الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الخلق ، وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
فإنه لا بأس للحائض أن تحرم حال حيضها ، ثم لها أن تفعل سائر ما يفعله من الحاجُّ من مناسك ، غير أنها لا تطوف بالبيت، ففي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه في حجة الوداع، قال :" حتى أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس محمدَ بنَ أبي بكر فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم كيف أصنع ؟ فقال: "اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي " ، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تحرم، مع كونها نفساء، فدل على أن الحائض أو النفساء تحرم حال حيضها، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت خرجنا مع النبي صلى الله عليه و سلم ولا نرى إلا الحج، حتى إذا كنا بسرف أو قريبا منها حضت، فدخل علي النبي صلى الله عليه و سلم وأنا أبكي فقال: أنفست؟ - يعني الحيضة ? قالت: نعم قال : إن هذا شيء كتبه الله على بنات آدم فاقضي ما يقضي الحاج، غير ألا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي.
فالحائض أو النفساء لا بأس أن تحرم حال حيضها، فإن كانت حاجَّة، فلتفعل كل شيء للحج، كالوقوف بعرفة ومزدلفة والمبيت بمنى، ورمي الجمار، والسعي بين الصفا والمروة، ثم تطوف بالبيت بعد الطهر، فإن خشيت فوات الرفقة، واستمر الدم، فلها أن تتحفظ جيدا، بما يمنع نزول الدم، وتطوف على حالها بالبيت.
وإن كانت معتمرة، فستبقى على حالها، لا تصنع شيئاحتى تطهر، ثم تطوف بالبيت، ثم تسعى، ثم تقصر وتحل، ولا يشرع لها في تلك الحال أن تقدم السعي، وتنتظر الطواف، بل الترتيب واجب في العمرة.
أما مسألة الاشتراط، فإن الأصل أن من أحرم بنسك أنه يجب عليه أن يتمه، لقوله تعالى : {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196، وباتفاق أهل العلم أنه لا يجوز التحلل من النسك والخروج منه، إلا بإتمامه، إلا إن كان قد اشترط عند نسكه، فله أن يحل منه بغير شيء، فلا يلزمه الدم، ولا حلقُ رأسٍ أو تقصيرٌ، ولا يلزمه المضي فيما عجز عنه.
وعليه فهل الاشتراط مشروع بكل حال، أم هو غير مشروع أصلا، أم يشرع في حال دون حال؟
هذه ثلاثة أقوال لأهل العلم في تلك المسألة، والأظهر أنه من حيث الأصل لا يشرع لكل محرم أن يشترط، إذ إن النبي صلى الله عليه وسلم وجمهور أصحابه رضي الله عنهم حجوا واعتمروا عمرات عديدة، ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم أو أحدًا من أصحابه رضي الله عنهم اشترطوا عند النسك، مما يدل على أنه من حيث الأصل لا يسن، ولا يشرع، إلا ما ورد في قصة ضباعة بنت الزبير رضي الله عنها لما أرادت الحج وهي شاكية مريضة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "حجي واشترطي وقولي : اللهم محلي حيث حبستني، فإن لك على ربك ما استثنيت" ، لذلك كان الراجح في تلك المسألة أن الاشتراط يسن لمن خشي ألا يتم نسكه، لمرض أو خشيةَ صدٍّ عن البيت ونحوه، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وشيخنا ابن عثيمين عليه رحمة الله.
أما الحائض، فقد ذهب بعض أهل العلم إلى أنها تشترط، إن خشيت طول الحيض، ولا يظهر لي ذلك، فإن النساء كثيرات جدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته، ولم يأمر إحداهن بالاشتراط إن خشيت الحيض أو طول الحيض، لكن تحرم بحجها أو عمرتها، فإن حصل الطهر من الحيض، فالحمد لله، وتطوف وتحل، وإن لم يحصل الطهر، وخشيت فوات رفقتها، من طائرة ونحوه، فإنها تتحفظ جيدا، خشية خروج الدم في الحرم، ثم تطوف، وتتحلل.
وكونها تطوف على هذه الصفة، أهون من أن يقال: اشترطي عند الإحرام، ثم إن عجزت عن الطواف، فَحِلِّي مجانا، ولا تتمي حجك!! فإن مقتضى القول بجواز أن تشترط: أنها تحل مجانا من حجها أو عمرتها قبل تمامه!
وهذا أسوأ كثيرا مما لو طافت، مع التحفظ، وتتم حجها أو عمرتها.
وأما حديث صفية رضي الله عنها، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما علم أنها حائض، فقال: أحابستنا هي؟ وهذا معناه أنهم سيحبسون حتى الطهر، ثم الطواف، فالأمر في ذلك الزمان ميسور، ويمكنهم البقاء، أما الآن، فلا يمكن الانتظار، فهي تأشيرات وطائرة وحملات وحجيج بأعداد كبيرة يصعب جدا تأخيرهم، وغايته أن تطوف هذه الحائض على حالها، مع التحفظ من باب الضرورة، والضرورة معتبرة في كل مواضع الشريعة، ويباح بها ما لا يباح بغيرها.
وهذا القول هو اختيار شيخ الإسلام، وابن القيم، وشيخنا ابن عثيمين رحمهم الله تعالى .
وهذا مشروط بما إن كانت المرأة لا تستطيع البقاء حتى الطهر، ثم تطوف للإفاضة، فإن تيسر لها ذلك فهو واجب.
وليس للاشتراط صيغة معينة، بل كل صيغة تدل على المعنى يحصل بها المقصود، فتقول: لبيك اللهم عمرة، وإن حبسني حابس فمحِلِّي حيث حبستني، أو: إن منعني مانع فلي الحل ، ونحوه.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه: د.محمد بن موسى الدالي
في 24/10/1435هـ