خزانة الفتاوى / الزكاة / تبيين المراد بمصرف الزكاة (في سبيل الله)

تبيين المراد بمصرف الزكاة (في سبيل الله)

تاريخ النشر : 1 محرم 1447 هـ - الموافق م | المشاهدات : 2413
مشاركة هذه المادة ×
"تبيين المراد بمصرف الزكاة (في سبيل الله) "

مشاركة لوسائل التواصل الاجتماعي

نسخ الرابط

تبيين المراد بمصرف الزكاة (في سبيل الله) 

  الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.

فإن الله تعالى امتن على هذه الأمة بأن أوجب عليها ما يكفل حاجة الفقراء، ويطهر نفوس وأموال الأغنياء، فأوجب على المسلمين الزكاة، تؤخذ من أغنيائهم، وترد في فقرائهم، ونص سبحانه في كتابه العزيز على أصناف ثمانية، أرادها بعينها لحِكَمٍ بالغة، وأهداف جليلة، فقال تعالى:{ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }التوبة-60، فنصَّ الله على هذه الأصناف الثمانية على وجه التفصيل، بما لا يدع مجالا لأحد أن يجتهد في إدخال صنف، أو إخراجه.

كما صُدِّرت الآية بـ" إنما " وهي أداة حصر، تفيد حصر الحكم في المذكور ونفيه عما سواه، فلا يجوز صرف الزكاة لأحد أو في وجه غير داخل في هذه الأصناف.

 

ثم تنوعت هذه الأصناف على أوجه، تارة بما يعود بالنفع على المسلم، وتارة بما يعود بالنفع على الإسلام، وتارة بما يعود بالنفع على المصلحة العامة، وكان من جملة هذه الأصناف صنف (في سبيل الله) هذا الصنف الذي وقع فيه نزاع بين أهل العلم:

فذهب جمهور الفقهاء وعامة المفسرين إلى أنه خاص بالجهاد والقتال في سبيل الله، وكل ما يعين عليه، فيعطى الغزاة ما يستعينون به على أمر الغزو من النفقة، والكسوة، والسلاح، والحمولة، وإن كانوا أغنياء.

وذهب بعض أهل العلم، وهو رواية عن أحمد وبعض الحنفية إلى التوسع في مدلوله، فأدخل فيه كل ما فيه نفع للمسلمين، من بناء المساجد والمستشفيات والمدارس والكباري والجسور ونحوه.

 

وقبل الشروع في ترجيح أحد هذين القولين، ننظر ماذا قال أهل العلم في هذا الصنف.

قال أهل العلم: سبيل الله هو الطريق الموصلة إلى الله، ويشمل جميع القرب إلى الله، إلا أنه عند الإطلاق ينصرف إلى الجهاد لكثرة استعماله فيه في القرآن، فقد ورد هذا التعبير (في سبيل الله) في أكثر من أربعين موضعا كلها في القتال والجهاد والغزو، ولم يرد في غير هذا المعني إلا في مواضع قليلة، تحمل أيضا على الجهاد، كالهجرة، فإنها نوع من الجهاد في سبيل الله.

قال تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ }البقرة154، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ }التوبة38، وقال سبحانه: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }الصف11، وغيرها كثير جدا، وكذا السنة النبوية مليئة بما يضيق عن ذكره هذا المقام المختصر.

وبهذا قال مالك والشافعي وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور وأبو عبيد وابن المنذر، واحتجوا بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : لعامل عليها، أو رجل اشتراها بماله، أو غارم، أو غاز في سبيل الله، أو مسكين تصدق عليه منها فأهدى منها لغني" أخرجه أبو داود وابن ماجه بسند صحيح.

 

كما أنه لا يضر تنازع جمهور الفقهاء فيما إذا أخرجت الزكاة في الجهاد: هل تكون للغزاة فقط أم في كل ما يعين على الجهاد، من شراء آلات الحرب والسلاح ونحوه؟ فإن هذا الخلاف لم يخرج عن كونه في الجهاد في سبيل الله.

 

أما تفسير الآية بأن المراد الحج، فقد نُقل هذا التوجيه عن بعض أهل العلم، وهو رواية عن أحمد وقول لبعض الحنفية، والجمهور على خلافه كما تقدم، معللين ذلك بأن "سبيل الله" في آية مصارف الزكاة مطلق، وهو عند الإطلاق ينصرف إلى الجهاد في سبيل الله تعالى ؛ لأن الأكثر مما ورد من ذكره في كتاب الله تعالى قصد به الجهاد، فتحمل الآية عليه.

 

فتبين بذلك أن أكثر أهل العلم على أن المراد بهذا المصرف هو الجهاد في سبيل الله، وغاية ما ورد من خلاف هو في الحج، مع كون الأكثرين على عدم دخوله، ومما يعين على فهم المراد بهذا الصنف، وأنه الجهاد في سبيل الله الآتي:

 

أولا: أن تفسيرها بغير هذا الصنف المخصوص يتنافي مع صيغة الحصر المذكورة في القرآن، فإن الله تعالى صدَّر الآية بقوله: (إنما) وهذا يفيد الحصر، فلا يصح بعد هذا الحصر أن يأتي بما يبطل مدلوله، ويقول: إن هذا من باب عطف العام على الخاص، إذ يصبح الحصر لغوا، لا فائدة له، بل يصبح عِيًّا من الكلام، ينزه كلام الله تعالى عنه.

