المواد / المقالات / الأصل جواز تقليد أصوات الطيور والحيوانات

الأصل جواز تقليد أصوات الطيور والحيوانات

تاريخ النشر : 10 شوال 1445 هـ - الموافق م | المشاهدات : 4205
مشاركة هذه المادة ×
"الأصل جواز تقليد أصوات الطيور والحيوانات"

مشاركة لوسائل التواصل الاجتماعي

نسخ الرابط

د. الدالي: الأصل جواز تقليد أصوات الطيور والحيوانات.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.

فإنه في كثير من الأحيان قد يقوم الشخص بتقليد صوت حيوان، أو طائر، كأن يقلد أسدا، أو حصانا، أو حمارا، أو غرابا، أو نحو ذلك، وقد يفعل بعضهم بهذا لمجرَّد  إضحاك الناس، وربما كان قوتا ودخلا يتكسب منه.

        بداية أقول: لقد تواترت نصوص الشريعة على النهي عن التشبه بالحيوان، وذم ذلك، سواء في العبادات، أو في غيرها، ومن ذلك الآتي: -

أولا: القُرْآن، فكل الآيات التي وردت في ذلك إنما كانت على وجه الذمِّ، ومنه الآتي:

1- قوله تعـالى: ]وَلَوْ شِئنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون[َ(الأعراف-176).

2- قوله تعالى: ]وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُون[َ(الأعراف-179).

3-قوله تعالى: ]مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا[(الجمعة-5).

ثانيا: من السنة الآتي:

1- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي r: "العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه" . أخرجه البخاري (2589)، ومسلم (1622)واللفظ للبخاري.

وفي لفظ: " ليس لنا مَثَل السوء، الذي يعود في هبته كالكلب يرجع في قيئه" أخرجه البخاري (2622).

قال ابن القيـم: وذلك لخسَّته، ودناءة نفسه، وشُـحِّه بما قاءه أن يفوته0 إعلام الموقعين3/310 .

 2- عن أبي هريرةtقال: "أوصاني خليليr بثلاث، ونهاني عن ثلاث، أوصاني بالوتر قبل النوم، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، قال: ونهاني عن الالتفات، وإقعاء كإقعاء القرد، ونقر كنقر الديك". أخرجه أحمد في المسند2/265، وحسنه الألباني كما في صفة الصلاة(131)، وإصلاح المساجد (186).

3- عن أنس بن مالكtعن النبيrقـال: "اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب". أخرجه البخاري (822)، ومسلم (493).

قال المناوي: وفيه إيماء إلى النهي عن التشبه بالحيوانات الخسيسة في الأخلاق، والصفات، وهيئة القعود. فيض القدير 1/553 .

4-عن عبد الرحمن بن شبل الأنصاريt قال: "نهى رسول الله rعن افتراش السبع، ونقرة الغراب، وأن يوطن الرجل المكان كما يوطن البعير" . أخرجه أحمد3/428، والنسائي (1100)، وأبو داود (862)، وابن ماجه (1429)، والدارمي (1289)، وابن حبان في صحيحه6/53، والبيهقي2/118، وحسنه الألباني كما في صحيح الترغيب والترهيب1/126 .

        والحكمة في النهي عن التشبه بالحيوانات أن الله تعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم وكرمه ورفع قدره ومنزلته، كما قال تعالى: ]وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ[ (الإسراء-70)والتشبه بالحيوان نزول عن هذه المنزلة الرفيعة التي أسكن الله فيها الإنسان إلى درجة النقص والمهانة والاحتقار؛ إذ الحيوانات لم يذكرها الله أو رسولهr إلا في مقام الذم، والامتهان، وجعلها الله تعالى مثلا للكافرين المعاندين لمشابهتهم لها في الضلالة وعدم العلم. التشبه المنهي عنه (175، 174) وانظر :الصلاة وحكم تاركها لابن القيم (173، 172).

وقد أوضح شيخ الإسلام أن التشبه بالبهائم من الأمور المذمومة في الشرع، منهي عنه في أصواتها، وأفعالها، ونحو ذلك، مثل نبيح الكلاب، أو نهيق الحمير، وقد بين ذلك من وجوه خمسة يحسن نقلها: -

        أولا: أن الشرع نهى عن التشبه بالآدميين الذين جنسهم ناقص، كالأعاجم والأعراب، وأهل الكتاب فيما يخصهم، وأن من أسباب ذلك النهي أن المشابهة في الظاهر تورث مشابهة الأخلاق، وهذا ينبه على النهي عن التشبه بالبهائم مطلقا فيما هو من خصائصها وإن لم يكن مذموما بعينه؛ لأن ذلك يدعو إلى فعل ما هو مذموم بعينه، إذ من المعلوم أن كون الشَّخْص أعرابيا أو أعجميا خير من كونه كلبا أو حمارا أو خنزيرا، فإذا وقع النهي عن التشبه بالناقصين من الآدميين فيما هو من خصائصهم، فالتشبه بالبهائم من باب أولى أن يكون مذموما ومنهيا عنه0

        ثانيا: أن اللهIإنما شَبَّه الإنسان بالكلب والحمار ونحوهما في معرض الذم، كالآيات التي سبق ذكرها، فإذا كان التشبه بها مع عدم القصد مذموما، فالقاصد للتشبه بها أولى بالذم، إلا أنه يزيد الذم إذا كان التشبه بها في عين ما ذمه الشارع0

        ثالثا: قوله r: "ليس لنا مثل السوء". أخرجه البخاري (3322)،ومسلم (2106)عن ابن عباس رضي الله عنهما0

وهذا بعد ما ذكر مثل السوء في الكلب يقيء ثم يعود في قيئه لم يذكر النبيr هذا المثل إلا ليبين أن الإنسان إذا شابه الكلب كان مذموما، وإن لم يذم الكلب من جهة التكليف، فالتَّمثُّل بالكلب مثل سوء، والمؤمن منزه من مثل السوء، فإذا شابه الكلب وتمثل به كان مذموما بقدر ذلك المثل السوء.

        رابعا: جاءت الشريعة ببيان كون نهيق الحمار، واقتناء الكلاب مقارنة للشياطين ومنفرة للملائكة، في نحو قولهr: "إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب ولا صورة" أخرجه البخاري (3225)، ومسلم (2106)عن أبي طلحةt .

وقولهr: "إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله، وإذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان فإنها رأت شيطانا". أخرجه البخاري (3303)، ومسلم (2729) عن أبي هريرةr 0

ومعلوم أن المشابه للشيء يتناول من أحكامه بقدر تلك المشابهة، فإنْ نَبَحَ الإنسانُ نَبْحَ الكلاب، أو نهيق الحمير كان في ذلك مقارنة للشياطين وتنفير الملائكة بحسبه، ومثل هذا لا يباح إلا لضرورة، ولذلك لم يبح اقتناء الكلاب إلا لضرورة جلب المنفعة كالصيد، أو رفع مضرة عن الماشية والحرث.

        خامسا: أن النبيr لعن المتشبهين والمتشبهات من النساء بالرجال حيث خلق الله كل نوع منهما، وجعل صلاحه وكماله، إما في أمر مشترك بينهما، أو أمر مختص به، فأما المشترك فلم يقع فيه النهي، وإنما وقع النهي في الأمور المختصة، فلا يجوز لأحد الجنسين التشبه بالآخر فيما هو مختص به، فإذا لم يجز ذلك بين الآدميين فالتشبه بالبهائم في خصائصها من باب أولى ألا يجوز، بل لا يجوز له أن يتشبه بالبهائم في الأمور المشتركة بينهما، كالأكل والشرب والصوت والحركة والنكاح، فمع كون كل هذه الأشياء مشتركة، إلا أن لكل من الآدمي والبهيمة أحكاما تخصه، فلا يجوز التشبه بها، فالأمور المختصة بالبهائم من باب أولى، وقد جعل الله تعالى الإنسان مخالفا بالحقيقة للحيوان، وجعل كماله وصلاحه في الأمور التي تناسبه، وهي جميعها لا يماثل فيها الحيوان، فإذا تعمد مماثلة الحيوان وتغيير خلقة الله فقد دخل في فساد الفطرة والشرع، وذلك مُحرَّم. انتهى بتصرف من مجموع الفتاوى 32/260 0

