةُ لكون هذا داعيًا إلى شق عصا المسلمين، وفرقتهم، وإثارة الفتنة فيهم، وإنما يعمل بالقول الأول -الالتزام برؤية واحدة- حينما يكون للمسلمين إمامٌ أعظمُ، يُلزِم جميعَ المسلمين في الدنيا كلها بالصوم برؤية الهلال في أي بلد، فحينها نأخذ بهذا القول بإذن الله تعالى.
والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل
كتبه: د. محمد بن موسى الدالي
في 3 / 10/ 1440هـ