فقد قال (قوله في الرسالة فإن المسح على الجوارب في الجمله ملحق بالمسح علي الخفين) اقول الائمه الاربعه علي عدم الالحاق وهو الراجح فأين صفات الخف الموجودة في الجوري حتي يصح القياس وقوله (وهو مروي عن جمع من الصحابه رضي الله عنههم) اقول كلها لاتصح وقوله ( فالحكم ثابت للتسويه بين الخفين وبين الجوارب ) اقول اين الدليل على التسويه فإن الخف ينعل ويمشي به الإنسان في الطرقات ويسافر به أما الجورب فلا يصلح للمشي لانه يتخرق سريعا ولا يحمي القدمين من النجاسات والأحجار وقوله ( لافرق بينهما إلا في ماده الصنع ) هذا الكلام مخالف للواقع وقوله ،( وقد ثبت المسح علي التساخين وللفائف وغيرها ) اقول كلها أسانيد ضعيفة وقوله ( فمتي شابه الجورب الخفين من حيث تماسكه على القدم ومن حيث صورته ) اقول لا وجه للشبه بينهما اصلا وقد تركت عدة جمل لم تعلق عليها وما ذكرته فيه الكفاية.
هذا كل ما ذكره الأخ، والجواب:
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد
فقد وردتني هذه الرسالة من أحد الأفاضل يعترض على مشروعية المسح على الجوارب، فشكر الله له، وكتب أجره، وجمعنا وإياه وإياكم على حبه وطاعته، وبعد
وإن كنت لا أكثر من الرد على مثل هذا، واكتفي ببيان رأي في المسألة، وأتدين لله تعالى بها، ومن خالف له كامل الحق، لكن لأهمية المسألة، أجيبه وفقه الله تعالى:
فقوله: "اقول الائمه الاربعه علي عدم الالحاق وهو الراجح" هذا من أعجب العجب، فلو كلف نفسه البحث في كتب الفقه، لوجد الأربعة وأتباعهم على مشروعية المسح على الجوارب بشروط، ولم يخالف إلا أبو حنيفة رحمه الله، ثم رجع عن ذلك قبل موته، وهذا صريح جدا في كتب الأئمة الأربعة، فلعل أخانا الباحث يدقق جيدا في البحث إن شاء الله تعالى.
قال معقبا على قولي: (وهو مروي عن جمع من الصحابى رضي الله عنهم)قال: كلها لا تصح.
والجواب: بداية صح المسح على الجوربين من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، من حديث المغيرة رضي الله عنه، قال فيه الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن حبان أيضا، كما أن الشيخ الألباني أيضا من المعاصرين صححه.وهذا الحديث إن صح كان قاطعا للنزاع في المسألة، وليس علينا أن نبحث بعده في آثار الصحابة المنقولة؛ لأن الأصل بلا شك متابعة الصحابة رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فسواء كان الواصل إلينا صحيحا أم ضعيفا، فلا يضر.
لذا قال بمشروعية المسح على الجوارب جموع من أهل العلم، كسفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق، ورجع إليه أبو حنيفة في آخر عمره، واختاره شيخ الإسلام وابن القيم رحمهما الله، واختاره أكثر المعاصرين من أهل العلم.
ومن أهل العلم من خالف، وضعَّف الحديث، والبحث في هذا الحديث جارٍ لا يتوقف، بين مصحح ومضعف، فالجزم بأحد القولين والحال كذلك تحكُّمٌ.
وقوله وفقه الله: "أما كون الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم ضعيفة"!!
فهذا على رأيه هو، ففي المقابل ذَهَبَ جمع من أهل العلم الثقات إلى تصحيحها، كالشيخ أحمد شاكر، وهو شيخ المحدثين المعاصرين، والشيخ الألباني، وارتضاها ابن القيم رحمه الله تعالى، كما في تهذيب السنن.
قال أبو داود رحمه الله: «ومَسَحَ على الجوربين: عليُّ بنُ أبي طالبٍ، وابنُ مسعودٍ، والبراءُ بنُ عازبٍ، وأنسُ بنُ مالكٍ، وأبو أُمامةَ، وسهلُ بنُ سعدٍ، وعمرُو بنُ حُرَيْثٍ، ورُوِيَ ذلك عن عُمَرَ بنِ الخطَّاب وابنِ عبَّاسٍ» اهـ.
أقول: وفي المقابل لم يُنقل عن أحد منهم عدم المسح أو الامتناع عن المسح على الجوارب، فيكون إجماعًا بين الصحابة رضي الله عنهم، كما هو متقرِّر.
فقول الأخ الباحث لا يعدو -مع كامل الاحترام- أن يكون رأيًا له هو في تضعيف تلك الآثار، بعيدا عن المسألة من الناحية الفقهية، ونظر الفقيه فيها.
ثم اعترض على قولي: ( فالحكم ثابت للتسوية بين الخفين وبين الجوارب ).فقال الباحث: اقول اين الدليل على التسويه فإن الخف ينعل ويمشي به الإنسان في الطرقات ويسافر به أما الجورب فلا يصلح للمشي لانه يتخرق سريعا ولا يحمي القدمين من النجاسات والأحجار.
والجواب: ليس في شواهد الشرع أن المسح على الخفين ثبت من أجل أنه يمكن المشي به في الطرقات أو السفر به، أو أنه لا يتقطع أولا يتخرق، أو لأنه يحمي القدمين من النجاسات، فمن أين للأخ الباحث أن هذه المعاني، ثم هل هي فروق مؤثرة في الحكم، حتى يقال بناء عليها الخف ليس كالجورب؟!
فصنيع الباحث وفقه الله من جملة اشتراط شروطا ليس من الشرع، وكل شرط ليس من الكتاب أو السنة فهو باطل، ولو كان مائة شرط.
ويقال له: ماذا تقول لو استفتاك شخص في خفٍّ يكاد يتخرق أو يتشقق أو يتلف في غضون شهر مثلا، فهل ستنهاه عن المسح عليه؛ لأنه سيتقطع أو سيتخرق؟! وتخالف بذلك نصوص الشرع الواضحة الجلية في مشروعية المسح على الخفين، دون أي قيد مما ذكرتَ.
وماذا لو استفتاه شخص وقال له: عندي جوارب قوية جدا، أقوى من الجلد بكثير، لا تتخرق ولا تتقطع، وتقي القدم من النجاسات كما زعمت، ويمكن المشي فيها، فهل يشرع لي المسح عليها؟ فما جوابه؟!! هل سيمنعه أيضا لمجرد أنها جوارب، أم سيبيح له المسح، ويخالف أصوله؟!
ثم اعترض وفقه الله على قولي: ( فمتي شابه الجورب الخفين من حيث تماسكه على القدم ومن حيث صورته ) فقال: "اقول لا وجه للشبه بينهما اصلا"
والجواب: المراد بالشبه بينهما، ليس من حيث اللون أو الصنعة، إنما من حيث أنَّ ما يحصل بالجورب هو عين ما يحصل بالخف، وليس المراد المشابهة من حيث الصنعة، فإن فَهِم هذا فهو قصور، والله المستعان، ولذلك مسح أنس رضي الله عنه عَلَى جَوْرَبَيْنِ مِنْ صُوفٍ؛ فقيل له: "أَتَمْسَحُ عَلَيْهِمَا؟" فَقَالَ: "إِنَّهُمَا خُفَّانِ، وَلَكِنَّهُمَا مِنْ صُوفٍ"وصححه الشيخ أحمد شاكر، وروي نظيره عن ابن عمر رضي الله عنهما، وعن عطاء وغيرهم.
ففهموا المشابهة بمعناها الصحيح، وهو أنه يحصل بتغطية القدم بالصوف، ما يحصل بتغطيته بالجلد.
وأخيرا، يحسن التنبيه على مسألة مهمة، على الأخ الباحث أن يعيها جيدا:
أنه عند التأمل بنظر فقهي في مشروعية المسح على الخفين، فإنه لا تكاد تعرف له علة مناسبة، إلا إنه اسمه "خُف" أو أنه من جلد!! أو أن هذا مشروع تخفيفا ورفعا للحرج لمن ستر قدمه، ويكون التخفيف من جنس تخفيف مسح الرأس في الوضوء.
ولا يعرف للشارع تقييد الحكم بشيء لاسْمِهِ فقط، أو لكونه جنسا من الأجناس أو ذاتًا من الذوات لمجرَّدها، فهذا هو مفهوم اللقب، وهو من أضعف المفاهيم اللغوية أو الشرعية، كما قرره الأصوليون، ولعل الباحث يطلع على هذه المسألة ويعيها جيدا، حتى يعلم أنه ليس بين الإسلام وبين لفظ: "الخف"، أو بينه وبين الجلد خصوصية، حتى تثبت له أحكامٌ تخصُّه دون غيره! فليس في الخف معنى مناسب للحكم، مفيد لمشروعية المسح عليه، إلا كونه مغطيا للقدم وساترا لها، فرفع الله تعالى الحرج عن العباد، بأن شرع لهم في تلك الحال المسح عليه، وهذا عند أدنى نظر يستلزم التسوية بين الجلد وبين الصوف أو الكتان أو القطن ونحوه؛ لأنه لو قصر الحكمَ على الخف، المصنوع من جلد، فقد عاد لكون الحكم مناطُهُ الجلدُ، أو لفظة "خُفٌّ" وهذا واضح في عدم الاعتبار، ومعلوم أنه لا فرق بين الخف والجورب إلا إن أحدهما من الجلد والآخر من الصوف أو نحوه، ومثل هذا الفرق طرديٌّ لا أثر له في الشريعة؛ إذ الشريعة بحكمتها لا تفرق بين المتماثلين، كما لا تجمع بين المتناقضين.
ثم إن الله تعالى إن وسَّع على العباد في رخصة، ليرفع عنهم الحرج، فلا يقبل من المسلم التوسع فيها، وتمييعُها، وإجراؤُها على غير حقيقتها، كما لا يحسن بالمسلم السعي في تضييقها أو قصرها على محلها، دون دليل صحيح، بمثل تلك الشروط المرسلة التي ذكرها الباحث وغيره.
على أني في الأخير أنصح الباحث أن يكون أكثرَ متابعة لأهل العلم الكبار، متقدميهم ومتأخريهم، ولا ينفرد بمثل هذه الأقوال، اقتصارا فقط على النظر في الأسانيد، فتلك طريقة جديدة، أحدثها بعض المنشغلين المعاصرين بعلم الحديث، لا تمتُّ في الجملة للعلم بصلة.
والله الموفق
كتبه: د. محمد بن موسى الدالي
في 18/5/1444هـ