د. الدالي: مناقشة علل تحريم الوصل
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
فإن الشريعة الإسلامية الغراء جاءت بتحريم الوصل، والتشديد فيه، حتى بلغ الأمر لعن فاعله، والمفعول به، كما اختلف أهل العلم في بيان علة المنع، والتشديد في ذلك، وبين يدي الموضوع أقدم بجملة من النصوص المانعة منه، ومنها الآتي: -
أولا: عن عبد الرحمن بن عوف t أنه سمع معاوية بن أبي سفيان tعام حج، وهو على المنبر وهو يقول وتناول قُصَّة من شعر كانت بيد حَرسِيِّ، أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله rينهى عن مثل هذه، ويقول: "إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم"يعني الوصال في الشعر . أخرجه البخاري (5933)، ومسلم (2127)0
وفي لفظ عن سعيد بن المسيب رحمه الله قال: قدم معاوية بن أبي سفيانt المدينة آخر قدمة قدمها، فخطبنا فأخرج كُبَّة من شعر، فقال: ما كنت أرى أن أحدا يفعل هذا غير اليهود، وإن النبيrسماه الزور. أخرجه البخاري (3488)، ومسلم (2127)0
قال الزرقاني: سماه الزور؛ لأنه كذب وتغيير لخلق الله، والزور الكذب والباطل.شرح الزرقاني 4/427 0
والقُصَّة: بضم القاف مقـدم الرأس المقبل على الجبهة، وقيل: شـعر الناصية، والكُبَّة: شعر مكفوف بعضه على بعض. شرح النووي على صحيح مسلم14/108، وانظر: لسان العرب مادة (ق ص ص) 7/73، ومختار الصحاح مادة(ق ص ص)(225)0
وعن قتادة عن سعيد بن المسيب رحمه الله أن معاويةtقال ذات يوم: إنكم قد أحدثتم زي سوء، وإن نبي الله rنهى عن الزور، قال: وجاء رجل بعصا على رأسها خِرْقة، قال معاوية: ألا وهذا الزور، قال قتادة: يعني ما يكثر به النساء أشعارهن من الخِرَق.أخرجه مسلم (2127)0
ثانيا: عن أبي هريرة tعن النبي rقال: "لعن الله الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة" . أخرجه البخاري (5933)، وأخرجه مسلم (2124)0
ثالثا: عن عائشة رضي الله عنها أن جارية من الأنصار تزوجت، وأنها مرضت فتمعَّط شعرُها، فأرادوا أن يصلوها فسألوا النبيrفقال:"لعن الله الواصلة والمستوصلة" أخرجه البخاري (5934)، ومسلم (2123)0
قال القرطبي: فنهى الرسولrعن وصلة المرأة شعرها، وهو أن يضاف إليه شعرٌ آخر يكثر به. تفسير القرطبي 4/394 0
وقال ابن قدامة: الواصلة هي التي تصل شعرها بغيره، أو شعر غيرها، والمستوصلة الموصول شعرها بأمرها، فهذا لا يجوز . المغني 1/67 ط/دار الفكر 0
قال في عون المعبود: الواشمة اسم فاعل من الوشم، وهو غرز الإبرة أو نحوها في الجلد حتَّى يسيل الدم ثم حشوه بالكحل أو النيل أو النورة فيخضر، والواشمة التي تطلب الوشم.عون المعبود 11/150، وانظر:غريب الحديث لابن سلام1/166، وعمدة القاري22/63 0
رابعا: عن جابرtقال: زجر النبيrأن تصل المرأة بشعرها شيئا.أخرجه مسلم (2126)0
وهذا الحديث ظاهر في العموم، فيشمل كل شيء.
ونقل ابن قدامة عن المروذي قال: جاءت امرأة من هؤلاء الذي يمشطون إلى أبي عبد الله، فقالت: إني أصل رأس المرأة بقُرامل، وأمشطها، فترى لي أن أحج مما اكتسبت؟ قال: لا، وكره كسبها. المغني 1/68، والقرامل:خيوط من حرير يعمل ضفائر تصل به المرأة شعرها، انظر:فتح الباري10/375، والنهاية في غريب الحديث4/51 0
فهذه النصوص صريحة وعامة في تحريم الوصل، وزجر المرأة أن تصل بشعرها شيئا، فتشمل كل شيء يمكن للمرأة أن تصله بشعرها، وقد وقع الخلاف بين العلماء في حكم الوصل إذا كان بشعر آدمي أو غيره أو بإذن الزوج أو بغيره، وهل هو عام أو يختص ببعض الأشياء، والرَّاجح في هذه المسألة أن المرأة منهية أن تصل برأسها شيئا؛ عملا بعموم الأدلة حيث إنها لا يوجد فيها تلك التفاصيل التي ذكروها، ويستثنى من ذلك الصوفٍ، والخرقة، والربط الملونة، ونحو ذلك مما يشد به الشعر، أو يربط، ويكون متميزا بحيث لا يخيل للرائي أنه شعر، فلا يحصل بذلك خداع، ولا تزوير، مع كون الحاجة داعية إلى ذلك.انظر: المغني 1/67ط/دار الفكر، وسبل السلام3/144ط/دار إحياء التراث العربي، ونيل الأوطار6/341ط، دار الجيل، ومجلة البحوث الإسلامية45/337، وأحكام تجميل النساء في الشريعة الإسلامية (145)وما بعدها، وأحكام الزينة1/342، وما بعدها 0
وهنا مسألتان:
الأولى: ما المراد بالواصلة في لسان الشرع ؟
الثانية: ما علة تحريم الوصل ؟
الأمر الأول: وهو ما المراد بالواصلة في لسان الشرع؟
قال ابن سلَّام: أمـا الواصلة والمستوصـلة فإنه في الشعر؛ وذلك أنها تصله بِشَعْرٍ آخر .غريب الحديث لابن سلام 1/166 0
وقال في النهاية: الواصلة التي تصل شعرها بشعر آخر زُور، والمُسْتَوصلة التي تأمر من يفعل بها ذلك.النهاية في غريب الأثر 5/191، وحاشية السندي6/149 0
وفي لسان العرب: الواصِلة من النساء التي تَصِل شعرها بشعر آخر، والـمُسْتَوْصِلة الطالبة لذلك، وهي التـي يُفْعَل بها ذلك، وفـي الـحديث: أَن النبـيr"لَعَنَ الواصِلَة والـمُسْتَوْصِلة".لسان العرب 11/727.
الأمر الثاني: علة تحريم الوصل، وقد اختلفت أنظار الفقهاء في علة التحريم على النحو الآتي:
أولا: أن علة التحـريم كونه انتفاعاً بأجزاء آدمي، والآدمي مكـرم غير مبتذل، فلكرامته يجب دفنه، ومن ثم كان الرأي عند هؤلاء تحريم الوصل بشعر الآدمي مطلقا، وهو مذهب الحنفية، ومذهب الشافعية، أما إذا كان بغير شعر آدمي كالميتة، أو ما لا يؤكل لحمه إذا انفصل في حياته، فالشافعية يفرقون بين ما إذا كان نجسا فيحرم وصله، وبين ما إذا كان طاهرا، فيختلف الحكم عندهم وفق حال المرأة، على تفاصيل عندهم. الهداية شرح البداية3/46، وفتح القدير شرح الهداية6/426، وبدائع الصنائع 5/125، والأم1/54، والمجموع 3/145، وإعانة الطالبين2/340 0
ثانيا: أن علة التحريم كونه تغييراً لخلقة اللهI؛ لذا نصوا على أنه لا يحل للمرأة التلبيس بتغيير خلق الله تعالى، كوصل شعرها إن كان قصيرا بشعر آخر طويل، وهو مذهب المالكية. التاج والإكليل1/210، والقوانين الفقهية (384)، والفواكه الدواني 2/342 0
ثالثا: أن علة التحريم ما في ذلك من التدليس والتزوير، وهو مذهب الحنابلة، وعلل به بعض الحنفية، إلا أن الحنابلة عللوا بعلة أخرى، وهي استعمال ما وقع الخلاف في نجاسته، ومن ثم نصوا على تحريم وصل المرأة شعرها بشعر أخرى لنفس العلتين المذكورتين، أما بغير الشعر فإنه يجوز إذا كان بقدر ما يشد به الرأس؛ لانتفاء هذه المعاني، وحصول المصلحة . المغني 1/67ط/دار الفكر، والشرح الكبير1/137، وكشاف القناع1/81 0
مناقشة العلل المذكورة: -
مما تقدم تبين أن علة تحريم الوصل دائرة بين كونه تزويرا وتدليسا، أو انتفاعاً بأجزاء آدمي، أو أنه تغيير لخلق الله، أو الانتفاع بغير شعر الآدمي مما هو نجس، أو مختلف في نجاسته، وهذه العلل قد تُسلَّم إلا أنه يرد على بعضها أشياء:
فالتعليل بكونه تزويرا يتصور في المرأة غير المتزوجة التي تريد أن تغرَّ الناس لتزوجها، ولا يتصور إذا كانت المرأة مزوجة؛ حيث لا مصلحة لها في ذلك، بل مرادها غالبا التَّزين لزوجها، وهذه الصورة بعينها جاء النَّص بتحريمها، كما وقع في حديثي عائشة وأسماء رضي الله عنهما، فإن المرأة كانت متزوجة، وظاهر حالها أنها إنما أرادت فقط أن تتزين لزوجها، بل كانت مريضة أصابتها الحصبة فتمـرَّق شـعرُها وتساقط، ومع ذلك قـال لها رسـول اللهr: "لعـن الله الواصلة والمستوصلة"ولم يأذن لها؛ مما يدلُّ على أن العلة ليست فقط التزوير والتدليـس، ولا يمنع أن هذا جزء العلة، مع احتمال كون المراد من ذلك سد الباب.
وأما التعليل بكونه استعمال جزء آدمي فلا يجوز لكرامته بل يجب دفنه، فالجواب على هذا أنه لا يسلم مطلقا أن الجزء المنفصل من الآدمي من شعر، أو ظفر، أو بشر، أو نحو ذلك يجب دفنه، وأن عدم ذلك امتهانٌ له، وعدمُ تكريمٍ له؛ حيث لم ترد الشريعة بإيجاب شيء من ذلك، إنما هو من اجتهاد وفعل بعض السلف. انظر: مصنف ابن أبي شيبة5/241وما بعدها، وهو مروي عن مجاهد ومحمد بن سيرين،والقاسم0
وفعلهم لا يدلُّ على أنه تشريع، ولا يؤخذ منه الوجوب، وإذا كانوا قد اختلفوا في فعل الرسول المجرَّد عن الأمر، هل يفيد الوجوب أو لا ؟ فكيف بفعل غيره؟! انظر الخلاف في هذه المسألة:البرهان1/321، والإحكام في أصول الأحكام1/232، والموافقات3/43 0
بل غاية ما يدلُّ عليه الأفضلية، لا الواجب المتعين، ثم إنه لو كان هو مناط التحريم وعلته، لجاءت الشريعة بالتفصيل بين شعر الآدمي الواجب احترامه، وإجازته في شعر غير الآدمي، فلما لم يكـن شيء من ذلك دل على أنه ليس هذا مناط الحكم .
وأما التعليل بأنه استعمال لأجزاء نجسة، فهذا مُسلَّم لهم فيما إذا كان شعر غير آدمي مما هو نجس، أما إذا كان طاهرا فلا يستقيم التعليل بذلك، فلا يكون التعليل بذلك بإطلاق، ولكن بقيد كونه من حيوان نجس.
وأما التعليل بكونه تغييرا لخلقة الله، فهذا أظهر وأبرز ما يمكن كونه مناطا للحكم، سيما وقد استقرَّ في الشريعة الإسلامية التغليظ في هذا الباب، كما قال تعالى حاكيا عن الشيطان تربصه بابن آدم: ]وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ[(النساء-119) وعن عبداللهtقال:"لعـن الله الواشمات والمسـتوشمات، والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله". أخرجه البخاري (5931)، ومسلم (2125)0
فتكون الواصلة مغيرة لخلق الله، وهذا أمر يستوي فيه المرأة المزوجة وغيرها، وبهذا تجتمع النصوص، والله أعلم.
كتبه: د.محمد بن موسى الدالي
في 3/3/1426هـ
@ @ @