حكم دخول الكافر المسجد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة
والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد
فقد اختلف الفقهاء في دخول الكافر
المسجد على قولين: -
القول الأول: جواز ذلك، وهو مذهب
أبي حنيفة([1])، والشافعي إلا في المسجد الحرام([2])، ورواية في مذهب أحمد أنه يجوز
بإذن مسلم لمصلحة، وعنه يجوز بغير إذن مسلم لمصلحة([3]).
واستدلوا بالآتي:
أولا: عن أنس بن مالكtقال: بينما نحن جلوس مع النبي rفي المسجد دخل رجل على جَمَلٍ فأناخه في المسجد، ثم
عقله، ثم قال لهم: أيكم محمَّد؟ والنبيُّ r متكئ بين ظهرانيهم، فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ، فقال له
الرجل: يا ابن عبد المطلب، فقال له النبيr: "قد أجبتك"، فقال الرجل للنبيr: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة، فلا تجد علي في نفسك، فقال: "سل
عما بدا لك"فقال: أسألك بربك ورب مَنْ قبلك، آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ ...الحديث([4]).
ووجه الدلالة: أن ذلك الرجل لم
يكن مسلما، ومع ذلك دخل المسجد بحضرة رسول الله، ولم ينكر عليه، لم يبين للصحابة
رضي الله عنهم كون هذا الأمر ممنوعا.
قال الخطابي: وفي الحديث جواز
دخول المشرك المسجد إذا كانت له فيه حاجة، مثل أن يكون له غريم في المسجد لا يخرج
إليه، ومثل أن يحاكم إلى قاضٍ، وهو في المسـجد، فإنه يجوز له دخوله لإثبات حقه،
ونحو ذلك من الأمور([5]) .
ثانيا: عن أبي هريرةt قال: بعث النبي rخيلا قبل نجد، فجاءت برجل من بني
حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي rفقال: "أطلقوا ثمامة"، فانطلق إلى نخل قريب
من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمَّدا
رسول الله([6]).
ووجه الدلالة: أن النبيr أقر الصَّحابة على ربطهم ثمامةt في المسجد، ولم ينكر عليهم، مما يدلُّ على جواز دخول غير المسلم
المسجد.
المناقشة: نوقش هذا بأن النبيr كان علم بإسلامه([7]) .
الجواب: أن هذه المناقشة متكلفة، وهي خلاف الظاهر.
ثالثا: أن أبا سفيانtدخل مسجد رسول اللهrوهو مشرك عند إقباله لتجديد العهد قبل فتح مكة([8]).
ووجه الدلالة كسابقيه .
المناقشة: نوقش هذا بأنه كان قبل نزول قوله تعالى: ]إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ[(التوبة-28)، قال ابن العربي: فمنع الله المشركين من دخول المسجد
الحرام نصًّا، ومنع من دخول سائر المساجد تعليلا بالنجاسة، ولوجوب صيانة كل مسجد
عن كل نجس، وهذا ظاهر لا خفاء به([9]).
الجواب: يجاب عن ذلك بأن السنة دلت على أن المراد
بالنجاسة هنا النجاسة المعنوية، بدليل دخول المشركين عليه في مسجدهr، وقد تقدم طرف من ذلك.
رابعا: عن ابن مسعودtقال: قدم وفد ثقيف على رسول اللهrفي رمضان، فضرب لهم قبة في المسجد، فلما أسلموا صاموا
معه، وفيه: فقالوا: يا رسول الله قوم أنجاس، فقال: "إنه ليس على الأرض من
أنجاس الناس شيء، إنما أنجاس الناس على أنفسهم"([10]) .
المناقشة: نوقش هذا الحديث بأنه ضعيف.
القول الثاني: عدم جواز ذلك، وهو
مذهب مالك([11])، واختاره المزني من الشافعية([12])
وهو المذهب عند
الحنابلة([13]).
واستدلوا بالآتي:
أولا: قوله تعالى: ]إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا
المسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا[ (التوبة-28).
ووجه الدلالة: أن المنع علل
بالنجاسة، وهي موجودة فيهم، والحرمة موجودة في كل مسجد، فتعدت العلة إلى كل موضع
محترم بالمسجدية، فتكون الآية عامة في أنهم لا يقربون مسجدا سواه؛ لعموم العلتين:
النجاسة، وحرمة المسجد([14]). المناقشة: يمكن أن تناقش الآية من وجهين:
الأول: تقدم
([15]) .
الثاني: أن الآية إنما اقتضت
النهي عن قرب المسجد الحرام، ولم تقتضِ المنع من دخول الكفار سائر المساجد([16]).
ثانيا: عن أبي موسى الأشعريtأنه وفد إلى عمرtومعه نصراني، فأعجب بخطه، فقال: قل لكاتبك هذا يقرأ لنا
كتابا، فقال: إنه لا يدخل المسجد، فقال: لِمَ، أجُنُبٌ هو؟ فقال: لا هو نصراني،
فانتهره عمرt([17]) .
ثالثا: كتب عمر بن عبد العزيز
رحمه الله: أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين، وأتبع نهيه قوله
تعالى: ]إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ[(التوبة-28) ([18]).
المناقشة: يمكن أن تناقش هذه الآثار عن الصَّحابة والتابعين بأن هذه تحمل
أما على أنه اجتهاد، أو أنه ثبت عندهم ما يحملهم على هذا الحكم؛ وذلك أن السنة
واضحة في ذلك، والمدار في الأحكام الشرعية على ما دل عليه الكتاب والسنة، وقد
تقدمت الأدلة الكافية على أن المشركين كانوا يدخلون المسجد في عهد رسول اللهrدون نكير .
التَّرجيح:
بناء على ما تقدم فالأظهر القول
الأول، وأنه يجوز دخول المشركين المساجد، سوى المسجد الحرام؛ وذلك للآتي: -
أولا: قوة أدلة هذا القول،
ووضوحها، دون معارض .
ثانيا: عدم نهوض أدلة القول
الثاني للاستدلال بها، وهي آثار عن الصَّحابة، أو التابعين، معارضة لما صح في
السنة.
ثالثا: قيام الدليل على منع
المشركين من دخول المسجد الحرام، وهو نوع استثناء، والاستثناء معيار العموم، فكأنه
قال: يدخل المشركون المساجد إلا المسجد الحرام، ويؤيد ذلك واقع الحال في العهد
النبوي، فإن الكفار كانوا يدخلون على رسول اللهr في مسجده، لم يكن يمنع ذلك، وما روي في ذلك كثير جِدًّا .
رابعا:
أن الأصل في الأمور الإباحة، ولم يقم الدليل الناقل عن هذا الأصل، فيبقى على ما هو
عليه.
والله الموفق.
كتبه: د.محمد بن موسى الدالي
في 3/5/1429هـ
([6]) أخرجه
البخاري في الصلاة/باب الاغتسال إذا أسلم وربط الأسير000(462)، ومسلم في الجهاد
والسير/باب ربط الإسير وحبسه وجواز المن عليه(1764)0
([8] ) أخرجه الطبراني في الكبير8/7،وأعله الهيثمي بالإرسال في المجمع،وفي إسناده
ابن لهيعة0مجمع الزوائد6/173 0
([10]) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار
1/13،والطبراني في الكبير17/169،وأصله في سنن ابن ماجه(1760) ،وفي إسناده محمَّد
بن إسحق وهو مدلس، وقد عنعنه، انظر:مجمع الزوائد2/28 0
(
حكم دخول الكافر المسجد الحمد لله رب العالمين، والصلاة
والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد فقد اختلف الفقهاء في دخول الكافر
المسجد على قولين: - القول الأول: جواز ذلك، وهو مذهب
أبي حنيفة([1])، والشافعي إلا في المسجد الحرام([2])، ورواية في مذهب أحمد أنه يجوز
بإذن مسلم لمصلحة، وعنه يجوز بغير إذن مسلم لمصلحة([3]). واستدلوا بالآتي: أولا: عن أنس بن مالكtقال: بينما نحن جلوس مع النبي rفي المسجد دخل رجل على جَمَلٍ فأناخه في المسجد، ثم
عقله، ثم قال لهم: أيكم محمَّد؟ والنبيُّ r متكئ بين ظهرانيهم، فقلنا: هذا الرجل الأبيض المتكئ، فقال له
الرجل: يا ابن عبد المطلب، فقال له النبيr: "قد أجبتك"، فقال الرجل للنبيr: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة، فلا تجد علي في نفسك، فقال: "سل
عما بدا لك"فقال: أسألك بربك ورب مَنْ قبلك، آلله أرسلك إلى الناس كلهم؟ ...الحديث([4]). ووجه الدلالة: أن ذلك الرجل لم
يكن مسلما، ومع ذلك دخل المسجد بحضرة رسول الله، ولم ينكر عليه، لم يبين للصحابة
رضي الله عنهم كون هذا الأمر ممنوعا. قال الخطابي: وفي الحديث جواز
دخول المشرك المسجد إذا كانت له فيه حاجة، مثل أن يكون له غريم في المسجد لا يخرج
إليه، ومثل أن يحاكم إلى قاضٍ، وهو في المسـجد، فإنه يجوز له دخوله لإثبات حقه،
ونحو ذلك من الأمور([5]) . ثانيا: عن أبي هريرةt قال: بعث النبي rخيلا قبل نجد، فجاءت برجل من بني
حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي rفقال: "أطلقوا ثمامة"، فانطلق إلى نخل قريب
من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمَّدا
رسول الله([6]). ووجه الدلالة: أن النبيr أقر الصَّحابة على ربطهم ثمامةt في المسجد، ولم ينكر عليهم، مما يدلُّ على جواز دخول غير المسلم
المسجد. المناقشة: نوقش هذا بأن النبيr كان علم بإسلامه([7]) . الجواب: أن هذه المناقشة متكلفة، وهي خلاف الظاهر. ثالثا: أن أبا سفيانtدخل مسجد رسول اللهrوهو مشرك عند إقباله لتجديد العهد قبل فتح مكة([8]). ووجه الدلالة كسابقيه . المناقشة: نوقش هذا بأنه كان قبل نزول قوله تعالى: ]إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ[(التوبة-28)، قال ابن العربي: فمنع الله المشركين من دخول المسجد
الحرام نصًّا، ومنع من دخول سائر المساجد تعليلا بالنجاسة، ولوجوب صيانة كل مسجد
عن كل نجس، وهذا ظاهر لا خفاء به([9]). الجواب: يجاب عن ذلك بأن السنة دلت على أن المراد
بالنجاسة هنا النجاسة المعنوية، بدليل دخول المشركين عليه في مسجدهr، وقد تقدم طرف من ذلك. رابعا: عن ابن مسعودtقال: قدم وفد ثقيف على رسول اللهrفي رمضان، فضرب لهم قبة في المسجد، فلما أسلموا صاموا
معه، وفيه: فقالوا: يا رسول الله قوم أنجاس، فقال: "إنه ليس على الأرض من
أنجاس الناس شيء، إنما أنجاس الناس على أنفسهم"([10]) . المناقشة: نوقش هذا الحديث بأنه ضعيف. القول الثاني: عدم جواز ذلك، وهو
مذهب مالك([11])، واختاره المزني من الشافعية([12])
وهو المذهب عند
الحنابلة([13]). واستدلوا بالآتي: أولا: قوله تعالى: ]إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا
المسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا[ (التوبة-28). ووجه الدلالة: أن المنع علل
بالنجاسة، وهي موجودة فيهم، والحرمة موجودة في كل مسجد، فتعدت العلة إلى كل موضع
محترم بالمسجدية، فتكون الآية عامة في أنهم لا يقربون مسجدا سواه؛ لعموم العلتين:
النجاسة، وحرمة المسجد([14]). المناقشة: يمكن أن تناقش الآية من وجهين: الأول: تقدم
([15]) . الثاني: أن الآية إنما اقتضت
النهي عن قرب المسجد الحرام، ولم تقتضِ المنع من دخول الكفار سائر المساجد([16]). ثانيا: عن أبي موسى الأشعريtأنه وفد إلى عمرtومعه نصراني، فأعجب بخطه، فقال: قل لكاتبك هذا يقرأ لنا
كتابا، فقال: إنه لا يدخل المسجد، فقال: لِمَ، أجُنُبٌ هو؟ فقال: لا هو نصراني،
فانتهره عمرt([17]) . ثالثا: كتب عمر بن عبد العزيز
رحمه الله: أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين، وأتبع نهيه قوله
تعالى: ]إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ[(التوبة-28) ([18]). المناقشة: يمكن أن تناقش هذه الآثار عن الصَّحابة والتابعين بأن هذه تحمل
أما على أنه اجتهاد، أو أنه ثبت عندهم ما يحملهم على هذا الحكم؛ وذلك أن السنة
واضحة في ذلك، والمدار في الأحكام الشرعية على ما دل عليه الكتاب والسنة، وقد
تقدمت الأدلة الكافية على أن المشركين كانوا يدخلون المسجد في عهد رسول اللهrدون نكير . التَّرجيح: بناء على ما تقدم فالأظهر القول
الأول، وأنه يجوز دخول المشركين المساجد، سوى المسجد الحرام؛ وذلك للآتي: - أولا: قوة أدلة هذا القول،
ووضوحها، دون معارض . ثانيا: عدم نهوض أدلة القول
الثاني للاستدلال بها، وهي آثار عن الصَّحابة، أو التابعين، معارضة لما صح في
السنة. ثالثا: قيام الدليل على منع
المشركين من دخول المسجد الحرام، وهو نوع استثناء، والاستثناء معيار العموم، فكأنه
قال: يدخل المشركون المساجد إلا المسجد الحرام، ويؤيد ذلك واقع الحال في العهد
النبوي، فإن الكفار كانوا يدخلون على رسول اللهr في مسجده، لم يكن يمنع ذلك، وما روي في ذلك كثير جِدًّا . رابعا:
أن الأصل في الأمور الإباحة، ولم يقم الدليل الناقل عن هذا الأصل، فيبقى على ما هو
عليه. والله الموفق. كتبه: د.محمد بن موسى الدالي في 3/5/1429هـ ([6]) أخرجه
البخاري في الصلاة/باب الاغتسال إذا أسلم وربط الأسير000(462)، ومسلم في الجهاد
والسير/باب ربط الإسير وحبسه وجواز المن عليه(1764)0 ([8] ) أخرجه الطبراني في الكبير8/7،وأعله الهيثمي بالإرسال في المجمع،وفي إسناده
ابن لهيعة0مجمع الزوائد6/173 0 ([10]) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار
1/13،والطبراني في الكبير17/169،وأصله في سنن ابن ماجه(1760) ،وفي إسناده محمَّد
بن إسحق وهو مدلس، وقد عنعنه، انظر:مجمع الزوائد2/28 0
التعليقات (0)