حكم اقتناء الكلب وتربيته، مع أن الكلب وَفِيٌّ!! فلم القسوة في الحكم عليه؟! والله المستعان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد
فإن الله تعالى أحكم الحاكمين، وقوله الحق، وحكمه عدل، حكم فأوفى وقدر فقضى، ولا سبيل للعقل الإنساني أن يتجاوز النصوص بدعاوى فاسدة، وبطرق فاسدة، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
فقد شاع في الآونة الأخيرة الكلام في شأن تربية الكلاب، وأنها ليست بنجسة، ولا بأس في وجودها في البيت، وأن الكلب وفيٌّ، فكيف يعامل بهذه القسوة؟! وأن الله تعالى ذكر كلب أهل الكهف، مما يدل على فضله، وأنه قد صنف كتاب في فضل الكلاب!! وأن الذين يحرمون يجتزئون النصوص، وأنهم نابتة، لا علم لهم، مع أنهم جماهير أهل العلم!! وأنهم لم يفقهوا الروح الإنسانية في الحكم الشرعي، وأنهم بذلك ينفرون من الإسلام، وكأن من أباح أدخل غيرَ المسلمين في الإسلام!! والنتيجة الواقعة أنه خسر الحسنيين، فلا عظَّم النص، ولا أدخل غيرَ المسلمين في الإسلام بهذه المجاملات الفجَّة.
فأكتب هذا للرد على هذا الهرج، والخداع الفقهي، وأجعل الكلام في ذلك في نقاط خمسة: نجاسة الكلب، اقتناء الكلب، وامتناع الملائكة من دخول البيت الذي فيه كلب، وانتقاص الأجر باقتنائه، والاستثناء الوارد فيه، الأمر بقتل الكلاب، تحريم بيع الكلب، ووصف ثمنه بالخبيث، ثم الرد على أدلة من عارض ذلك كله، وشُبَهِهِ.
أولا: نجاسة الكلب، فالخلاف فيها مشهور، بين كبار أئمة الإسلام، وليسوا نابتة، ولا يجتزئون النصوص!! غير أن الراجح أن الكلب ليس نجسا منه إلا سؤره (ريقه) وأن بقية البدن والشعر ونحوه طاهر، حيث دل الدليل على نجاسة السؤر، ولم يتجاوزه لبقية الكلب، ففي الحديث الصحيح: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبعا، وعفروه الثامنة بالتراب) فالحديث إنما قضى بنجاسة ريق الكلب الحاصل عند ولوغه في الإناء، فقط دون بقية الكلب.
وإنما دل على النجاسة أنه قال: "طهارة إناء أحدكم" والطهارة شرعا يؤمر بها من حدث أو نجس، ومعلوم أن لعاب الكلب ليس بحدث، فتعين كونه نجساً.
وقد ذهب المالكية إلى طهارة الكلب كله، جسمه وشعره وريقه، واستدلوا لذلك بقول الله تعالى: (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ)، ولم يأمر الله تعالى بغسل مواضع أسنان الكلب من الصيد، وبحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (كانت الكلاب تقبل وتدبر في المسجد في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك).
والجواب على ذلك كالآتي:
أما الآية، فإن النصوص المثبتة لنجاسة سؤر الكلب محكمة، لا يعتريها أدنى شك، لا في الثبوت ولا في الدلالة، والآية محمولة على التخفيف والعفو لعموم البلوى ومشقة الاحتراز والحرج، وهذا شائع بكثرة في الإسلام.
وأما الحديث، فنحن نسلم أصلا للقول بطهارة بدن الكلب وشعره، إذ لا دليل على نجاسة ذلك، والكلام فقط إنما هو في نجاسة ريقه، مع أن ظاهر الحديث فيه إشكال، وهو أنهم لم يكونوا يرشون حتى من بول الكلب، وهو نجس في قول عامة أهل العلم، إلا ما يروى عن ابن وهب وجماعة، ثم على تقدير سلامة ذلك، فالحديث غايته أن يحمل على الأصل، وهو ما قبل الحكم بالنجاسة، فالحكم بالنجاسة ناقل عن الأصل، فيقدم على المبقِي على الأصل، وهو الطهارة مطلقا.
فالراجح أن ريق الكلب فقط هو النجس، وما سواه طاهر.
**ثانيا: اقتناء الكلب: وهو محرم، لا يجوز إلا لسبب من الأسباب الثلاثة التي وردت بها النصوص، ففي البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ أَمْسَكَ كَلْبًا فَإِنَّهُ يَنْقُصُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ عَمَلِهِ قِيرَاطٌ إِلا كَلْبَ حَرْثٍ أَوْ مَاشِيَةٍ).
وأخرج مسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا لَيْسَ بِكَلْبِ صَيْدٍ وَلا مَاشِيَةٍ وَلا أَرْضٍ فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ قِيرَاطَانِ كُلَّ يَوْمٍ).
