المواد / المقالات / التغريب ومشروعيته

التغريب ومشروعيته

تاريخ النشر : 24 شعبان 1443 هـ - الموافق 28 مارس 2022 م | المشاهدات : 1084
مشاركة هذه المادة ×
"التغريب ومشروعيته"

مشاركة لوسائل التواصل الاجتماعي

نسخ الرابط
 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
 فإن التغريب يطلق في اللغة على عدة معانٍ، ومن أبرز هذه المعاني أنه يطلق ويراد به النفي عن البلد والإبعاد عنها، فيقال: غُرِّب الشخص ابتعد عن وطنه فهو غريب، كما يقال: غرَّب فلان عن بلده تغريبا، ويقال: غرُبت الشمس غروبا: بعُدت وتوارت، والغَرْب البعد، يقال: دارٌ فلانٍ غَرْبةٌ، أي: بعيدة، والمُغَرِّبونَ، من دَخَلَ فيهِمْ عِرْقٌ غَريبٌ، أو من جاءوا مِنْ نَسَبٍ بَعيدٍ، والغُربة الاغتراب، تقول: تَغَرَّبَ، واغتربَ، بمعنًى، فهو غريب، والجمع الغُرَباء، واغترب فلانٌ: إذا تزوَّج إلى غير أقاربه([1]).
جاء في مقاييس اللغة: "الغُرْبة: البُعد عن الوطن، يقال: غَرَبَت الدَّار، ومن هذا الباب: غُروب الشَّمس، كأنَّه بُعْدُها عن وجه الأرض، وشَأْوٌ مُغَرَّبٌ، أي: بعيد.
قال الشاعر:
أعْهَدَكَ مِن أُولَى الشَّبيبةِ تطلبُ على دُبُرٍ هيـهاتَ شَـأْوٌ مغرَّبُ
ويقولون: "هل من مُغَرِّبةِ خَبَرٍ" يريدون خبراً أتَى من بُعد([2]).
وفي المطلع وعمدة القاري: غُرِّب أي: نُفي من البلد الذي وقعت في الجناية، يقال: غرَّب الرجل بفتح الراء، وغرَّبته وأغرِّبه: بعَّدته ونحّّيته([3]).
والناظر المتأمل في إطلاقات هذه المادة يمكن أن يردها في الجملة إلى البعد، فإنها لا تكاد تخرج عنه.
التغريب اصطلاحا:
من خلال ما ذكره الفقهاء في بيان التغريب، فإنه لا يبعد عن معناه اللغوي، وأنه يدور على إبعاد مَنْ جنايتُه تستوجب الإبعادَ عن بلده ووطنه مدةً معينةً، تحدد بسنة فيما إذا كان التغريب مكملا للحد، أو أكثر فيما إذا كان التحديد مردُّه للحاكم تعزيراً([4]).
مشروعية التغريب:
لقد قامت أدلة السنة على مشروعية التغريب في جملة من النصوص:
أولا: عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يأمر فيمن زنى ولم يحصن جلد مائة وتغريب عام، قال ابن شهاب: "وأخبرني عروة بن الزبير أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه غرَّب، ثم لم تزل تلك السنة"([5]).
ثانيا: عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما قالا: جاء أعرابي فقال يا رسول الله، اقض بيننا بكتاب الله فقام خصمه فقال: صدق اقض بيننا بكتاب الله. فقال الأعرابي: إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته، فقالوا لي: على ابنك الرجم، ففديت ابني منه بمائة من الغنم ووليدة، ثم سألت أهل العلم؟ فقالوا: إنما على ابنك جلد مائة وتغريب عام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأقضين بينكما بكتاب الله، أما الوليدة والغنم فرد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، وأما أنت يا أنيس لرجل فاغدُ على امرأة هذا فارجمها فغدا عليها أنيس فرجمها([6]).
قال ابن المنذر: "أقسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قصة العسيف أنه يقضي بكتاب الله ثم قال: " إن عليه جلد مائة وتغريب عام " وهو المبين لكتاب الله وخطب بذلك عمر على رؤوس المنابر"([7]).
ثالثا: عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خذوا عني، فقد جعل الله لهن سبيلا، الثيب بالثيب والبكر بالبكر، الثيب جلد مائة ثم رجم بالحجارة، والبكر جلد مائة ثم نفي سنة)([8]).
قال في تحفة الأحوذي: "المراد بالنفي في الحديث التغريب، وهو إخراج الزاني عن محل إقامته سنة"([9]).
الرابع: عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب وغرب، وأن أبا بكر ضرب وغرب، وأن عمر ضرب وغرب([10]).
قال الترمذي: "والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم أبو بكر وعمر وعلي وأبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وأبو ذر وغيرهم، وكذلك روي عن غير واحد من فقهاء التابعين وهو قول سفيان الثوري ومالك بن أنس وعبد الله بن المبارك والشافعي وأحمد وإسحق"([11]).
خامسا: الإجماع، فالتغريب قد فعله الخلفاء الراشدون وجمع كبير من الصحابة رضي الله عنهم، ولا يعرف لهم مخالف، فكان إجماعا([12]).
فهذه النصوص، والإجماع المحكي يبيِّن أن التغريب من العقوبات التي أوجدتها الشريعة الإسلامية، وأنها عقوبة أشبه بالعقوبة المعنوية، وذلك أنه يُراعى فيها نفس الجاني، وتعلقه بأهله وداره ووطنه، وما يصيبه بإبعاده عنهن من انكسار نفس، وألم فراق، واستيحاش بالوحدة بدار لا يعرف فيها أحداً، وربما لا يتكلم بلغتهم، وهو أبلغ في تحصيل المقصود، وهذا أمر مجرَّب، وقد قرن الله مفارقة الوطن بالقتل لشدته على النفس، فقال: ] وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ [ النساء-66.
جاء في التشريع الجنائي لعبد القادر عودة:
"التغريب يعتبر عقوبة تكميلية بالنسبة لعقوبة الجلد، وله في نظرنا علتان:
الأولى: التمهيد لنسيان الجريمة بأسرع ما يمكن, وهذا يقتضي إبعاد المجرم عن مسرح الجريمة, أما بقاؤه بين ظهراني الجماعة فإنه يحيي ذكرى الجريمة ويحول دون نسيانها بسهولة.
الثانية: أن إبعاد المجرم عن مسرح الجريمة يجنبه مضايقات كثيرة لابد أن يلقاها إذا لم يبعد، وقد تصل هذه المضايقان إلى حد قطع الرزق، وقد لا تزيد على حد المهانة والتحقير، فالإبعاد يهيئ للجاني أن يحيا من جديد حياة كريمة.
وظاهر مما سبق أن التغريب -وإن كان عقوبة- إلا أنه شرع لمصلحة الجاني أولاً ولصالح الجماعة ثانياً، والمُشاهَد حتى في عصرنا الحالي الذي انعدم فيه الحياء أن كثيرين ممن تصيبهم معرة الزنا يهجرون موطن الجريمة مختارين لينأوا بأنفسهم عن الذلة والمهانة التي تصيبهم في هذا المكان."([13]).
فائدة:
جاء في شرح الشيخ ابن جبرين على أخصر المختصرات الآتي:
"والتغريب أن يُبعد عن وطنه وأن ينفى إلى وطن بعيد؛ والحكمة في ذلك أن يفقد من كان يعرفه، ويبتعد عن الأماكن التي فيها فساد؛ لأنه قد يكون في بلده يعرف بيوت دعارة، ويعرف مجتمعات فاسدة، ويعرف أمكنة خنا ونحو ذلك، فمن عقوبته أن يغرب إلى بلد لا يعرف فيها شيئا، ولا يتمكن فيها من أن يتصل بأحد من أهل الفساد وأهل الشر، ويبتعد عن بلده التي عرف فيها أشرارا، فلعله إذا رجع وإذا هو قد تأثر، لكن في هذه الأزمنة قد تكون الغربة سببا في زيادة شره؛ لأنه قد يغرب إلى بلد أشد فوضى، فكثير من البلاد إسلامية وغير إسلامية الزنى فيها أكثر من بعض، فإذا غرب إليها فإنه قد يعجبه ذلك ويسر به، ويقول: الآن تمكنت مما أريد، النساء فيها كثير والمرأة تبذل نفسها بدون إكراه، فيكون تغريبه زيادة في إفساده؛ فلذلك يرى بعض المشايخ أن بدل النفي السجن، فيدخل في السِّجن لمدة سنة .. فإذا سجن وضيق عليه فلعله يتأثر، ويبتعد عن الأماكن التي فيها فساد"([14]).
فالصحيح أن التغريب جزءٌ من الحد فيما إذا كان الجاني زانيا، فيجب التغريب إلى وطن غير وطنه -كما تقدم- يحصل فيه مقصود الشارع، لكن إن كان خروجه إلى بلد بحيث يُنتفى عنه ما قصده الشارع، فالأظهر أن حبسه سنةً أولى، وهو يحقِّق ما أراده الشرع من هذه العقوبة.
والله الموفق
كتبه: د.محمد بن موسى الدالي
في 15/3/1430هـ
*********
([1]) لسان العرب مادة: (غ ر ب)، والقاموس المحيط نفس المادة، والمصباح المنير (نفس المادة)، والصحاح في اللغة (نفس المادة)، وغريب الحديث لابن الجوزي 2/149.
([2]) مقاييس اللغة مادة: (غ ر ب).
([3]) عمدة القاري 13/272، والمطلع 1/371.
([4]) انظر: حاشية ابن عابدين 3/ 147، وحاشية الدسوقي 4/ 322، وأسنى المطالب 4/ 130، وكشاف القناع 6/ 92.
([5]) أخرجه البخاري في الحدود / باب البكران يجلدان وينفيان .. (6329).
([6]) أخرجه البخاري في الصلح / باب إذا اصطلحوا على صلح جور .. (2498)، ومسلم في الحدود / باب من اعترف على نفسه بالزنا (3210).
([7]) سبل السلام 1/ 188.
([8]) أخرجه مسلم في الحدود / باب حد الزنا (3200).
([9]) تحفة الأحوذي 4 / 591.
([10]) أخرجه الترمذي في الحدود / باب ما جاء في النفي (1358)، وصححه الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل 8 / 11.
([11]) سنن الترمذي حديث (266).
([12]) المغني 10/ 129، والشرح الكبير 10/ 167، والمبدع 9/ 320، والدراري المضيئة 1/ 351.
([13]) التشريع الجنائي الإسلامي 1/640
([14]) مجموعة دروس صوتية، رقم الدرس (79).
 

التعليقات (0)

×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف