لا أثر للدَّيْن المؤجل في الزكاة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق، وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
اللهم ارزقنا الفقه في كتابك، وفي سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، وارزقنا اللهم العمل بهما ظاهرا وباطنا.
من المسائل المهمة في الفقه الإسلامي أثر الدَّين في وجوب الزكاة، والخلاف في هذه المسألة مفصَّل طويل، يؤول إلى قولين رئيسين:
الأول: أن الدَّين يؤثر في وجوب الزكاة، فإن كان الشخص مدينا، وله مال، انتقص من ماله بقدر دَيْنه، ثم زكَّى الباقي، وإن كان الدَّين ينقص النصاب أو يستغرقه سقطت الزكاة بالكلية.
الثاني: أن الدَّين لا يؤثر في وجوب الزكاة، إلا الدَّين الحال، والواجب على المسلم أن يزكي ماله الذي بين يديه، ولا يلتفت للدَّيْن المؤجل الذي عليه.
وبقطع النظر عن نسبة الأقوال إلى أصحابها، إلا أن الذي أردته فقط مناقشة أدلة القائلين بكون الدَّين المؤجل يؤثر في وجوب الزكاة، ومحاولة الوصول إلى قولٍ يتماشى مع أصول وقواعد الشرع.
وغاية ما استدلوا به الآتي:
أولا: ما رواه أصحاب مالك عن عمير بن عمران عن شجاع عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا كان لرجل ألف درهم , وعليه ألف درهم , فلا زكاة عليه ).
ثانيا: عن السائب بن يزيد رحمه الله قال: سمعت عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول: "هذا شهر زكاتكم, فمن كان عليه دين فليؤدِّه, حتى تخرجوا زكاة أموالكم". أخرجه مالك في الموطأ بسند صحيح، ومن طريقه الشافعي ( 1 / 237 ) والبيهقي ( 4 / 148 )، وصححه الألباني في الإرواء .
وفي رواية: "فمن كان عليه دين فليقض دينه, وليزك بقية ماله".
وقد قال ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم فلم ينكروه, فدلَّ على اتفاقهم عليه.
ثالثا: أن الصدقة إنما تجب على الغني، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ ) أخرجه البخاري ومسلم، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا إنَّمَا تَجِبُ عَلَى الأَغْنِيَاءِ، أما الفقير فلا تجب عليه الزكاة.
رابعا: أن الزكاة مواساة، ولا مواساة مع الدَّيْن، وذلك أن المدِين يعتبر فقيرا، وهذا مبنيٌّ على المحاصَّة التي يجرونها بين الدَّين وبين ماله؛ ويعلِّلون ذلك بأن هذا المال الذي بين يديه ليس مملوكا له ملكا تاما، فهو ملك ناقص، فالمدين ناقص الملك فلا تجب عليه الزكاة.
وما سوى ذلك فهي أدلة عقلية، لا تبعد عن الدليل الثالث والرابع، يأتي الجواب عنها ضمنا للاختصار.
ومناقشة هذه الأدلة كالآتي:
أولا: أما حديث ابن عمر رضي الله عنهما فكما قال أهل العلم بالحديث: لا أصل له، فهو حديث لم يثبت صحيحا، ولا ضعيفا، ولا موضوعا، والأظهر أنه مما تناقله الفقهاء في كلامهم، فيبطل الاستدلال به.
ثانيا: أما أثر عثمان رضي الله عنه فهو أثر عام، وظاهره أنه في الدَّين مطلقا، سواء كان المؤجل أم الحال، وهذا أقوى ما احتجوا به.
وأقول في الجواب عن ذلك:
هذا الأثر يتعين حملُه على الدَّين الحال، وليس المؤجل، وحمله على عموم الدَّين محضُ خطأٍ، فإنه في حال حمله على الدَّين المؤجل فإن هذا يعني أن عثمان رضي الله عنه -ذلكم الخليفة الراشد- يدعو إلى مذهبٍ جديدٍ، وهو "وجوب تعجيل الديون المؤجلة"!!
فكأنه يقول: من كان عليه دين حال أو دين مؤجل يحلُّ بعد سنة أو سنتين، فليؤده الآن، وهذا لا يمكن بحال؛ إذ هذا مخالفة صريحة لكتاب الله، ففي القرآن: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ) البقرة-282، ومخالفة صريحة ولسنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ إِلَى أَجَلٍ وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ.
وقد قام من أدلة الشرع ما يدل على جواز الاقتراض إلى أجل، دون وجود نصٍّ واحدٍ في التحذير منه، أو أنه خلاف الأولى، أو الواجب نقض الأجل، فمن أين أتى الأمر بتعجيل الديون المؤجلة؟!
ولِمَ يضيق خليفة المسلمين الراشد عثمان رضي الله عنه على المسلمين ما جعلهم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم منه في سعة؟! وحاشاه أن يفعل ذلك رضي الله تعالى عنه.
وأيضا قوله: (فليؤدِّه) يدل على أنه في الدَّين الحال حتما، إذ هذه العبارة إنما هي في دين وجب أداؤه، وهذا متعين فقط في الدَّين الحال؛ وحمل هذه العبارة على الدَّين المؤجل يوقع في المحظور السابق؛ لذا فمن عمَّم الأثر في الدَّين الحال والمؤجل جانبَ الصوابَ، وكان حمله على الدَّين الحال واجبا، ومتى كان في دينٍ حالٍّ فتقديمُه على الزكاة محلُّ تسليمٍ، لأسبقيَّة وجوبه.
وكون الصحابة رضي الله عنهم لم ينكروا يؤيِّد ما ذكرته أنه في الدَّين الحال فقط؛ إذ لو كان في الدَّين مطلقا ?الحال والمؤجل- لاستوجب إنكارَ الصحابة رضي الله عنهم، لكونه أمرا مخالفا صريحا لكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وحاشاه رضي الله تعالى عنه أن يخالف الكتاب والسنة.
ولم يُعلم على مرِّ الزمان أحدٌ قال بهذا القول، أعني وجوب أو استحباب تعجيل الديون المؤجلة.
كل هذا يحتِّم حملَ الأثر على الدَّيْن الحال.
وعلى تقدير عمومه كما زعموا ?وهو محض خطأ- فغايته نصٌّ ظنيٌّ عن صحابي جليل، مع إجماع سكوتي داخَلَه الإشكالُ السابقُ، فلا يقوى على إبطال دلالة كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجوب الزكاة في المال مطلقا، دون التفاتٍ إلى دَيْنٍ أو غيره.
ثالثا: أما كون الزكاة تجب على الأغنياء، ولا تجب على الفقراء، فهذا القول صحيح، غير أنهم قالوا هذا بناء على دمج وخلط بين الذمة والمال، فالذمة أمرها مختلف عن المال، فهي الوصف الشرعي الذي يصير به الإنسان أهلاً لما له وما عليه، أو هي الأمر الشرعي المقدر وجوده في الإنسان، الذي يقبل الإلزام والالتزام، من حقوق وضمان وواجبات، والدَّين هو لزوم حق في الذمة، فالدَّيْن الذي يثبت في الذمة، ليس هو نفس النقد أو الأموال التي اقترضها من الدائن، إنما ثبت عوضُها في ذمته، وعلى ذلك فإنه يكون متعلقا بذمة المدين، وليس بشيء من أمواله، سواء أكانت مملوكة له عند ثبوت الدَّين، أم ملكها بعد ذلك، وتكون جميع أمواله صالحة لوفاء أي دين ثبت عليه، ولا يكون الدَّين مانعا له من التصرف في أمواله بأي نوع من أنواع التصرفات.
وأين في الشرع ما يدل على ذلك التداخل بين الذمة والمال؟! ففرق كبير بين ذمة الشخص، وبين أعيان نقده وماله، فالذمة أمرُها أوسع، بخلاف أعيان المال، الذي تتعلق الحقوق به، ومن ثم أجاز الفقهاء للمحجور عليه التصرف في ذمته؛ لأنها أوسع، ولم يجوِّزون له التصرف في أعيان ماله، لتعلق الحقوق بها، مما يدل على المغايرة بينهما، فالتسوية بين الذمة والمال، والمحاصَّة بينهما، تسويةٌ بين متفارقين، متغايرين تمام المغايرة؛ إذ متعلق الزكاة المال، ومتعلق الدَّين الذِّمة.
كما أن معنى هذا القول أن المال الذي بين يديه منشغلٌ بالدَّين المؤجل، ولهذا فملكُه عليه غير تام؛ ومن ثم لم يوجبوا عليه الزكاة، ومقتضى ذلك ألا يتصرف المدِين أيضا في ماله الذي بين يديه ببيع أو شراء أو هبة أو وصية ونحوه؛ لأن هذا المالَ نفسَه تعلق به الدَّين، فلم يكن مملوكا له ملكا تاما، فيُمنع من التصرف فيه!! وهذا لازمٌ لهم بكل حال.
فإما أن يجوِّزوا له البيع والشراء والهبة من ماله لدخوله تحت ملكه، ويلزمهم إذن القول بوجوب الزكاة فيه.
وإما أن يمنعوه من هذه التصرفات بدعوى عدم تمام الملك، وهذا لن يوافقهم عليه أحد!
والخلاصة أن الدَّين المؤجل الثابت في الذمة بعد سنتين أو ثلاث، ليس هو قطعا المال الماثل الشاخص بين يديه، فالأول ?الذي في الذمة- غير متعين، بل هو شائع في أي مال، فمتى قضى دينه برئت ذمته، أما المال الذي بين يديه، فإنه يتعلق به الحق، ويتصرف فيه التصرفات المطلقة من بيع وشراء وهبة ونحوه، فالتسوية والمحاصَّة بينهما بعيدة كل البعد، مع هذا الانفكاك الكبير في الجهة.
رابعا: أما كون الزكاة تجب على وجه المواساة، فعجب لهذا!! أي الشخصين أولى بالمواساة: فقير لا يجد قوت يومه، أم مالِكٌ لعشرة ملايين، وعليه عشرة ملايين تحل بعد سنة أو سنتين، وهو يتنعم في هذه الأموال؟!
كان مقتضى الرحمة والشفقة أن يقال بأن مراعاة جانب الفقير في المواساة بكل حال هو الواجب، ومع ذلك لم تأتِ الشريعة بحكمتها وعدلها بذلك، إنما جاءت بوجوب مراعاة الجانبين: الغني والفقير، فالغني لا يُجحف بماله، والفقير لا يترك فيضيع، لكن أن تنقلب الأحوال، ويراعي صاحب الملايين والقصور الفارهة ويواسى، ولا ينظر إلى الفقير بنظرة مواساة، فالله المستعان!
ثم بعد هذه المناقشة، فلننظر في أدلة الكتاب والسنة الموجبة للزكاة، فقد فرض الله تعالى الزكاة في الأموال دون النظر لأي شئ آخر، غير ما استُثني أو خُصِّص بخطاب الشرع، كاشتراط الحول، وبلوغ النصاب، واشتراط الأعداد في زكاة بهيمة الأنعام، والسوم، واشتراط التوسيق في زكاة الزروع والثمار ونحوه، ولم يقم دليل واحد، لا من قريب أو بعيد على كون الدَّين المؤجل يؤثر سلبا أو إيجابا في وجوب الزكاة.
فالنصوص عامة، والديون في الأموال كثيرة، والتُّجَّار أكثرُ من تُؤخذ منهم الزكاة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وبعده، وأموالهم لا يمكن أن تنفك عن الدَّين، ومن ادَّعى خلاف ذلك فهو على غير بينة بأحوالهم، فإذا كان الدَّين يؤثر بهذه الصورة في وجوب الزكاة، فأين في الكتاب أو السنة ولو نصًّا واحدًا يدل على شرطية السلامة من الدَّين لوجوب الزكاة؟!