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي اللَّه عَنْهَا قَالَتْ: وَاعَدَ رَسُولَ اللهِ ﷺ جبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ في سَاعَةٍ أَنْ يأتِيَهُ، فَجَاءَتْ تِلْكَ السَّاعةُ وَلَمْ يأتِهِ، قَالَتْ: وَكَانَ بيَدِهِ عَصًا، فَطَرَحَهَا مِنْ يَدِهِ وَهُوَ يَقُولُ: مَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلا رُسُلُهُ!، ثُمَّ الْتَفَتَ، فَإذا جرْوُ كَلْبٍ تحْتَ سَريره، فَقالَ: مَتَى دَخَلَ هَذَا الْكَلْبُ؟ فَقُلْتُ: وَاللَّه مَا دَرَيْتُ بِهِ، فَأمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ، فَجَاءَهُ جبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقَال رَسُولُ اللَّه ﷺ: وَعَدْتَني فَجَلَسْتُ لكَ ولَم تَأتِني!فقالَ: مَنَعني الْكلْبُ الَّذِي كَانَ في بيْتِكَ، إنَّا لا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلا صورَةٌ رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه لما سأل جبرائيل: ما منعك؟ قال: إنَّ في البيت تمثالًا وكلبًا
وسترًا فيه تصاوير، فَأْمُرْ برأس التمثال أن يُقطع حتى يكون كهيئة الشجرة، وأْمُرْ بالستر أن تُتَّخذ منه وسادتان تُوطآن مُنتبذتان، وأْمُرْ بالكلب أن يُخرج، فأمر الرسول ﷺ بالكلب فأُخرج.
وهل بعد ذلك حرمان، حتى يأتي أحدهم فيبيح للمسلمين اقتناء ما يكون سببا في نقص أجرهم؟! وبهذا القدر العظيم "قيراطان"؟!
كما أخرج ابن ماجه عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( إِنَّ الْمَلائِكَةَ لا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلا صُورَةٌ ) وهو صحيح الإسناد .
وأيُّ سفهٍ هذا، أن يحرص المسلم على إيجاد ما يكون سببا في امتناع دخول الملائكة لبيته، ومنها ملائكة الرحمة؟!
أعاذنا الله تعالى من سوء الفهم والجهل.
وإنما يستثنى من ذلك كلب الصيد، وحراسة الماشية، وحراسة الزرع، ومعلوم أن حراسة الإنسان أولى وأهم، فحفظ النفس ودفع الضرر عنها أولى من الزرع والماشية، فتستثنى أيضا، فيباح الاقتناء لهذه الأسباب الثلاثة فقط، حيث ورد النص بذلك.
ثالثا: الأمر بقتل الكلاب، ثم نسخ ذلك: فعند أصحاب السنن بسند صحيح عن عبد الله بن مغفَّل عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : ( لَوْلاَ أَنَّ الكِلاَبَ أمَّةٌ مِنَ الأمَمِ لأمَرْتُ بِقَتْلِهَا فَاقْتُلُوا كُلَّ أسْوَدَ بَهِيمٍ ) .
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : أمَرَنا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِ الكِلابِ، حَتَّى إِنَّ المَرْأةَ تَقْدُمُ مِنَ البَادِيَةِ بِكَلْبِهَا فَنَقْتُلُهُ، ثُمَّ نَهَى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِهَا، وَقَالَ: ( عَلَيْكُمْ بِالأسْوَدِ البَهِيمِ ذِي النُّقْطَتَيْنِ فَإنَّهُ شَيْطَانٌ ) صحيح الإسناد.
وهذا بيِّنٌ في أن الشريعة تشدد في أمر الكلاب، وأنه لا التفات للخصال الحميدة في الكلاب في الحكم الشرعي.
قال القاضي عياض رحمه الله: "عندي أنَّ النهيَ أولاً كان نهياً عامّاً عن اقتناء جميعها، وأمر بقتل جميعها، ثم نهى عن قتل ما سوى الأسود، ومنع الاقتناء في جميعها إلا كلب صيدٍ أو زرعٍ أو ماشيةٍ". والقاضي من كبار المالكية، وهو ليس من النابتة!.
** رابعا: النهي عن ثمنه، ووصفه بأنه خبيث: ففي الصحيحين وغيرهما من حديث أَبِي جُحَيْفَةَ وأبي مسعود الأنصاري رضي الله عنهما وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ.
وفي رواية: "ثمن الكلب خبيث".
وعن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: ( نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَإِنْ جَاءَ يَطْلُبُ ثَمَنَ الْكَلْبِ فَامْلأْ كَفَّهُ تُرَابًا ) وهو صحيح الإسناد.
قال الحافظ: " ظَاهِر النَّهْي تَحْرِيم بَيْعه، وَهُوَ عَامّ فِي كُلّ كَلْب مُعَلَّمًا كَانَ أَوْ غَيْره مِمَّا يَجُوز اِقْتِنَاؤُهُ أَوْ لا يَجُوز .. وَبِذَلِكَ قَالَ الْجُمْهُور" اهـ. وهو من أئمة الإسلام، وليس من النابتة.
وقال النووي: "وَأَمَّا النَّهْي عَنْ ثَمَن الْكَلْب وَكَوْنه مِنْ شَرّ الْكَسْب وَكَوْنه خَبِيثًا فَيَدُلّ عَلَى تَحْرِيم بَيْعه، وَأَنَّهُ لا يَصِحّ بَيْعه، وَلا يَحِلّ ثَمَنه، وَلا قِيمَة عَلَى مُتْلِفه سَوَاء كَانَ مُعَلَّمًا أَمْ لا، وَسَوَاء كَانَ مِمَّا يَجُوز اِقْتِنَاؤُهُ أَمْ لا، وَبِهَذَا قَالَ جَمَاهِير الْعُلَمَاء، مِنْهُمْ أَبُو هُرَيْرَة وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ وَرَبِيعَة وَالأَوْزَاعِيّ وَالْحَكَم وَحَمَّاد وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَدَاوُد وَابْن الْمُنْذِر وَغَيْرهمْ". اهـ. وهو من أئمة الإسلام، وليس من النابتة!.
وقال ابن حزم:" وَلا يَحِلُّ بَيْعُ كَلْبٍ أَصْلا، لا كَلْبَ صَيْدٍ وَلا كَلْبَ مَاشِيَةٍ، وَلا غَيْرَهُمَا" اهـ. وهو من أئمة الإسلام، وليس من النابتة!.
الرد على ما ذكره أصحاب القول بجواز اقتناء الكلب وتكريمه ووفائه !!!
أولا: الاستدلال العجيب بوفاء الكلاب على حلها وطهارتها وجواز اقتنائها!!
فهو استدلال بديع!! فما علاقة الوفاء بالحكم الشرعي؟! أليس الحمار من أكثر الحيوانات طوعا للإنسان، وخدمة له، ومع ذلك حرم الله تعالى أكله!
أليس البقر من أشد الحيوانات نفرة من ركوبها، وعدم طواعيتها للإنسان، ومع ذلك أحل الله أكلها!
أليس الخيل مباحة عظيمة النفع، ومع ذلك فقد ذكرها الله تعالي في قصة نبي الله سليمان في معرض الذم، حتى قام نبي الله بتقطيع سُوقها، قال تعالى: (فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ -أي: الخيل- فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ) فهل هذا النص والعقوبة التي أوقعها الله على الخيل يؤخذ منها تحريم الخيل؟! قطعا لا.
كما ذكر الله تعالى في كتابه العزيز حال نملة من أفصح وأحكم ما يكون، وهي تقول: (يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) ، فهل كانت هذه الفصاحة، وتلك الحكمة سببا في إباحتها؟! قطعا لا، فقد ذهب جماهير أهل العلم إلى تحريم أكل النمل، ودليلهم نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النمل، ولا سبيل إلى أكله إلا بقتله، فدل على تحريم أكله.
وهذا الهدهد، داعية التوحيد، القائل: (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) فهل دعوته إلى التوحيد جعلته حلالا؟! قطعا لا، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله، ولا سبيل إلى أكله مباحا إلا بالقتل، فكان محرما في قول أكثر أهل العلم.
فمثل هذه النصوص كلها لا تؤخذ منها أحكام الشرع، فإن الله تعالى يذكرها لحِكَمٍ وعللٍ أخرى، ولا يتعلق بها حكم شرعي البتة، ولم يعلم في أصول الفقه أن ذكر حيوان في الكتاب أو السنة يفيد حكمًا بالحِل أو الحُرمة!!! ولم تجْرِ على هذا عادة العلماء الكبار، إنما يَخدع بها الجهالُ، ممن ينتسبون إلى العلم العوامَّ، والله المستعان.
ومراتب الأدلة معروفة معلومة عند أهل التخصص جميعا: الكتاب والسنة والإجماع والقياس .. إلخ، وليس فيها هذه الطريقة الغريبة في الاستدلال.
ومن جنس ما سبق: الاستدلال بذكر الكلب في قصة أصحاب الكهف في كتاب الله تعالى!
والجواب: أن مجرد ذكره لا يدل على حكم في ذاته، كما تقدم، وليس من طرق الشريعة أن ذكر الشيء في كتاب الله أو كلام النبي صلى الله عليه وسلم يدل على جوازه، مع أن الله تعالى ذكر الكلب في كتابه في معرض الذم، فقال تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176]، وهذا ذم وانتقاص للكلب في قول عامة المفسرين.
كما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في معرض الذم، فقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ، الَّذِي يَعُودُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَرْجِعُ فِي قَيْئِهِ).
قال الحافظ ابن حجر: (لَيْسَ لَنَا مَثَلُ اَلسَّوْءِ) أَي: لَا يَنْبَغِي لَنَا مَعْشَرَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْ نَتَّصِفَ بِصِفَةٍ ذَمِيمَةٍ يُشَابِهُنَا فِيهَا أَخَسُّ اَلْحَيَوَانَاتِ فِي أَخَسِّ أَحْوَالِهَا، قَالَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى) وَلَعَلَّ هَذَا أَبْلَغُ فِي اَلزَّجْرِ عَنْ ذَلِكَ، وَأَدَلُّ عَلَى اَلتَّحْرِيمِ مِمَّا لَوْ قَالَ مَثَلًا: "لَا تَعُودُوا فِي اَلْهِبَة". أهـ.والحافظ من أئمة المسلمين، وليس من النابتة!.
