الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد
فقد حُدِّثتُ عن بعض الأئمة أنه يطيل في صلاة الفريضة، حتى يصل الركوع والسجود إلى عشرين أو ثلاثين تسبيحة، ومما استغربته رضا بعضِ طلبةِ العلم بهذا الصنيع، وحبهم إياه، فأقول في هذا الصدد وبالله التوفيق:
إن هذا الصنيع لهو أقرب إلى البدعة منه إلى الشرع والدين، وأن الواجب في مثل هذه الحال نصح ومنع من أدام على ذلك، واستمر عليه، فإنه مخالف لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم الصريح من أكثر من وجه، وبيانه على النحو الآتي:
- مخالف لقوله تعالى: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ) الأحزاب-21، وهذه مخالفة وعدم اقتداء وتأسٍ في شعيرة ظاهرة عظيمة، الهديُ النبويُّ فيها ظاهر جليٌّ.
- مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (صلوا كما رأيتموني أصلي) وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
- مخالف لفعله الدائم، في تلك الشعيرة العظيمة الظاهرة، فقد عاش عمرَهُ كله صلى الله عليه وسلم يصلي، ولم يزد في الفريضة على عشر تسبيحات، وكان قيامه وركوعه واعتداله وسجوده ورفعه من السجود قريبا من السواء، ولم يرد أنه خالف هذا الهدي الظاهر، ولو مرة واحدة، لا بقوله ولا بفعله.
وقد استدل بعضهم للجواز بالآتي:
أولا: قوله صلى الله عليه وسلم: ( إني لَأَدْخُلُ فِي الصَّلاَةِ وَأَنَا أُرِيدُ إِطَالَتَهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي مِمَّا أَعْلَمُ مِنْ شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ مِنْ بُكَائِهِ".
قالوا: وهذا يدل على جواز إطالة الصلاة.
والجواب: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إطالتها) أي: بما يوافق شرعه وسنته، وما اعتاده في صلاته، وليس مراده الإطالة مطلقا، والتي تخرج عن الحد المعهود منه عليه الصلاة والسلام؛ لأنه لا يقصد صلاة بعينها، كان يريد إطالتها، فبكى صبي، فقصرها من أجله!! لا، إنما يقول: أدخل في الصلاة -يعني أي صلاة- وهو يريد ما اعتاده، مما يعادل عشر التسبيحات، فيسمع الصبي يبكي، فيقصرها حتى تكون أقل من ذلك؛ تخفيفا وشفقة بأمه.
ثانيا: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك؛ تخفيفا وشفقة بالأمة، مما يدل على جوازه إن قدر المأمومون!
والجواب: أنه لو كان الأمر منوطا فقط بهذه العلة، وأنه إنما يخفف بالناس لهذه العلة فحسب، لبين لهم أنه يجوز الإطالة والمخالفة لهذه السنة، ولو مرة، سواء بقوله أو بفعله، ولم يكن، مما يدل على أن الصلاة بهذا القدر، وعلى هذه الصفة مقصودة للشارع.
ثم لو كان المأمومون في عصرنا هذا عندهم القدرة على الإطالة، فإن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا وسائر الصحابة رضي الله عنهم عندهم أضعاف هذه القدرة، ومع ذلك لم يصنع بهم ذلك، فكان هذا تأكيدا على أن هذا القدر هو المطلوب للشارع، والذي من جملة حِكَمِهِ التخفيفُ على المسلمين.
وأخيرا فإن ما يقال لأهل البدع المستدركين على الشرع هو بعينه يقال لصاحب هذا الصنيع الدخيل على الإسلام، فماذا أراد هذا الإمام بذلك؟!
أهو استدراك على فعل النبي صلى الله عليه وسلم الدائم؟!
أم هو حسن ظن بنفسه، وبمن خلفَه أكثر من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم،؟!
أم هو زيادة فقه وعلم لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على دراية به؟!
أم هو خير علمه ذاك الإمام لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه، أو علمه وكتمه؟!
حاشاه صلى الله عليه وسلم.
وأخيرا أوصي نفسي والأخوةَ أئمةَ المساجد وغيرَهم بلزوم هدي النبي صلى الله عليه وسلم فيما كان باطنا، فضلا عما كان ظاهرا، ويزداد وجوب لزوم السنة فيما كان شعيرة ظاهرة، وأمانة معلنة للمسلمين أجمعين، كالصلاة، فالمتابعة الدقيقة فيها هو ما تقتضيه الإمانة ، ويُلزِم به العلم، ويستوجبه خالص النصح للمسلمين.
والله ولي التوفيق
كتبه: د.محمد بن موسى الدالي
في 12/10/1440هـ