د.الدالي: أثر الانتقال من الحضر إلى السفر والعكس في المسح على الخفين.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
فقد قامت الأدلة الشرعية على مشروعية المسح على الخفين، سواء في الحضر والإقامة أو في السفر، من ذلك:
أولا: حديث اَلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ مَعَ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَتَوَضَّأَ, فَأَهْوَيْتُ لِأَنْزِعَ خُفَّيْهِ, فَقَالَ: (دَعْهُمَا, فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ)، فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا.أخرجه البخاري (199)، ومسلم (404).
ثانيا: حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالمسح على الخفين في غزوة تبوك ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوما وليلة للمقيم". أخرجه أحمد (22870) وصححه الألباني في إرواء الغليل 1 / 138.
قال الإمام أحمد: "هو أجود حديث في المسح على الخفين؛ لأنه في غزوة تبوك، وهي آخر غزاة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم، وهو آخر فعله". المغني 1/322 .
ثالثا: حديث صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ رضي الله عنه قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا إِذَا كُنَّا سَفْرًا أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ, إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ، وَلَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ". أخرجه أحمد (17396)، والترمذي (89)، والنسائي (126)، وابن ماجه (471)، قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وحسنه الألباني كما في إرواء الغليل 1 / 140.
رابعا: حديث شُرَيْحِ بن هَانِئٍ قال: أَتَيْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَسْأَلُهَا عن الْمَسْحِ على الْخُفَّيْنِ؟ فقالت: عَلَيْكَ بِابْنِ أبي طَالِبٍ فَسَلْهُ، فإنه كان يُسَافِرُ مع رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلْنَاهُ فقال: "جَعَلَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ لِلْمُسَافِرِ وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ". أخرجه مسلم (414).
خامسا: حديث ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً, فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَمْسَحُوا عَلَى اَلْعَصَائِبِ وَالتَّسَاخِينِ.أخرجه أحمد (21349)، وأبو داود (125)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (146).
سادسا: حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أنه بال ثم توضأ ومسح على خفيه، فقيل له: أتفعل هذا؟ فقال: نعم، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفَّيه". أخرجه البخاري (374)، ومسلم (401).
وإسلام جرير رضي الله عنه كان بعد نزول المائدة التي فيها قول الله تعالى: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ [ المائدة-6، وهي الآية التي قيل: إنها ناسخة للمسح، مع كونها عند التحقيق دالة صريحا على مشروعية المسح في القراءة الثانية: ] وأرجُلِكم [ بالكسر، معطوفا على قوله: ] بِرُؤُوسِكُمْ [. تفسير ابن كثير 3/52 ط. دار طيبة، والنشر في القراءات العشر 2/287.
وقد روى مشروعية المسح على الخفين أكثرُ من ثمانين من الصحابة رضوان الله عليهم منهم العشرة.فتح الباري 1/306 ط.دار المعرفة، وانظر: أحكام السفر في الشريعة الإسلامية (52) .
وبالنظر في هذه الأدلة نجد أن الشريعة الإسلامية اعتبرت الإقامة بالمكان وعدم الخروج منه أخفَّ في الرخصة من الانتقال والخروج عنه بالسفر، فأباحت للمقيم أن يمسح يوما وليلة، بينما المسافر يمسح ثلاثة أيام بلياليهن، تخفيفا ومراعاة لحاله في السفر، من انزعاجٍ، وعدم استقرار واضطرابٍ، وهذا مطَّرِدٌ في الشرع.
وفيما يتعلق بانتقال الشخص من بلده إلى بلد آخر، فهنا مسألتان:
الأولى: فيما إذا ابتدأ المسح مسافرا ثم أقام.
الثانية: فيما إذا ابتدأ المسح مقيما ثم سافر.
أما الأولى: وهي فيما إذا ابتدأ المسح مسافرا ثم أقام، فإن الشخص لا يخلو من حالين:
الأولى: أن يكون استكمل مدة المسح، وهي ثلاثة أيام بلياليهن.
الثانية: ألا يكون استكمل مدة المسح.
فإن كان استكمل مدة المسح نزع خُفَّيه باتفاق القائلين بالتوقيت، ولم يجُز له المسح، إلا بعد الخلع ولبسهما على طهارة.
وإن لم يكن استكملها، فله حالان:
الأولى: أن يكون قد مسح أقل من يوم وليلة.
الثانية: أن يكون قد مسح أكثر من يوم وليلة.
فإن كان أقل أتم يوما وليلة.
وإن كان استوفى اليوم والليلة، فقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أنه يجب عليه أن ينزع خفيه، وهذا هو المشهور من مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة.تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق1/51، ورد المحتار 1/ 279، والأم 1/48، ومجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر 1/ 50، ومغني المحتاج 1/204، والمغني 1/329 ، وشرح منتهى الإرادات 1/60 ط. عالم الكتب.
الأدلة:
واستدلوا بالآتي:
أولا: أن المسافر إذا أقام انقطعت أحكام السفر، وأخذ حكم الإقامة، فلا يجوز له أن يترخص برخص السفر.
ثانيا: أن المسح عبادة يختلف حكمها بالسفر والحضر، فغلب جانب الحضر، وفرعوا على ذلك أن المسافر إذا مسح أكثر من يوم وليلة لسفر، ثم نوى الإقامة في أثنائها بطلت صلاته؛ لأنه لما نوى الإقامة بطل المسح، فكانت الصلاة على غير طهارة.
القول الثاني: أنه إذا مسح المسافر أقلَّ من يومين وليلتين، ثم أقام ابتدأ مسح يوم وليلة، وإذا مسح يومين وليلتين فأكثر أتمَّها ثلاثة، وهو قول ابن حزم، ورواية عن أحمد.المحلى 2/ 109-111.
واستدل ابن حزم رحمه الله ومن وافقه بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبح المسح إلا ثلاثة أيام بلياليهن للمسافر، ويوما وليلة للمقيم، ولم يبح لأحد أن يمسح أكثر من ثلاثة أيام بلياليها لا مقيما ولا مسافرا، فالمنهيُّ عنه ابتداء المسح، لا الصلاة بالمسح المتقدم.
المناقشة:
نوقش هذا القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب للمسافر زمنا يغاير زمن المقيم، وأباح في السفر ما لم يبحه في الحضر، ومعلوم أن للسفر ابتداء وانتهاء، فابتداؤه بمفارقة عمران البلد وانتهاؤه بالإقامة، فإذا أبيح للمسافر بعد إقامته أن يمسح مسح المسافر وأن يكمل مدته، فقد جُمع له بين حكمين فرَّق الشارع بينهما، وأعطي المقيم حكم المسافر.أحكام السفر في الشريعة الإسلامية (62).
الترجيح:
يترجح القول الأول للآتي:
الأول: أن الشخص إذا أقام انقطعت عنه أحكام السفر، تغليبا لجانب الحضر؛ وإنما غلب حكم الحضر لكونه عزيمة، وحكم السفر رخصة، وإذا اجتمعت العزيمة والرخصة في عبادة غلبت العزيمة احتياطا.
الثاني: أنه إذا جاز له أن يتم المدة أخذ حكم السفر وهو مقيم، وهذا تناقض، فالشخص إما أن يكون مقيما أو مسافرا، أما أن يجمع بينهما في الأحكام فهو أمر لم يعهد في الشرع.
والله تعالى أعلم.
أما المسألة الثانية، وهو ما إذا مسح وهو مقيم ثم سافر، فإن الشخص لا يخلو من حالين:
الأولى: أن يسافر بعد استكمال مدة المسح في الإقامة، ثم يشرع في المسح بعد شروعه في السفر، فهذا يمسح ثلاثة أيام بلياليهن؛ لأنه ابتدأ المسح في السفر، فوجب أن يمسح مسح مسافر، وعليه تدل الأحاديث السابقة التي أعطت المسافر الحق في أن يمسح ثلاثة أيام بلياليهن، ولا أعلم خلافا في هذا بين القائلين بالتوقيت.
الثانية: أن يمسح وهو مقيم بعد حدث ثم يسافر، فهذا لا يخلو من حالين:
الأول: أن يكون سفره بعد تمام مدة المقيم، فله أن يبدأ المسح بعد شروعه في السفر تمام مدة مسافر، ولا أعلم في ذلك خلافا.
الثانية: أن يكون بقي في المدة شئ، أو مسح ثم سافر، فهذه المسألة وقع فيها خلاف على النحو الآتي:
القول الأول: أنه يمسح مسح مسافر، إن كان مسح أقل من يوم وليلة، فإن تجاوز هذه المدة عاد إلى الحال الأولى، وهو المشهور من مذهب الحنفية، ورواية عن أحمد، واختاره الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله.تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق1/51، والعناية شرح الهداية 1/155، ومجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر 1/49.
ووجه رواية أحمد الثانية: أنه وجد السبب الذي يستبيح به هذه المدة، قبل أن تنتهي مدة الإقامة، أما لو انتهت مدة الإقامة كأن يتم له يوم وليلة؛ ثم يسافر بعد ذلك قبل أن يمسح؛ ففي هذه الحال يجب عليه أن يخلع.
جاء في المغني: "اختلفت الرواية عن أحمد في هذه المسألة فروي عنه مثل ما ذكر الخرقي (أي: مسح مقيم) وهو قول الثوري والشافعي وإسحاق، وروي عنه أنه يمسح مسح المسافر، سواء مسح في الحضر لصلاة أو أكثر منها بعد أن تنقضي مدة المسح وهو حاضر، وهو مذهب أبي حنيفة لقوله عليه السلام ( يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن ) وهذا مسافر، ولأنه سافر قبل كمال مدة المسح، فأشبه من سافر قبل المسح بعد الحدث".
انظر: المغني 1/328 ، وانظر: حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء 1/22، ومختصر اختلاف العلماء 1/16، والشرح الممتع 1/ 252.
واستدلوا بالآتي:
أولا: النصوص التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للمسافر ثلاثة أيام بلياليهن.
ووجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق الحكم، فجعل المسافر يمسح ثلاثة أيام بلياليها، سواء ابتدأ المسح وهو مقيم أم وهو مسافر.
ثانيا: أن الغرض من الرخصة التخفيف عن المسافرين، وهو بزيادة المدة.
ثالثا: أنه حكم متعلق بالوقت، فيعتبر آخره كالصلاة، بخلاف ما إذا سافر بعد تمام المدة؛ لأن الحدث سرى إلى القَدَم والسفر لا يرفعه.
رابعا: أن المسحات عبادات لا يرتبط بعضها ببعض، ولا يفسد أولها بفساد آخرها، فاعتبر كل مسح بالحال التي وقع فيها.
خامسا: أنه يشبه ما لو أحدث ولو لم يمسح حتى سافر، فإنه يمسح تمام ثلاثة أيام ولياليهن، وإن كان ابتدأهن من حين الحدث الموجود في الحضر.شرح العمدة 1/260.
القول الثاني:
أنه يجب أن يمسح مسح مقيم مطلقا، وهو ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة في المشهور عنهم.الأم 8/ 104، وأسنى المطالب 1/100، وحاشية الجمل 1/ 141، والمغني 1/328، وشرح منتهى الإرادات 1/60.
وقد حكى النووي في المجموع تفصيلا عند الشافعية على أربعة وجوه، كالآتي:
الأول: لبس الخفَّ في الحضر وسافر قبل الحدث، فيمسح مسح مسافر.
الثاني: لبس وأحدث في الحضر، ثم سافر قبل خروج وقت الصلاة، فيمسح مسح مسافر أيضا.
الثالث: أن يحدث في الحضر ثم يسافر بعد خروج الوقت، فالصحيح من المذهب أن يمسح مسح مسافر.
الرابع: أن يحدث ويمسح في الحضر ثم يسافر قبل تمام يوم وليلة، فالمذهب أنه يتم يوما وليلة من حين أحدث.المجموع 1/488.
الأدلة:
استدل أصحاب هذا القول بالآتي:
أولا: تغليبا لجانب الحضر، فالسفر يبيحه والحضر يمنعه، فيغلب جانب الحظر احتياطا، كما لو أحرم بالصلاة في سفينة في البلد فسارت وفارقت البلد وهو في الصلاة، فإنه يتمُّها صلاة حضر بإجماع المسلمين.
المناقشة:
يناقش هذا بالفرق بين الصلاة والمسح على الخفين، بأن الصلاة إن وجبت في الحضر، فقد ثبتت في الذمة على هذا الوصف، وهو التمام، بخلاف المسح، فهو لا يثبت في الذمة، بل يتبع حكمُه حالَ الشخص، إقامةً وسفرًا، ومن ثم فلا يستقيم الاستدلال بتغليب جانب الحضر هنا؛ لأن المسح ليس حكما يثبت في الذمة، بل متى احتاج الطهارة تطهر، فإن كان في حضر مَسَح مسْح مقيم، وإن كان في سفر مَسَح مسْح مسافر.
ثانيا: أن الشخص إذا خـلع وغسل قدميه فلا شبهة في عبادته، وإن مسح ففي عبادته شبهة.
المناقشة:
يناقش هذا الدليل بأنه منهج احتياطي، بمعنى أنه نوع من الاحتياط في العبادة، وهم لم يلتزموه في خلافات عديدة، مع كون الدليل واضحا في أن المعتبر في المسح حال الشخص، من حيث السفر والإقامة.
الترجيح:
بعد النظر في أدلة هذه المسألة يترجح القول بأن من كان مقيما ثم سافر أنه يتم مسح مسافر للآتي:
أنه صدق عليه كونه مسافرا، وقد تقدمت النصوص التي تفيد كون الحكم منوطا بالسفر بإطلاق، ودون تقييد بكونه بدأ المسح في حضر أو سفر، وكونه ابتدأ المدة في حضر لا يعني ألا يعامل معاملة المسافر فيما إذا انطبق عليه وصف السفر، كمن صام في الحضر، ثم سافر فإن له الفطر، ولا يضرُّ كونُه ابتدأ الصوم في الحضر، فكذا من بدأ المسح في الحضر ثم سافر، فإنه يتم مسح مسافر.
والله تعالى أعلم
كتبه: د.محمد بن موسى الدالي
في 3/6/1432هـ
***