وما زال النبي صلى الله عليه وسلم يبعث عماله لأخذ الزكاة من التجار وأصحاب الأموال، ولو كان في شرع محمد صلى الله عليه وسلم أن الدَّيْن يؤثر في وجوب الزكاة، لأقام الله ولو شخصا واحدا يستفصل عن أثر الدَّيْن في الزكاة، ولم يوجد، ولا يمكن أن يترك هذا الأمر بغير بيان من الشارع مع عظيم أهميته، وعموم البلوى به.
ولماذا لم ينبه النبي صلى الله عليه وسلم ولو مرة واحدة على أن الدَّين-ولو كان مؤجلا- يجب احتسابه من المال الموجود، ثم يأخذ زكاة الباقي، أو تسقط الزكاة بالكلية، ومعلوم في قاعدة الشرع أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، والدَّين في أموال التجار ليس محتملا، بل قطعي الوجود، بل هو الأصل، فإذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستفصال، دلَّ على أنه لا أثر للدَّين في المال الموجود، وكأنه صلى الله عليه وسلم بسكوته يقول: الزكاة تجب في هذا المال مطلقا، سواء كان الشخص مدينا أم غير مدين.
ثم لو كان الدَّيْن يؤثر في الزكاة لأفضى إلى مفاسد عظيمة، أبرزها أن التاجر المسلم الغني الذي يملك من الأموال الملايين، والذي يملك السيارات الفارهة، والبيوت الفخمة، والذي يقضي هذا الصيف في قارة، وهذا في قارة، إذا كان عليه دينٌ يساوي أموالَه، أو ينقص النصابَ، يُعامل مع تلك الحال معاملة الفقير، فلا تؤخذ منه الزكاة، ومعلوم أن أكثر أموال الناس إنما هي بأيدي التجار، وإن تأملت حال غالب التجار لن تجد تاجرا غير مدين، فالدَّيْن هو الأصل المطَّرد في أموال التجار، وهذا معناه أن هذا الأموال العظيمة ستعطل عن الزكاة، ولن يزكي في هذه الحال إلا محدودو الدخلِ، غيرُ المدينين، من الموظفين وغيرهم!! وتُترك تلك الأموال العظيمة، من أموال التُّجَّار وأصحاب الأموال دون دفع زكاتها؛ ويحرم منها الفقراء، مع كونها غاية ما تتطلع إليه نفوسهم، بدعوى أن ذمة الأغنياء مشغولة بديون مؤجلة!
وفي كثير من الأحيان تكون ديونُهم أكثرَ من أموالهم الماثلة بين أيديهم، فنخشى إن طال بالناس زمان أن يوجد من يقول بجواز دفع الزكاة إليهم!
فالقول الذي أدين الله تعالى به، وأراه أبرأ لذمة المفتي، وذمة أغنياء المسلمين، وهو القول الذي أعتقد موافقته لأصول الشريعة: أن الدَّين الحالَّ فقط هو الذي يؤثر في وجوب الزكاة لكونه أسبق إلى المال من الزكاة، فتقرُّرُ وجوبِهِ أسبقُ من تقرُّرِ وجوب الزكاة، فمن ثَمَّ وجب تقديمه، أما دين مؤجل، فلا ينبغي أن يؤثر على الزكاة، لا من قريب، ولا من بعيد؛ لأن هذا المدين، إذا وجبت الزكاة في المال أدَّاها، فإذا حلَّ الدَّين المؤجل، فإن كان عنده مال أدى دينه، وإن لم يكن كان معسرا، ووجب إنظاره بنصِّ القرآن، وليس في الشرع ما يدل على أن المسلم المدِين يجب عليه أن يوفر من ماله الحال ما يؤدي به دَيْنَه بعد سنة أو أكثر أو أقل.
هذا وما كان من حقٍّ وصوابٍ فبتوفيقٍ من الله وحده، ومن كان من خطأ فمني ومن الشيطان، والله تعالى أعلم.
كتبه: د.محمد بن موسى الدالي
في 15/3/1431هـ