أقسام خروج المحِدَّة من بيتها
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
فإن الله تعالى -تعظيما لحق الزوج- أوجب على الزوجة التي توفي عنها زوجها جملة من الأحكام التي يحصل بها بيان عظم حق الزوج على زوجته، وأن على الزوجة المسلمة التي فارقها زوجها بالموت أن تظهر ما يشعر بأسفِها على فراقه، كاجتناب الزينة والعطر والثياب المزخرفة وما في معنى ذلك، وكان من جملة ما أوجبه الله تعالى عليها مكثُها في بيت الزوجية، الذي توفي زوجها وهي فيه، غير أن هذا الحكم يحتاج إلى بيان، وبيانه كالآتي:
أولا: الإحداد هو امْتِنَاعُ الْمَرْأَةِ مِنَ الزِّينَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مُدَّةً مَخْصُوصَةً فِي أَحْوَالٍ مَخْصُوصَةٍ ، ومنه امْتِنَاعُهَا مِنَ الْبَيْتُوتَةِ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهَا. حاشية ابن عابدين 2 / 616 ، والمغني 9 / 166 .
وقد ورد في هذا الباب جملة من النصوص التي توجب النظر بينها حتى يتخرج لنا تفصيل القول في المسألة، ومنها:
- عن فُرَيْعَةَ بِنْتِ مَالِكٍ رضي الله عنها أنها جَاءَتْ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ فِي طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهُ فَقَتَلُوهُ بِطَرَفِ الْقَدُومِ ، فَسَأَلْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي ، فَإِنَّ زَوْجِي لَمْ يَتْرُكْنِي فِي مَسْكَنٍ يَمْلِكُهُ وَلاَ نَفَقَةَ . قَالَتْ : فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : نَعَمْ . قَالَتْ : فَخَرَجْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي الْحُجْرَةِ ، أَوْ فِي الْمَسْجِدِ دَعَانِي ، أَوْ أَمَرَ بِي فَدُعِيتُ لَهُ ، فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَيْفَ قُلْتِ ؟ فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ ، فَقَال : "امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ" ، فَاعْتَدَّتْ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.
فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرْسَل إِلَيَّ فَسَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ ، فَأَخْبَرْتُهُ ، فَاتَّبَعَهُ وَقَضَى بِهِ. رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ.
- وأخرج مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه قال: طَلُقَتْ خَالَتِي ثَلاَثًا ، فَخَرَجَتْ تَجُذَّ نَخْلَهَا، فَلَقِيَهَا رَجُلٌ فَنَهَاهَا، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: "اخْرُجِي فَجُذِّي نَخْلَكِ ، لَعَلَّكِ أَنْ تَتَصَدَّقِي مِنْهُ أَوْ تَفْعَلِي خَيْرًا". رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ.
وَرَوَى مُجَاهِدٌ قَال: اسْتُشْهِدَ رِجَالٌ يَوْمَ أُحُدٍ ، فَجَاءَ نِسَاؤُهُمْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقُلْنَ : يَا رَسُول اللَّهِ نَسْتَوْحِشُ بِاللَّيْل، أَفَنَبِيتُ عِنْدَ إِحْدَانَا ، فَإِذَا أَصْبَحْنَا بَادَرْنَا إِلَى بُيُوتِنَا ؟ فَقَال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( تَحَدَّثْنَ عِنْدَ إِحْدَاكُنَّ ، حَتَّى إِذَا أَرَدْتُنَّ النَّوْمَ فَلْتَؤُبْ كُل وَاحِدَةٍ إِلَى بَيْتِهَا ). أخرجه عبد الرزاق في المصنف 7 / 36
سكن المحدة:
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: ذهب جمهور أهل العلم إلى أن الواجب عَلَى الْمُعْتَدَّةِ مِنْ وَفَاةٍ أَنْ تَلْزَمَ بَيْتَ الزَّوْجِيَّةِ الَّذِي كَانَتْ تَسْكُنُهُ عِنْدَمَا بَلَغَهَا نَعْيُ زَوْجِهَا .
واستدلوا لذلك بحديث فريعة بنت مالك رضي الله عنها السابق، وهو صريح في كون المعتدة تلزم البيت الذي أتاها فيه نعي زوجها.
القول الثاني: عدم وجوب ذلك، بل للمحدّة أن تعتد حيث شاءت، وهو قول الحسن الْبَصْرِيُّ وَعَطَاءٌ مِنَ التَّابِعِينَ، وهو مروي عَنْ بعض الصحابة كعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
ودليلهم أَنَّ قوله تعالى: { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا }، فهي آية مطلقة، لا إلزام فيها بسكنى ونحوه، فنسخت هذه الآيةُ الآْيَةَ الأخرى الَّتِي جَعَلَتْ عِدَّةَ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا حَوْلاً ، وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَِزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْل غَيْرَ إِخْرَاجٍ } .
غير أن السّنة صريحة في هذا الباب، فحديث فريعة رضي الله عنها صريح في وجوب لزوم المحدة بيت الزوجية، وهو ما فهمه الصحابة رضي الله عنهم كما في حديث جابر رضي الله عنه، وأيضا الأثر الذي رواه مجاهد، فهو واضح في أن النساء كن يعلمن هذا الحكم.
أما دلالة الآية على ما ذهبوا إليه فهي دلالة ظنية، والظن لا يقدم على النص الصريح.
خروج المحدة أقسام:
أولا: الأصل في المحدة عدم الخروج من بيتها، حسب ما تقدم في حديث فريعة رضي الله عنها، وهو أصل في الباب، يوجب على المرأة عدم الخروج من بيت الزوجية، للأمر به.
ثانيا: إن احتاجت المرأة المعتدة الخروج نهارا، وكان لمصلحة، جاز لها الخروج بشرط الالتزام بالتستر والاحتشام، مع اجتناب الطيب والزينة ونحوه.
قال ابن قدامة في المغني: "وللمعتدة الخروج في حوائجها سواء كانت مطلقة أو متوفى عنها، لما روى جابر قال: طلقت خالتي ثلاثًا فخرجت تجذ نخلها، فلقيها رجل فنهاها، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: اخرجي فجذي نخلك، لعلك أن تتصدقي منه أو تفعلي خيرًا .. وليس لها المبيت في غير بيتها ولا الخروج ليلاً إلا لضرورة؛ لأن الليل مظنة الفساد، بخلاف النهار فإنه مظنة قضاء الحوائج والمعاش وشراء ما يحتاج إليه". اهـ.
ويدخل في ذلك الخروج لعملها الذي لا بد لها منه، أو طالبة لدراسة أو اختبار، أو لدعوى في محكمة.
وكخروجها لمراجعة طبيب أو مستشفى، أو لوضع الحمل، أو تخرج في رفقةِ مَنْ لا تستغني عنها، كخروجها مع أمها لطبيب أو مستشفى، وذلك لقوله تعالى: ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ )، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) .
ولا يظهر مانع من خروجها في زيارة أمها أو أختها في النهار إن احتاجت لذلك؛ لما تقدم من أن النبي صلى الله عليه وسلم رخَّص للمحدات أن يجتمعن في النهار للمؤانسة فيما بينهن ويرجعن إلى بيوتهن في الليل، فعن مجاهد قال: استشهد رجال يوم أحد فجاء نساؤهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وقلن: يا رسول الله، نستوحش بالليل أفنبيت عند إحدانا، فإذا أصبحنا بادرنا إلى بيوتنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تحدثن عند إحداكن حتى إذا أردتن النوم فلتؤب كل واحدة إلى بيتها".
وليس من الحاجة الخروج للسوق، إن كانت تستغنى بمن يقوم بذلك عنها، من قريب أو سائق ونحوهما، فإن لم يوجد جاز لها الخروج لشراء ما تحتاجه، كخبز وطعام ونحوه.
ثالثا: الخروج للضرورة، وهذا إن احتاجت إليه ليلا، كالخروج لشِدَّة ألَمٍ، أو ولادة ونحوه، أو خشية سارق أو شخص يهجم على البيت، أو استوحاشها في البيت، وليس بالقرب بها من يؤنسها؛ لأنه إذا جاز الخروج نهارا للحاجة فالقياس جوازه بالليل للضرورة، ولأن عصمتها أعظم من مكثها في بيتها على تلك الحال، مع كون قواعد الشرع متقررة في كون المشقة تجلب التيسير.
أما السفر ، فإنه لا يجوز للمحدة السفر أثناء العدة لغير ضرورة باتفاق الأئمة الأربعة؛ لما في ذلك من ترك الواجب عليها وهو المبيت في بيتها دون ضرورة.
فإن اضطرت إلى السفر، فلا بأس إذن، والله تعالى أعلم.
كتبه: د.محمد بن موسى الدالي
في 4/7/1434هـ