ومن أجل أن يتضح بطلان هذا التوجيه أبيِّنه بمثال آخر: أرأيت لو قال المعلم: (إنما المكافأة لزيد وسعد وعمرو، ثم قال: ولبقية طلاب الفصل!) لو قال ذلك لاتُّهم بعدم الفصاحة والعِيِّ في الكلام، إذ كيف يأتي بصيغة حصر، ثم يتبعها بما يبطلها ويفيد العموم؟! فكان يمكنه من أول الكلام أن يقول: "المكافأة لسائر الطلاب"، أو يقول: "المكافأة لزيد وسعد وعمرو، ثم يقول: ولبقية طلاب الفصل"، ويكون هذا من باب عطف العام على الخاص، وهو سائغ في لسان العرب، فإذا كان هذا ينزَّه عنه كلام عوام المتكلمين، فكيف إذا كان المتكلم رب العالمين، الذي أنزل القرآن على أفصح المتكلمين، بلسان عربي مبين؟!

 

ثانيا: أنه لو أريد به عطف العام على الخاص، لأتى بـ "في سبيل الله" في آخر الأصناف، لكن أن يأتي بأصناف مفردة، ثم يأتي بعام، ثم يأتي بصنف آخر مفرد، مع كونه بدأ الآية بصيغة حصر!! فإن هذا يتنافى مع بلاغة القرآن.

ولذلك استدل أهل العلم على وجوب الترتيب بين أعضاء الوضوء حينما أدخل الله ممسوحا بين مغسولات، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ }المائدة6، فأمر بغسل الوجه واليدين إلى المرافق، ثم أمر بمسح الرأس، ثم أمر بغسل الرِّجْل، فأفاد هذا أن الترتيب واجب، لأنه لو لم يكن واجبا، لأمر بالمغسولات ثم الممسوحات، ولم يخالف بينها في الأمر.

هذان وجهان لفظيان.

 

ثالثا: أن هذا يترتب عليه حرمان أكثر الأصناف الأخرى، من الزكاة؛ ووجه ذلك أن المُزكِّي حينما يعلم أنه يصح أن يخرج زكاته في بناء المساجد والمستشفيات ونحوها، فإنه سيبادر لإخراجها فيها؛ لأنه أبقى وأطول وأكثر في الأجر، لبقاء نفعه لفترات طويلة، وحينئذ يترك الفقراء والمساكين والعاملين..إلخ، وفي هذا مخالفة صريحة لمقصد الشارع من نفع هذه الأصناف.

 

رابعا: أن الله تعالى شرع في دينه أبوابا كثيرة للصدقة، كالوقف والهبة والهدية والعطية ونحوه، وشرع هذا بإطلاق دون تحديد بفئات دون فئات، أو أصناف دون أصناف، مما يدل على أن المنصوص عليهم في آية الزكاة مقصودون للشارع، فلا يجوز تعديهم، أو نفي الحصر فيهم بحال.

كما أذيِّل هذا التوجيه بما جاء في قرار هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، وفيه:

 

"الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وآله وصحبه وبعد.

قد جرى اطلاع هيئة كبار العلماء في دورتها الخامسة المعقودة بمدينة الطائف بين يوم5/8/1394هـ ويوم 22/8/1394هـ على ما أعدته اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء من بحث في المراد بقول الله تعالى في آية مصارف الزكاة"وفي سبيل الله"هل المراد بذلك الغزاة في سبيل الله وما يلزم لهم، أم عام في كل وجه من وجوه الخير؟

 

وبعد دراسة البحث المعد والاطلاع على ما تضمنه من أقوال أهل العلم في هذا الصدد ? ومناقشة أدلة من فسر المراد بسبيل الله في الآية: بأنهم الغزاة وما يلزم لهم، وأدلة من توسع في المراد بالآية، ولم يحصرها في الغزاة فأدخل فيه بناء المساجد والقناطر وتعليم العلم وتعلمه وبث الدعاة والمرشدين وغير ذلك من أعمال البر- رأى أكثرية أعضاء المجلس الأخذ بقول جمهور العلماء من مفسرين ومحدِّثين وفقهاء من أن المراد بقوله تعالى"وفي سبيل الله": الغزاة المتطوعون بغزوهم، وما يلزم لهم من استعداد،وإذا لم يوجد صرفت الزكاة كلها للأصناف الأخرى، ولا يجوز صرفها في شيء من المرافق العامة إلا إذا لم يوجد لها مستحق من الفقراء والمساكين وبقية الأصناف المنصوص عليهم في الآية الكريمة.وبالله التوفيق، وصلى الله على محمد،وآله وصحبه وسلم".

والله الموفق

د.محمد بن موسى الدالي

في 15/3/1433هـ

 

 

التعليقات (0)

×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف