ماذا يصنع المأموم إذا صلى الإمامُ قاعدًا؟
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينامحمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد
فإن الأصل في باب الائتمام هو وجوب متابعة الإمام في كل أحواله، ومنه صلاتُه قائمًا أو قاعدًا، فقد قام الدليل على وجوب متابعته في ذلك، فإن صلى قائما صلى المأمومون قيامًا، وإن صلى قاعدا صلى المأمومون قعودًا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الإمام: (وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا أَجْمَعُونَ) رواه مسلم، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( وَإِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا وَإِذَا صَلَّى قَاعِدًا فَصَلَّوْا قُعُودًا أَجْمَعُونَ ).
فهذا من حيث الأصل ظاهرٌ جليٌّ، لكن لما جاءت النصوصُ، وفيها شيءٌ من التعارض اختلف أهل العلم في حال المأمومين، هل يصلوا قياما أم قعودا، وراء الإمام القاعد؟ ومن تلك النصوص:
حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها في الصحيحين قَالَتْ: اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَعُودُونَهُ، فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا، فَصَلُّوا بِصَلَاتِهِ قِيَامًا، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنْ اجْلِسُوا فَجَلَسُوا، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: إِنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا).
وعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ وَهُوَ قَاعِدٌ وَأَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُ النَّاسَ تَكْبِيرَهُ، فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا فَرَآنَا قِيَامًا، فَأَشَارَ إِلَيْنَا فَقَعَدْنَا فَصَلَّيْنَا بِصَلَاتِهِ قُعُودًا، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: إِنْ كِدْتُمْ آنِفًا لَتَفْعَلُونَ فِعْلَ فَارِسَ وَالرُّومِ؛ يَقُومُونَ عَلَى مُلُوكِهِمْ وَهُمْ قُعُودٌ، فَلَا تَفْعَلُوا، ائْتَمُّوا بِأَئِمَّتِكُمْ، إِنْ صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا، وَإِنْ صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا ) رواه مسلم. وهذان الحديثان يفيدان وجوب الجلوس وراء الإمام الجالس.
ومنه: ما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر في مرضه الذي توفي فيه أبا بكر رضي الله عنه أن يصلي بالناس، فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه خفةً -أي: قدرةً على الصلاة- فقام يُهادي بين رجلين، ورجلاه يخطان في الأرض، فجاء فجلس عن يسار أبي بكر، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس جالساً، وأبو بكر قائما، يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر رضي الله عنه. ففي هذا الحديث أن الناس صلوا قياما، مع أن الإمام يصلي جالسا.
ومن ثم تنازع أهل العلم في هذه المسألة:
فقيل: يجب أن يصلوا خلف الإمام جلوسا؛ عملا بالحديث الأول.
وقيل: يجب أن يصلوا قياما خلفه؛ عملا بالحديث الثاني.
وقيل: يستحب الجلوس، ولا يجب، عملا بالحديثين.
والأقرب تفصيل آخر في هذه المسألة:
فإن بدأ الصلاة جالسا، وجب على المأمومين الجلوس، وهو الذي دل عليه الحديث الأول، حيث بدأهم النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة جالسا، وألزمهم بالقعود، وشدَّد عليهم في ذلك.
وأما إن صلى الإمام قائما، ثم عرض عليه الجلوسُ، كما في قصة أبي بكر رضي الله عنه، فإنه بدأ الصلاة قائما، ثم دخل النبي صلى الله عليه وسلم وأتمَّ الصلاة جالسا، وكان إماما بدلا عن أبي بكر رضي الله عنه، فالجلوسُ عارضٌ على الصلاة، ومن ثم أتمَّ الصحابة وأبو بكر رضي الله عنهم الصلاة قياما.
ففي هذه الحال، يصلون خلف الإمام قياما، لكن لا يظهر أن هذا واجب؛ لذلك لا بأس لو جلسوا في تلك الحال، حيث قام دليل الأصل على وجوب متابعة الإمام حال جلوسه، وهو عام، وخرج عن الوجوب بقصة أبي بكر رضي الله عنه.
وبناء عليه:
فإن الإمام لو بدأ الصلاة بالمأمومين قائمًا، ثم عَرَضَ له ما يُجْلِسُهُ، من تعبٍ أو اعتلالٍ ونحوه، فإنه يجلس، ويتم المأمومون الصلاة خلفه قائمين، استحبابًا لا وجوبًا، ولا حرج عليهم في ذلك، ولو جلس أحدُهم متابعةً له، لم يكن عليه حرج.
ولو أن الإمام بدأ الصلاةَ جالسًا، فإن الواجب على المأمومين الصلاة جلوسا، فلو قام أحدُهم عمدًا مع علمه بالحكم، فإن صلاته تبطل، وإن صلى قائما وكان جاهلا بالحكم، فلا شيء عليه، وصلاته صحيحة.
تنبيه:
نص الفقهاء على أنه يستحب للإمام إن وجد من نفسه عدم قدرة على الصلاة قائما، أن ينيب من يصلي بالناس قياما، فهذا أسلم وأبعد عن النزاع في المسألة.
والله ولي التوفيق
كتبه:
د.محمد بن موسى الدالي
في 10/12/1439هـ