ثم في الجواب على استدلالهم باصطحاب أهل الكهف للكلب! فهل قال أحد من أهل العلم أصلا بعدم جواز اصطحاب الكلاب؟! فهذا جائز، وإنما الممنوع ما ورد به النص، جمعا للنصوص، فيجوز اصطحابه لعدم دليل تحريم ذلك، ولا يجوز إدخاله البيت إلا لحاجة لورود الدليل بذلك.
أما تصنيف ابن المزربان لكتابه: "فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب" فقد بين في صدر كتابه أن تصنيفه لهذا الكتاب كان نزولاً على اقتراح أحدهم له؛ حيث طلب منه تأليف كتاب يظهر فساد أخلاق البشر وسوء علاقاتهم ببعضهم البعض، فسعى لإعداد كتابه هذا، والذي جمع فيه كل ما وقع تحت يديه من أشعار وحكايات خاضت بهذا الأمر.
فالمؤلف، إنما أراد بذلك ذم أهل الفساد من جنس الإنسان، الذين وصموا بهذه الأخلاق القبيحة، لا أنه يذم جنس الإنسان كله، ويقدم عليه جنس الكلاب، فهذا لا يقوله عاقل!! ومازال هذا يستعمل في كلام الناس، فيقولون لمَّا يرون أهل الفساد وحياتهم الضائعة، يقولون: لحياة الكلب أنظف وأطهر من هذه الحياة! فهذا ليس ذما للجنس الإنساني، وتقديما لجنس الكلاب عليهم، إنما لسوء وفساد صنيعهم، وإلا فاباتفاق العقلاء جنس الإنسان أفضل على الإطلاق من سائر الأجناس الأخرى، فقد ميزه الله بالعقل، ثم بالتكليف، ثم إيقاع العبادات لله تعالى، والتزام شرعه، ومعلوم أن ركعة من عبد صالح أو تلاوته آيةً من كتاب الله أفضل عند الله تعالى من كلاب الأرض كلها، ولو أبى الجاهلون!! والله المستعان.
ثم ما علاقة تصنيف هذا الكتاب بحكم الكلب حيث وردت النصوص بذمه؟! أرأيت لو أن شخصا صنف كتابا في فضل الرِّبا! فهل سيكون قاضيا يوما من الدهر على نصوص تحريم الربا؟!
فالخلاصة:
- أن الكلب لا ينجس منه إلا ريقه على الأرجح من أقوال أهل العلم.
- أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب، كما أنه سبب لنقص الأجر، كل يوم قيراطان، ويستثنى من ذلك ما ورد به النص، وهو الصيد والحراسة والزرع، ولا يجوز إدخال الكلب للبيت، لمجرد اللعب والتربية بدون سبب أباحه الشرع.
- شواهد الشرع تدل على ذم الكلب في الجملة، فرِيقُهُ نجس، ويمنع دخول الملائكة في البيت، وهو سبب لانتقاص الأجر لأهل البيت، وقد نهى الشارع عن ثمنه، وأمر بقتله، ثم نسخ، وبقي الأمر بالقتل في الأسود فقط.
- أن ذكر الكلب في قصة الكهف، لا تعرض فيها لحل أو حرمة، إنما فيها جواز الاصطحاب، وهذا لا ينازع فيه أحد، لا لأن الله تعالى ذكره في قصة أصحاب الكهف، إنما لعدم ورود ما يدل على تحريم اصطحاب الكلب.
- تصنيف كتاب ابن المرزبان، ليس فيه تفضيل جنس الكلاب على جنس الإنسان، وحاشا لعالم من علماء المسلمين أن يهرِفوا بهذا البتة، إلا مبتور العقل، وإنما فيه ذم طوائف من بني الإنسان الذين تجاوزوا الحيوانات في أخلاقهم، وهؤلاء مذمومون، ولو لم يكتب ابن المرزبان كتابه!.
- المتقرر في النفس البشرية خسة الكلب، وهو مضرب المثل في السوء، وما زال الناس يتسابون أو يتشاتمون بذكر الكلب!!، فهل هؤلاء الذين كادوا يكتبون الشعر في مدح الكلب، لو قال لهم أحدٌ: أنت "كلب" على وجه المدح، فهل سيقبل ذلك؟!! وهل سيراه مدحا حقا، حيث وصفه بذلك الحيوان الوفي الكريم، الذي ذكره الله تعالى في قصة أصحاب الكهف؟! أم سيرى ذلك منتهى الإهانة والتطاول؟!
سبحانك هذا بهتان عظيم، والله تعالى المستعان، وعليه التكلان
كتبه: د. محمد بن موسى الدالي
في 4/11/1440هـ
حكم اقتناء الكلب وتربيته، مع أن الكلب وَفِيٌّ!! فلم القسوة في الحكم عليه؟!
حكم اقتناء الكلب وتربيته، مع أن الكلب وَفِيٌّ!! فلم القسوة في الحكم عليه؟! والله المستعان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد
فإن الله تعالى أحكم الحاكمين، وقوله الحق، وحكمه عدل، حكم فأوفى وقدر فقضى، ولا سبيل للعقل الإنساني أن يتجاوز النصوص بدعاوى فاسدة، وبطرق فاسدة، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
فقد شاع في الآونة الأخيرة الكلام في شأن تربية الكلاب، وأنها ليست بنجسة، ولا بأس في وجودها في البيت، وأن الكلب وفيٌّ، فكيف يعامل بهذه القسوة؟! وأن الله تعالى ذكر كلب أهل الكهف، مما يدل على فضله، وأنه قد صنف كتاب في فضل الكلاب!! وأن الذين يحرمون يجتزئون النصوص، وأنهم نابتة، لا علم لهم، مع أنهم جماهير أهل العلم!! وأنهم لم يفقهوا الروح الإنسانية في الحكم الشرعي، وأنهم بذلك ينفرون من الإسلام، وكأن من أباح أدخل غيرَ المسلمين في الإسلام!! والنتيجة الواقعة أنه خسر الحسنيين، فلا عظَّم النص، ولا أدخل غيرَ المسلمين في الإسلام بهذه المجاملات الفجَّة.
فأكتب هذا للرد على هذا الهرج، والخداع الفقهي، وأجعل الكلام في ذلك في نقاط خمسة: نجاسة الكلب، اقتناء الكلب، وامتناع الملائكة من دخول البيت الذي فيه كلب، وانتقاص الأجر باقتنائه، والاستثناء الوارد فيه، الأمر بقتل الكلاب، تحريم بيع الكلب، ووصف ثمنه بالخبيث، ثم الرد على أدلة من عارض ذلك كله، وشُبَهِهِ.
أولا: نجاسة الكلب، فالخلاف فيها مشهور، بين كبار أئمة الإسلام، وليسوا نابتة، ولا يجتزئون النصوص!! غير أن الراجح أن الكلب ليس نجسا منه إلا سؤره (ريقه) وأن بقية البدن والشعر ونحوه طاهر، حيث دل الدليل على نجاسة السؤر، ولم يتجاوزه لبقية الكلب، ففي الحديث الصحيح: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبعا، وعفروه الثامنة بالتراب) فالحديث إنما قضى بنجاسة ريق الكلب الحاصل عند ولوغه في الإناء، فقط دون بقية الكلب.
وإنما دل على النجاسة أنه قال: "طهارة إناء أحدكم" والطهارة شرعا يؤمر بها من حدث أو نجس، ومعلوم أن لعاب الكلب ليس بحدث، فتعين كونه نجساً.
وقد ذهب المالكية إلى طهارة الكلب كله، جسمه وشعره وريقه، واستدلوا لذلك بقول الله تعالى: (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ)، ولم يأمر الله تعالى بغسل مواضع أسنان الكلب من الصيد، وبحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: (كانت الكلاب تقبل وتدبر في المسجد في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك).
والجواب على ذلك كالآتي:
أما الآية، فإن النصوص المثبتة لنجاسة سؤر الكلب محكمة، لا يعتريها أدنى شك، لا في الثبوت ولا في الدلالة، والآية محمولة على التخفيف والعفو لعموم البلوى ومشقة الاحتراز والحرج، وهذا شائع بكثرة في الإسلام.
وأما الحديث، فنحن نسلم أصلا للقول بطهارة بدن الكلب وشعره، إذ لا دليل على نجاسة ذلك، والكلام فقط إنما هو في نجاسة ريقه، مع أن ظاهر الحديث فيه إشكال، وهو أنهم لم يكونوا يرشون حتى من بول الكلب، وهو نجس في قول عامة أهل العلم، إلا ما يروى عن ابن وهب وجماعة، ثم على تقدير سلامة ذلك، فالحديث غايته أن يحمل على الأصل، وهو ما قبل الحكم بالنجاسة، فالحكم بالنجاسة ناقل عن الأصل، فيقدم على المبقِي على الأصل، وهو الطهارة مطلقا.
فالراجح أن ريق الكلب فقط هو النجس، وما سواه طاهر.
**ثانيا: اقتناء الكلب: وهو محرم، لا يجوز إلا لسبب من الأسباب الثلاثة التي وردت بها النصوص، ففي البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ أَمْسَكَ كَلْبًا فَإِنَّهُ يَنْقُصُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ عَمَلِهِ قِيرَاطٌ إِلا كَلْبَ حَرْثٍ أَوْ مَاشِيَةٍ).
وأخرج مسلم من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا لَيْسَ بِكَلْبِ صَيْدٍ وَلا مَاشِيَةٍ وَلا أَرْضٍ فَإِنَّهُ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ قِيرَاطَانِ كُلَّ يَوْمٍ).
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي اللَّه عَنْهَا قَالَتْ: وَاعَدَ رَسُولَ اللهِ ﷺ جبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ في سَاعَةٍ أَنْ يأتِيَهُ، فَجَاءَتْ تِلْكَ السَّاعةُ وَلَمْ يأتِهِ، قَالَتْ: وَكَانَ بيَدِهِ عَصًا، فَطَرَحَهَا مِنْ يَدِهِ وَهُوَ يَقُولُ: مَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلا رُسُلُهُ!، ثُمَّ الْتَفَتَ، فَإذا جرْوُ كَلْبٍ تحْتَ سَريره، فَقالَ: مَتَى دَخَلَ هَذَا الْكَلْبُ؟ فَقُلْتُ: وَاللَّه مَا دَرَيْتُ بِهِ، فَأمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ، فَجَاءَهُ جبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقَال رَسُولُ اللَّه ﷺ: وَعَدْتَني فَجَلَسْتُ لكَ ولَم تَأتِني!فقالَ: مَنَعني الْكلْبُ الَّذِي كَانَ في بيْتِكَ، إنَّا لا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلا صورَةٌ رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه لما سأل جبرائيل: ما منعك؟ قال: إنَّ في البيت تمثالًا وكلبًا
وسترًا فيه تصاوير، فَأْمُرْ برأس التمثال أن يُقطع حتى يكون كهيئة الشجرة، وأْمُرْ بالستر أن تُتَّخذ منه وسادتان تُوطآن مُنتبذتان، وأْمُرْ بالكلب أن يُخرج، فأمر الرسول ﷺ بالكلب فأُخرج.
وهل بعد ذلك حرمان، حتى يأتي أحدهم فيبيح للمسلمين اقتناء ما يكون سببا في نقص أجرهم؟! وبهذا القدر العظيم "قيراطان"؟!
كما أخرج ابن ماجه عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( إِنَّ الْمَلائِكَةَ لا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلا صُورَةٌ ) وهو صحيح الإسناد .
وأيُّ سفهٍ هذا، أن يحرص المسلم على إيجاد ما يكون سببا في امتناع دخول الملائكة لبيته، ومنها ملائكة الرحمة؟!
أعاذنا الله تعالى من سوء الفهم والجهل.
وإنما يستثنى من ذلك كلب الصيد، وحراسة الماشية، وحراسة الزرع، ومعلوم أن حراسة الإنسان أولى وأهم، فحفظ النفس ودفع الضرر عنها أولى من الزرع والماشية، فتستثنى أيضا، فيباح الاقتناء لهذه الأسباب الثلاثة فقط، حيث ورد النص بذلك.
ثالثا: الأمر بقتل الكلاب، ثم نسخ ذلك: فعند أصحاب السنن بسند صحيح عن عبد الله بن مغفَّل عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال : ( لَوْلاَ أَنَّ الكِلاَبَ أمَّةٌ مِنَ الأمَمِ لأمَرْتُ بِقَتْلِهَا فَاقْتُلُوا كُلَّ أسْوَدَ بَهِيمٍ ) .
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : أمَرَنا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِ الكِلابِ، حَتَّى إِنَّ المَرْأةَ تَقْدُمُ مِنَ البَادِيَةِ بِكَلْبِهَا فَنَقْتُلُهُ، ثُمَّ نَهَى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِهَا، وَقَالَ: ( عَلَيْكُمْ بِالأسْوَدِ البَهِيمِ ذِي النُّقْطَتَيْنِ فَإنَّهُ شَيْطَانٌ ) صحيح الإسناد.
وهذا بيِّنٌ في أن الشريعة تشدد في أمر الكلاب، وأنه لا التفات للخصال الحميدة في الكلاب في الحكم الشرعي.
قال القاضي عياض رحمه الله: "عندي أنَّ النهيَ أولاً كان نهياً عامّاً عن اقتناء جميعها، وأمر بقتل جميعها، ثم نهى عن قتل ما سوى الأسود، ومنع الاقتناء في جميعها إلا كلب صيدٍ أو زرعٍ أو ماشيةٍ". والقاضي من كبار المالكية، وهو ليس من النابتة!.
** رابعا: النهي عن ثمنه، ووصفه بأنه خبيث: ففي الصحيحين وغيرهما من حديث أَبِي جُحَيْفَةَ وأبي مسعود الأنصاري رضي الله عنهما وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ.
وفي رواية: "ثمن الكلب خبيث".
وعن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: ( نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَإِنْ جَاءَ يَطْلُبُ ثَمَنَ الْكَلْبِ فَامْلأْ كَفَّهُ تُرَابًا ) وهو صحيح الإسناد.
قال الحافظ: " ظَاهِر النَّهْي تَحْرِيم بَيْعه، وَهُوَ عَامّ فِي كُلّ كَلْب مُعَلَّمًا كَانَ أَوْ غَيْره مِمَّا يَجُوز اِقْتِنَاؤُهُ أَوْ لا يَجُوز .. وَبِذَلِكَ قَالَ الْجُمْهُور" اهـ. وهو من أئمة الإسلام، وليس من النابتة.