وبهذا تبين أن التشبه بالحيوانات سواء في أصواتها، أو أفعالها، أو هيئاتهها، أو حركاتها، وكل ما هو مختص بها مُحرَّم، إلا أنه قد علم ما جاءت به الشريعة من اليسر والسماحة، والانبساط، وإدخال السرور على الصغار، وقد استعمل نبيناrأساليب متعددة في مضاحكة وممازحة الأطفال، منها الآتي:

 1-عن عمرrاقال: رأيت الحسن والحسين رضي الله عنهما على عاتقي النبيr، فقلت: نعم الفرس تحتـكما، فقالr: "ونعم الفارسان هما". أخرجه البزار في مسنده1/418، وابن عساكر في تاريخ دمشق14/162، والحديث مختلف في تصحيحه وتضعيفه، صححه الهيثمي كما في مجمع الزوائد9/182بعد أن عزاه إلى أبي يعلي في مسنده، وضعفه من رواية البزار، كما ضعفه ابن عدي في الكامل من قبل حسين الأشقر يرويه عن علي بن هاشم، وكلاهما ضعيف، انظر:الكامل في ضعفاء الرجال2/362 0

2-عن البراء بن عازبr قال: كان رسول اللهr يصلي، فجاء الحسن والحسين أو أحدهما فركب على ظهـره، فكـان إذا رفـع رأسه قال بيده، فأمسكه أو أمسكهما، وقال: "نعم المطية مطيتكما". أخرجه الطبراني في الأوسط4/205، وحسنه الهيثمي كما في مجمع الزوائد 9/182 0

3-عن جابرtقال: دخلت على النبيr وهو يمشي على أربع، وعلى ظهره الحسن والحسين رضي الله عنهما، وهو يقول: "نعم الجملُ جَمَلُكما، ونعم العـادلان أنتما". أخرجه الطبراني في الكبير3/52، وضعفه الهيثمي في المجمع9/182.

فهذه النصوص وقع فيها تشبه النبيr-مداعبة للأطفال-بالجمل والفرس، فظاهرها أنها تعارض النصوص الأخرى التي وردت في النهي عن التشبه بالحيوان، ويمكن الجمع بينهما بالآتي: -

أولا: أن المنهي عنه هو ما كان فيه التشبه بالحيوان في الصور المختصة به المذمومة، كنبيح الكلاب، ونهيق الحمار، ونحو ذلك مما هو مذموم من أفعالها، أو أصواتها.

ثانيا: أن النصوص التي وردت في هيئات معينة قد نهى الشرع عنها، كبروك البعير وإقعاء الكلب وافتراشه ونقر الغراب أو الديك أو التفات الثعلب، فالمراد بيان أن هذه الهيئة منهي عنها في العبادة دون غيرها، لا لكونها هي في ذاتها مُحرَّمة مذمومة؛ إذ لا يظهر كون بروك البعير، أو استيطانه مكانا معينا مذموما لوجه من الوجوه، لكن إذا فعل المصلي ذلك كان من حيث الشرع مذموما، والحيوان من حيث الجملة ناقص الخلقة، ومذموم وإن وجد فيه بعض الصفات الحسنة، فلما فعل الرسولrشيئا من ذلك علم أن وقوع هذه الهيئات خارج العبادة جائز، بل لو قيل: إنه إنما يحرم في العبادة فقط لم يكن بعيدا، سيما وأن ذلك هو الموافق لأصل الإباحة.

        ومن خلال هذا يمكن القول بأن تقليد الحيوانات في أصواتها إذا كان مداعبة وملاعبة للصغار، على نحو ما وقع من رسول اللهr فهو جائز، ولا بأس به إذا كان بقدر الحاجة، دون إسفاف وابتذال، فإذا قام المُمثِّل بهذا العمل من أجل إضحاك الصغار وإدخال السرور عليهم أو لغرض تعليمهم ونحوه، فلا بأس به.

        أما كون الشخص يقلد أصوات الحيوانات لمجرَّد  اللعب وإضحاك الناس، فإن هذا لا شك داخل في النصوص التي تقدم ذكرها، والقاضية بتحريمه، مع كون الشريعة داعية إلى معالي الأمـور، لا إلى سفاسفها.

والله أعلم

كتبه: د.محمد بن موسى الدالي

في 6/7/1428هـ


 

التعليقات (0)

×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف