الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد
فإنه شاع مؤخَّرًا أن الأذنين في الوضوء، لم يثبت في شأنهما حديث صحيح، وأن كل الوارد فيه ضعيف!! وأن أكثر من روى وضوء النبي صلى الله عليه وسلم في الصحاح، لم يذكر الأذنين!
وهذا مقتضاه أن من أراد الوضوء مسح رأسه فقط، دون أذنيه!! وهو حسب علمي لم يقله أحد من الفقهاء البتة، بل أهل العلم في هذه المسألة على قولين مشهورين للفقهاء، فالجمهور على سنية مسح الأذنين، وذهب الحنابلة إلى وجوب مسحهما، وهو اختيار الشيخ ابن عثيمين وابن باز، وغيرهما من أهل العلم.
على أنه وقع نزاع أيضا من الزهري، في أن الأذنين من الوجه، وواجبُهُ الغسل، فتغسلان، لقوله صلى الله عليه وسلم: (سجد وجهي للذى خلقه وشق سمعه وبصره) فأضاف السمع إلى الوجه، كما أضاف البصر إلى الوجه، وفي هذا مناقشة.
أما أن أحدا ينفي ذلك، ويقول: إنه لم يثبت مسح الأذنين في حديث صحيح، فإن قائل هذا لو أراد أن لا حكم لهما في الوضوء، وأنه ليس من السنة مسحهما، لا ندبا، ولا وجوبا!! فذلك عجيب للغاية.
أما الأدلة، فأشهرها حديث: (الأذنان من الرأس) فقد روي من أكثر من طريق لا يخلو من علة، وهذا ما حمل الكثيرين على تضعيفه، على أن في إتيانه من أكثر من طريق -ولو ضعيفا- ما يشعر بأن له أصلا، كما أنه صح هذا الحديث نفسه عن ابن عمر رضي الله عنهما موقوفًا، صححه الدارقطني والأشبيلي، ومثل هذا لا يقال بالرأي المحض، فإن صح عن ابن عمر موقوفا، فالواجب أن يكون له حكم الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ثانيا: عَنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: (رأيتُ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم توضَّأَ، وفيه: وغَرَف غَرفةً فمسَحَ رأسَه وباطِنَ أذُنَيه وظاهِرَهما، وأدخَلَ أُصبُعَيه فيهما) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن خزيمة وهذا لفظه، قال الترمذي: حسن صحيح، وصحَّحه ابن منده، وقال عنه الشيخ الألبانيُّ: حسن صحيح، وحسَّنه الشيخ مقبل الوادعيُّ.
فهؤلاء جمعٌ من أهل الحديث، صحَّحوا هذا الحديث، فعلى تقدير وجود مَن ضعَّفه، فهو ليس أولى منهم بتقديم تضعيفه على تصحيحهم.
وأما استدلال القائل بهذا، بأن الذين وصفوا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم في الصحاح وغيرها، كعبد الله بن زيد، وعثمان وغيرهما، رضي الله عنهما، أنهم لم يذكروا إلا مسح الرأس، ولم يذكروا الأذنين!
فمن الناحية الحديثية، صح في حديث ابن عباس رضي الله عنهما السابق أنه صلى الله عليه وسلم مسح رأسه وباطن أذنيه .. ، وتلك زيادة عن طريق ثقات، مع ذكر صفة منضطبة، فتقدم على من سكت أو نفى.
كما أنه يمكن حمل الأحاديث التي ذُكِر أنه ليس فيها مسح الأذنين، فتحمل على أن الراوي اكتفى بذِكْر الرَّأس، عن ذِكر الأذنين، لما تقرر عندهم من كون الأذنين من الرأس، عملا بقول الله تعالى: (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ)، ومعلوم أنه أخذ يجرُّه من أذنه، فعبَّر بالرَّأس عن الأذن، والآية حجة الجمهور القائلين بأن الأذن من الرأس.
ويزيد مشروعية مسح الأذنين، في الوضوء، وثبوت ذلك لا محالة أن أهل العلم اختلفوا في مسح الأذنين، هل يتبعان الرأس في المسح بما بقي في اليد من ماء، أم يؤخذ لهما ماء جديد، والأرجح الأول، وأنه لا يسن أخذ ماء جديد لهما، بل يمسحان بما بقي في اليدين، مع الرأس، وهو مذهب الأحناف، وروايةٌ عن أحمد، واختاره شيخ الإسلام ابنُ تيميَّة وابن القيِّم، والشيخ ابن عثيمين رحمهم الله جميعا.
كما تنازعوا في عدد مرات مسح الأذنين، فالجمهور على أنه مرة واحدة، وذهب الشافعي إلى أنها تمسح ثلاثا، كالرأس.
فالأرجح: أن مسح الأذنين سنة، وأنه مرة واحدة، وأنه لا يؤخذ لهما ماء جديد، بل يتبعان الرأس في المسح، كما أنه لا يمسح الغضاريف من الأذنين، وقد حُكي هذا الأخير اتفاقًا.
أما القول بضعف كل الوارد في ذلك! وهو يقتضي عدم مشروعية مسحهما بالكلية، فهو محل نظر كبير، إذ يترتب عليه إبطال هذه الشعيرة من الوضوء!!!، وهو مخالف لما عليه جماهير أهل العلم، وكبار فقهاء الإسلام، من مشروعية مسح الأذنين، إما على سبيل الندب، وهو الأرجح، أو على سبيل الوجوب، وأنه لم ينقل عن أحد من أهل العلم أن قال: لا يشرع مسح الأذنين!
فلو أراد القائل حقيقة هذا المعنى، وهو عدم مشروعية مسح الأذنين مطلقا، فتلك جرأة، وعليه إعادة النظر في هذا الكلام.
والله الموفق
كتبه: د. محمد بن موسى الدالي
في 22/5/1446هـ