وقال النووي: "وَأَمَّا النَّهْي عَنْ ثَمَن الْكَلْب وَكَوْنه مِنْ شَرّ الْكَسْب وَكَوْنه خَبِيثًا فَيَدُلّ عَلَى تَحْرِيم بَيْعه، وَأَنَّهُ لا يَصِحّ بَيْعه، وَلا يَحِلّ ثَمَنه، وَلا قِيمَة عَلَى مُتْلِفه سَوَاء كَانَ مُعَلَّمًا أَمْ لا، وَسَوَاء كَانَ مِمَّا يَجُوز اِقْتِنَاؤُهُ أَمْ لا، وَبِهَذَا قَالَ جَمَاهِير الْعُلَمَاء، مِنْهُمْ أَبُو هُرَيْرَة وَالْحَسَن الْبَصْرِيّ وَرَبِيعَة وَالأَوْزَاعِيّ وَالْحَكَم وَحَمَّاد وَالشَّافِعِيّ وَأَحْمَد وَدَاوُد وَابْن الْمُنْذِر وَغَيْرهمْ". اهـ. وهو من أئمة الإسلام، وليس من النابتة!.
وقال ابن حزم:" وَلا يَحِلُّ بَيْعُ كَلْبٍ أَصْلا، لا كَلْبَ صَيْدٍ وَلا كَلْبَ مَاشِيَةٍ، وَلا غَيْرَهُمَا" اهـ. وهو من أئمة الإسلام، وليس من النابتة!.
الرد على ما ذكره أصحاب القول بجواز اقتناء الكلب وتكريمه ووفائه !!!
أولا: الاستدلال العجيب بوفاء الكلاب على حلها وطهارتها وجواز اقتنائها!!
فهو استدلال بديع!! فما علاقة الوفاء بالحكم الشرعي؟! أليس الحمار من أكثر الحيوانات طوعا للإنسان، وخدمة له، ومع ذلك حرم الله تعالى أكله!
أليس البقر من أشد الحيوانات نفرة من ركوبها، وعدم طواعيتها للإنسان، ومع ذلك أحل الله أكلها!
أليس الخيل مباحة عظيمة النفع، ومع ذلك فقد ذكرها الله تعالي في قصة نبي الله سليمان في معرض الذم، حتى قام نبي الله بتقطيع سُوقها، قال تعالى: (فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ -أي: الخيل- فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ) فهل هذا النص والعقوبة التي أوقعها الله على الخيل يؤخذ منها تحريم الخيل؟! قطعا لا.
كما ذكر الله تعالى في كتابه العزيز حال نملة من أفصح وأحكم ما يكون، وهي تقول: (يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) ، فهل كانت هذه الفصاحة، وتلك الحكمة سببا في إباحتها؟! قطعا لا، فقد ذهب جماهير أهل العلم إلى تحريم أكل النمل، ودليلهم نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النمل، ولا سبيل إلى أكله إلا بقتله، فدل على تحريم أكله.
وهذا الهدهد، داعية التوحيد، القائل: (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) فهل دعوته إلى التوحيد جعلته حلالا؟! قطعا لا، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله، ولا سبيل إلى أكله مباحا إلا بالقتل، فكان محرما في قول أكثر أهل العلم.
فمثل هذه النصوص كلها لا تؤخذ منها أحكام الشرع، فإن الله تعالى يذكرها لحِكَمٍ وعللٍ أخرى، ولا يتعلق بها حكم شرعي البتة، ولم يعلم في أصول الفقه أن ذكر حيوان في الكتاب أو السنة يفيد حكمًا بالحِل أو الحُرمة!!! ولم تجْرِ على هذا عادة العلماء الكبار، إنما يَخدع بها الجهالُ، ممن ينتسبون إلى العلم العوامَّ، والله المستعان.
ومراتب الأدلة معروفة معلومة عند أهل التخصص جميعا: الكتاب والسنة والإجماع والقياس .. إلخ، وليس فيها هذه الطريقة الغريبة في الاستدلال.
ومن جنس ما سبق: الاستدلال بذكر الكلب في قصة أصحاب الكهف في كتاب الله تعالى!
والجواب: أن مجرد ذكره لا يدل على حكم في ذاته، كما تقدم، وليس من طرق الشريعة أن ذكر الشيء في كتاب الله أو كلام النبي صلى الله عليه وسلم يدل على جوازه، مع أن الله تعالى ذكر الكلب في كتابه في معرض الذم، فقال تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176]، وهذا ذم وانتقاص للكلب في قول عامة المفسرين.
كما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في معرض الذم، فقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ، الَّذِي يَعُودُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَرْجِعُ فِي قَيْئِهِ).
قال الحافظ ابن حجر: (لَيْسَ لَنَا مَثَلُ اَلسَّوْءِ) أَي: لَا يَنْبَغِي لَنَا مَعْشَرَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْ نَتَّصِفَ بِصِفَةٍ ذَمِيمَةٍ يُشَابِهُنَا فِيهَا أَخَسُّ اَلْحَيَوَانَاتِ فِي أَخَسِّ أَحْوَالِهَا، قَالَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى) وَلَعَلَّ هَذَا أَبْلَغُ فِي اَلزَّجْرِ عَنْ ذَلِكَ، وَأَدَلُّ عَلَى اَلتَّحْرِيمِ مِمَّا لَوْ قَالَ مَثَلًا: "لَا تَعُودُوا فِي اَلْهِبَة". أهـ.والحافظ من أئمة المسلمين، وليس من النابتة!.
