الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد
فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِذَا رَأَيْتُمْ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ) وفي رواية: (فَلا يَمَسَّ مِنْ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا).
فهذا الحديث أصل فيمن أراد الأضحية، وأنه يمتنع عن أخذ شعره وظفره وبشره، حتى يضحي، سواء على وجه التحريم أم الكراهة، قولان لأهل العلم.
أما الحديث الثاني: فعن عائشة رضي الله عنها أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ كانَ يبعثُ بالهديِ منَ المدينةِ، فلا يجتَنبُ شيئًا مِمَّا يجتَنبُ منهُ المُحرِمُ.
وفي لفظ، قالت رضي الله عنها: (أنَا فَتَلْتُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بيَدَيَّ، ثُمَّ قَلَّدَهَا رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بيَدَيْهِ، ثُمَّ بَعَثَ بهَا مع أبِي، فَلَمْ يَحْرُمْ علَى رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ شَيءٌ أحَلَّهُ اللَّهُ له حتَّى نُحِرَ الهَدْيُ) البخاري.
فهذا مقام بين المضحِّي، وبين الحاجِّ، وهي سنة من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، غابت عن كثير من المسلمين، لا يكاد يفعلها أحد الآن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان من سنته أن يرسل هديًا، في غير العام الذي حج فيه، للبيت الحرام؛ تعظيما للبيت، وتطوعًا وصدقةً وتقربًا إلى الله تعالى.
فذهب جماعة من أهل العلم إلى إبطال العمل بحديث أم سلمة رضي الله عنها المتقدم، عملا بحديث عائشة رضي الله عنها الثاني!! وقالوا: لا يجب على من أراد الأضحية أن يمسك عن الأخذ من شعره أو ظفره أو بشرته! وأن حديث عائشة رضي الله عنها مقدم، وأن أم سلمة رضي الله عنها وَهِمَت في النقل، والله المستعان.
وعند أدنى نظر في الموضوع، لا نجد تعارضا البتة بين الحديثين، بل هذا مقام ثالث، فليس رسول الله صلى الله عليه في حديث عائشة رضي الله عنها بالمضحِّي، ولا هو بالحاجِّ، حتى يَحتجَّ مُحتَجٌّ به، ويقول: هذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل الهدي، ولا يمسك عن شيء من شعره ولا ظفره!
فنقول: هدانا الله وإياكم، التعارض يصح لو كان النبي صلى الله عليه وسلم يضحِّي، ولا يمتنع عن الأخذ من شعره .. إلخ، فيستقيم لكم الدليل.
لكن الرسول يرسل الهدي إلى مكة -وهذه سنة مهجورة مجهولة، الجهلُ بها هو الذي أوقع هؤلاء في هذا الظن الفاسد- ثم لا يمسك عن شيء مما يمسك منه المحرم؛ لأنه بكل وضوح لم يحرم، ولا أراد بها الأضحية!
وعليه، فالناس في هذا الباب أقسام ثلاثة:
الأول: الحاجُّ، متمتعا أو قارنا، وهو أعلاها، ويلزمه هديٌ لنسكه، فيمسك عن شعره وظفره وغيرهما، من لحظة إحرامه، حتى يوم العيد.
الثاني: المضحِّي، وهو غير الحاج الذي يريد الأضحية، فيمسك عن شعره وظفره وبشرته، من دخول العشر، أو من نِيَّته، لو نوى أثناء العشر، حتى يذبح.
الثالث: من يرسل الهديَ، وهو في بلده، لا يريد نسكًا، ولا أضحية، فلا يمسك عن شيء، لصراحة السنة بذلك.
تنبيه: سنة إرسال الهدي إلى البيت الحرام، ليست خاصة بالمقيم بالمدينة، ولا بمكة، ولا بوقت معين من العام، بل تشرع من كل بلد، وفي أي وقت في العام، سواء نوى الحج والعمرة أم لا.
والله الموفق
كتبه: د. محمد بن موسى الدالي
في السادس من ذي الحجة، لعام ثلاثة وأربعين وأربعمائة وألف، من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم