الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد
فإن ما شاع أخيرا ، من كون المعتبر في البقر والإبل -كأضحيةٍ- هو الوزن أو ارتفاع الثمن، وأنه متى بلغ الوزنُ ثلاثمائةَ كيلو أو أكثر، أو كان سعرها كذا وكذا، فإنه يغني عن بلوغ السن!!
فهذا قول ساقط، لا يتصل بالعلم، لا من قريب ولا من بعيد، ولا دليل عليه من الشرع، وليس هو معنى النصوص كما زعموا!!
فقد أمر الشارع ألا يذبح في الأضحية -ويُلحق بها هديُ المتعةِ والقرانِ- لا يذبح إلا مُسِنَّة، فعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تذبحوا إلا مُسِنَّة إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن) فجعل السِّنَّ شرطا، ونهي عن ذبح ما دونه، وهو في الضأن ستة أشهر، والغنم سنة، والبقر سنتان، والإبل خمس سنوات، فمن أراد الأضحية وفضْلها وأجرَها وثوابَها، لا يجزئه أن يذبح دون هذه السِّن، دون النظر البتة إلى وزنها، ولا إلى ثمنها، فهذه أوصاف لا علاقة لها بالحكم، بل إن الشارع اشترط مع ذلك السلامة من العيوب، فلو بلغت السن، ولم تسلم لا يكفي.
كما اشترط كونها من بهيمة الأنعام، فلو بلغت السِّن، وسلمت من العيوب، ولم تكن من بهيمة الأنعام، لا يكفي.
كما اشترط أن تكون في الوقت الذي حدده الشارع.
فلا تجزيء حتى تجتمع تلك الشروط الأبعة، مما يؤكد لك أن الأمر توقيفيٌّ، لا مدخل للعقل فيه البتة.
ويزيد الأمر وضوحا أن العبد لو أتى ببقرة أو عجل سمين، كثير اللحم، يزيد على سعر أمثاله الضعف والضعفين، غير أنه أعور أو أعرج، فإنه لا يجزئه -أضحيةً- باتفاق المسلمين، فلا يأتينا جاهلٌ ويقول: يجزيء، لأن العبرة بكثرة اللحم!
بينما لو أتى بشاة هزيلة قليلة اللحم، لكنها خاليةٌ من العيوب، لأجزأته باتفاق المسلمين، ولا التفات لأمر اللحم، أو الثمن، بإجماع.
وهذا يدلُّك على أنه ليس من معنى النص اعتبار اللحم، ولا الثمن، بل السلامة من العيوب شرط، بعيدا عن اللحم أو الثمن.
ولذلك فإنه لم يعتبر أحدٌ من علماء المسلمين على مرِّ الأزمان اللحمَ أو الثمنَ في إجزاء الأضحية، كما زعموا.
ويزيد الأمر وضوحًا أنه لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَن صَلَّى صَلَاتَنَا، ونَسَكَ نُسُكَنَا، فقَدْ أصَابَ النُّسُكَ، ومَن نَسَكَ قَبْلَ الصَّلَاةِ، فإنَّه لَا نُسُكَ له، فَقالَ أبو بُرْدَةَ بنُ نِيَارٍ -خَالُ البَرَاءِ-: يا رَسولَ اللَّهِ، فإنِّي نَسَكْتُ شَاتي قَبْلَ الصَّلَاةِ، وعَرَفْتُ أنَّ اليومَ يَوْمُ أكْلٍ وشُرْبٍ، وأَحْبَبْتُ أنْ تَكُونَ شَاتي أوَّلَ ما يُذْبَحُ في بَيْتِي، فَذَبَحْتُ شَاتي وتَغَدَّيْتُ قَبْلَ أنْ آتِيَ الصَّلَاةَ، قالَ: شَاتُكَ شَاةُ لَحْمٍ. قالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، فإنَّ عِنْدَنَا عَنَاقًا لَنَا، جَذَعَةً هي أحَبُّ إلَيَّ مِن شَاتَيْ لحمٍ، أفَتَجْزِي عَنِّي؟ قالَ: نَعَمْ، ولَنْ تَجْزِيَ عن أحَدٍ بَعْدَكَ.
فقد أبطل النبي صلى الله عليه وسلم كون هذا المذبوح أضحيةً لمجرِّد أن خالف في الوقت فقط، مع أنه من حيث اللحم حاصل، ولو كان الشأن في اللحم، لقال صلى الله عليه وسلم: لا بأس.
لكنه صلى الله عليه وسلم أبطله على أنه أضحيةً، وأقرَّه على أنه لحم فقط.
ثم لما سُئل صلى الله عليه وسلم عن العَنَاق، وهو ما بلغ أربعة أشهر، وأن هذا العناق أحبُّ إلى أبي بردة رضي الله عنه من شاتَيْ لحمٍ، يعني أنه كثير اللحم، أباحه له، ومَنَعَه عن غيره، إلى يوم الدين، فقال: "فلن تُجزِيَ عن أحدٍ بعدك"، فلو كان الأمر متعلقًا باللحم، لأباحه صلى الله عليه وسلم لعموم المسلمين، كتشريعٍ عام.
فليس إذن في معاني نصوص الشرع اعتبارُ اللحم أبدًا.
بل وعلى المسلم أن يعلم أن المقصود الأصلي من الأضحية، أو هدي التمتع أو القران، هو إراقة الدم على اسم الله تعالى، ففي الحديث: (ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إراقة الدم .. ) فالمقصودُ الأصلي من الأضحية والهَدْيِ، هو إراقة الدم على اسم الله تعالى، فتلك الشعيرة العظيمة يجب أن تكون خالصة لله تعالى، وعلى اسم الله تعالى، ثم لا يضرُّ لو أكلها كلها، أو تركها كلها، فاللحم وتوزيعه أو الإهداء منه أو الصدقة منه، يأتي في مراتب متأخرة من الفضل، بل لم يقم دليل واحد على فضل التوزيع أو الإهداء أو حتى الصدقة منه، إنما قام الدليل على فضل إراقة الدم على اسم الله تعالى، حتى إنه يقع عند الله تعالى بمكانٍ قبل أن يقع على الأرض!
فالله المستعان من ثلة جهلة، يأتوننا بين الحين والآخر بغرائب العلم، وينسبون للشرع، ولنصوص الشرع ما ليس فيها.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
كتبه: د. محمد بن موسى الدالي
في الرابع من ذي الحجة، لعام أربعة وأربعين وأربعمائة وألف، من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.