ثم في الجواب على استدلالهم باصطحاب أهل الكهف للكلب! فهل قال أحد من أهل العلم أصلا بعدم جواز اصطحاب الكلاب؟! فهذا جائز، وإنما الممنوع ما ورد به النص، جمعا للنصوص، فيجوز اصطحابه لعدم دليل تحريم ذلك، ولا يجوز إدخاله البيت إلا لحاجة لورود الدليل بذلك.
أما تصنيف ابن المزربان لكتابه: "فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب" فقد بين في صدر كتابه أن تصنيفه لهذا الكتاب كان نزولاً على اقتراح أحدهم له؛ حيث طلب منه تأليف كتاب يظهر فساد أخلاق البشر وسوء علاقاتهم ببعضهم البعض، فسعى لإعداد كتابه هذا، والذي جمع فيه كل ما وقع تحت يديه من أشعار وحكايات خاضت بهذا الأمر.
فالمؤلف، إنما أراد بذلك ذم أهل الفساد من جنس الإنسان، الذين وصموا بهذه الأخلاق القبيحة، لا أنه يذم جنس الإنسان كله، ويقدم عليه جنس الكلاب، فهذا لا يقوله عاقل!! ومازال هذا يستعمل في كلام الناس، فيقولون لمَّا يرون أهل الفساد وحياتهم الضائعة، يقولون: لحياة الكلب أنظف وأطهر من هذه الحياة! فهذا ليس ذما للجنس الإنساني، وتقديما لجنس الكلاب عليهم، إنما لسوء وفساد صنيعهم، وإلا فاباتفاق العقلاء جنس الإنسان أفضل على الإطلاق من سائر الأجناس الأخرى، فقد ميزه الله بالعقل، ثم بالتكليف، ثم إيقاع العبادات لله تعالى، والتزام شرعه، ومعلوم أن ركعة من عبد صالح أو تلاوته آيةً من كتاب الله أفضل عند الله تعالى من كلاب الأرض كلها، ولو أبى الجاهلون!! والله المستعان.
ثم ما علاقة تصنيف هذا الكتاب بحكم الكلب حيث وردت النصوص بذمه؟! أرأيت لو أن شخصا صنف كتابا في فضل الرِّبا! فهل سيكون قاضيا يوما من الدهر على نصوص تحريم الربا؟!
فالخلاصة:
- أن الكلب لا ينجس منه إلا ريقه على الأرجح من أقوال أهل العلم.
- أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب، كما أنه سبب لنقص الأجر، كل يوم قيراطان، ويستثنى من ذلك ما ورد به النص، وهو الصيد والحراسة والزرع، ولا يجوز إدخال الكلب للبيت، لمجرد اللعب والتربية بدون سبب أباحه الشرع.
- شواهد الشرع تدل على ذم الكلب في الجملة، فرِيقُهُ نجس، ويمنع دخول الملائكة في البيت، وهو سبب لانتقاص الأجر لأهل البيت، وقد نهى الشارع عن ثمنه، وأمر بقتله، ثم نسخ، وبقي الأمر بالقتل في الأسود فقط.
- أن ذكر الكلب في قصة الكهف، لا تعرض فيها لحل أو حرمة، إنما فيها جواز الاصطحاب، وهذا لا ينازع فيه أحد، لا لأن الله تعالى ذكره في قصة أصحاب الكهف، إنما لعدم ورود ما يدل على تحريم اصطحاب الكلب.
- تصنيف كتاب ابن المرزبان، ليس فيه تفضيل جنس الكلاب على جنس الإنسان، وحاشا لعالم من علماء المسلمين أن يهرِفوا بهذا البتة، إلا مبتور العقل، وإنما فيه ذم طوائف من بني الإنسان الذين تجاوزوا الحيوانات في أخلاقهم، وهؤلاء مذمومون، ولو لم يكتب ابن المرزبان كتابه!.
- المتقرر في النفس البشرية خسة الكلب، وهو مضرب المثل في السوء، وما زال الناس يتسابون أو يتشاتمون بذكر الكلب!!، فهل هؤلاء الذين كادوا يكتبون الشعر في مدح الكلب، لو قال لهم أحدٌ: أنت "كلب" على وجه المدح، فهل سيقبل ذلك؟!! وهل سيراه مدحا حقا، حيث وصفه بذلك الحيوان الوفي الكريم، الذي ذكره الله تعالى في قصة أصحاب الكهف؟! أم سيرى ذلك منتهى الإهانة والتطاول؟!
سبحانك هذا بهتان عظيم، والله تعالى المستعان، وعليه التكلان
كتبه: د. محمد بن موسى الدالي
في 4/11/1440هـ
المادة التالية