الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد
سمعت بعضهم يقول: إن المسلم عليه أن يتبع السواد الأعظم، وهم الجماعة، ثم زعم أن أكثر الناس اليوم في العالم الإسلامي أشاعرة، وعليه فالجماعة هم الأشاعرة، فاتباعهم هو الحق، وهم السواد الأعظم!!! والله المستعان.
والجواب:
مفهوم أن الكثرة هم الحق باطل، ورد الدليل بخلافه، كتابا، وسنة، فإن الله تعالى لم يذكر الكثرة في كتابه العزيز إلا في معرض الذم والتشنيع، فقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} وقال تعالى: (وَأَكثَرُهُمُ الفَاسِقُونَ)وقال: (وَأَكثَرُهُم لاَ يَعقِلُونَ) وقال: (وَأَكثَرُهُمُ الكَافِرُونَ)وقال: (وَأَكثَرُهُم لِلحَقِّ كَارِهُون)وقال: (بَل أَكثَرُهُم لاَ يُؤمِنُونَ)وقال: (وَلَـكِنَّ أَكثَرَهُم يَجهَلُونَ)وقال: (وَلاَ تَجِدُ أَكثَرَهُم شَاكِرِينَ)وقال:(أَم تَحسَبُ أَنَّ أَكثَرَهُم يَسمَعُونَ أَو يَعقِلُونَ إِن هُم إِلَّا كَالأَنعَامِ ..)وقال: (وَمَا أَكثَرُ النَّاسِ وَلَو حَرَصتَ بِمُؤمِنِينَ)وقال: (فَأَبَى أَكثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً)وقال: (وَإنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ) كما حذر تعالى من الاغترار بالكثرة، فقال: (قُل لَّا يَسْتَوِي الْـخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْـخَبِيثِ)وغير ذلك كثير جدا.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي يأتي يوم القيامة، ومع الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي وليس معه أحد! وهذا يعني أن الجماعات العظيمة خالفوا هؤلاءِ الأنبياءَ، وهم أمم عظيمة، فهل كانوا على الحق؛ لأنهم كثرة، بينما النبي الواحد أو معه واحد كانوا على الباطل؟!!
ولو نظرت إلى الواقع لوجدت أكثر الناس خارج المساجد، وعلى غير النهج، بينما القلة في المساجد، وتلزم الدِّين، فهل كانت كثرتهم دليلا على الحق؟!
فكما ترى أن الكثرة دائما أبدا دليل على الباطل، وليست دليل الحق، في الوقت الذي جعل الله تعالى القلة هم الذين يبقون على الحق دائما، قال تعالى: (وَقَلِيلٌ مِّن عِبَادِيَ الشَّكُورُ)وقال تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وقليل ما هم)وقال تعالى: (مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنهُم)وقال تعالى: (وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ).
فاعتبار الكثرة دليلا على الحق، والقلة دليلا على الباطل تزييف وكذب ومخالفة لصريح الكتاب والسنة، والواقع أيضا.
فالجماعة التي وردت النصوص بالأمر باتباعها، وهم السواد الأعظم، هم ما كان على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم، ثم التابعون، ومن تبعهم بإحسان، فتلك الجماعة هي التي أمرنا باتباعها، ولو كانوا قلة، أما بعد التبديل والتغيير والإحداث والابتداع في دين الله تعالى -وإن كَثُر هؤلاء-سواء لأسباب سياسية في تلك الأزمنة، أو قلة العلم والجهل، واندثار أهل السنة ومحاربتهم، فمثل هذه الكثرة، وتلك الجماعة، لم يكن الله تعالى ليأمر باتباعهم البتة.
علما أن تلك الكثرة إنما نشأت في القرن الرابع الهجري، وعلى يدي أبي الحسن الأشعري رحمه الله تعالى، والذي تربى في أحضان الاعتزال لمدة أربعين عاما، يستقي الاعتزال من أصوله، حيث تربى في بيت زوج أمه، وهو أبو علي الجُبَّائي، الذي هو رأس من رؤوس الاعتزال، إلى أن تاب أبو الحسن من هذا المذهب البدعي، ومات على مذهب إمام أهل السنة والجماعة، وهو الإمام أحمد رحمه الله، وهو مذهب السلف الصالح رحمهم الله، وتملص من كل ما كان يقول، مما تمسك به أتباعه بعده.
فهل يعقل أن أمة الإسلام بدءًا برسولها صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، ومن تابعهم لمدة قرابة أربعمائة عام، لم يكونوا على الحق، ولم يكونوا الجماعةَ، حتى يأتي رجل تربى في بيت بدعة، ليقود الناس إلى الجماعة، وإلى الحق، حتى يُزعم أنهم أهل السنة الجماعة؟!!
وماذا كان أهل تلك الأربعمائة عام، وفيهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والقرون المفضلة الثلاثة إذن؟!!! فإن لم يكن هؤلاء هم أهل السنة والجماعة، والمقصود اتباعهم، فمن القوم إذن؟!
والله لا يقول ذلك إلا مجنون، مطموس العقل والبصيرة، أضل الله تعالى سعيه في الدنيا والآخرة.
أيعقل أن يقال: لمن يزعم أن الله تعالى ليس داخل العالم ولا خارجه، ولا فوق ولا تحت، ولا يمين ولا شمال، ولا قدام ولا وراء، ولا متصل بالعالم، ولا منفصل عنه، وأنه تعالى وتجبر ليس له مكان، وهو في الوقت نفسه في كل مكان، يريدون بهذا نفي علوه سبحانه، أيعقل أن يقال لهذا الهراء: إنه الحق؟!!
أيرضى مسلم أن يقال له عن إلهه وربه وخالقه ورازقه ومميته وباعثه، رب العزة والجلال هذا الهزل؟! ثم يدْعُونه إليه زاعمين أنه الحق، وأنهم -مع هذا الباطل الشنيع- هم الجماعة؟!!
فالحق ولا مرية، أن الجماعة والسواد الأعظم هم من كانوا على ماكان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، وهو ما وافق الكتاب والسنة، ولو كانوا قلة.
ولا تضر القلة، بل هي سنة الله تعالى الكونية في الحق دائما أبدا، فقد شذ الناس كلهم زمن الإمام أحمد إلا نفرا يسيرا، فكانوا هم الجماعة، وكان القضاة والفقهاء والخليفة وغيرهم كلهم على خلاف منهجه، وكان الإمام أحمد وحده هو الجماعة، ولما لم يتحملوا هذا قالوا للخليفة: يا أمير المؤمنين، أتكون أنت وقضاتك وولاتك وفقهاؤك وعلماؤك كلهم على الباطل، وأحمد وحده على الحق؟! فأنكروا ذلك إنكارا عظيما، حتى حُبس رحمه الله وضُرب وقُيِّد بالحديد، حتى أظهر الله تعالى الحق على يديه، وكانت فتنة من أعظم فتن الإسلام، خرج منها الإمام أحمد منتصرا بفضل الله تعالى، ورد الناس جميعا إلى الحق.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه لميمون بن مهران: أَتَدْرِي مَا الْجَمَاعَةُ؟! "الْجَمَاعَةُ مَا وَافَقَ الْحَقَّ وَإِنْ كُنْت وَحْدَك"، وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: "إنَّ جُمْهُورَ النَّاسِ فَارَقُوا الْجَمَاعَةَ، وَإِنَّ الْجَمَاعَةَ مَا وَافَقَ طَاعَةَ اللَّهِ تَعَالَى".
وهذا هو واقع هؤلاء الزاعمين، فقد خالفوا ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم والقرون المفضلة، وراحوا يتبعون أهل البدع، ثم لكثرتهم يزعمون أنهم هم الجماعة،
فهذا كذب وتدليس وخداع للناس، فمعيار الكثرة لم يكن يوما دليلا على الحق، وهو معيار فاسد باطل، فإن الحق ما وافق الكتاب والسنة، بغير تغيير ولا تبديل ولا إحداث ولا بدع، فتلك الجماعة، التي يجب لزومها، وفي لزومها النجاة من النار، ودخول الجنة بإذن الله تعالى.
نسأل الله تعالى أن يردنا وإياهم إلى الحق، وأن يصرف عنا الباطل وأهله، والله المستعان.
كتبه: د. محمد بن موسى الدالي
في 19/3/1443هـ