د.الدالي: عدة المتوفى عنها زوجها في غير موطنها الأصلي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
فإن عدة المرأة المتوفى عنها زوجها مما شرع الله تعالى تعظيما لحقِّ الزوج، ويمتد أجلها إلى أربعة أشهر وعشر بنصِّ الكتاب العزيز، قال تعالى: ] وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً [ البقرة-234، كما جاءت السنة صريحة في ذلك، فعن أم حبيبة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تُحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا). أخرجه البخاري (1202)، ومسلم (2730).
وعن فريعة بنت مالك رضي الله عنها قالت: "خرج زوجي في طلب أعلاج له ? والعلج هو الرجل القوي الضخم والرجل من كفار العجم - ، فأدركهم بطرف القَدُوم فقتلوه، فأتاني نعيُه وأنا في دار شاسعة من دور أهلي، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقلت: إن نعي زوجي أتاني في دار شاسعة من دور أهلي، ولم يدع لي نفقة ولا مالا لورثته، وليس المسكن له، فلو تحولت إلى أهلي وأخوالي لكان أرفق بي في بعض شأني، قال: تحولي، فلما خرجت إلى المسجد أو إلى الحجرة دعاني، أو أمر بي فدعيت، فقال: امكثي في بيتك الذي أتاك فيه نعيُ زوجِك حتى يبلغ الكتاب أجله، قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا. قالت: فأرسل إلي عثمان، فأخبرته فأخذ به". أخرجه أحمد (25840)، والترمذي (1125)، وأبو داود (1957)، والنسائي في (3471)، وابن ماجه (2021)، قال الترمذي: حديث حسن صحيح، والحديث صححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (2300).
وفي هذا العصر كثر أسفار العوائل إلى غير الوطن الأصلي للعمل أو التعلم أو السياحة ونحوه، وقد يتوفى الزوج في تلك الحال، والزوجة في غير موطنها الأصلي، تجب عليها العدة ، وليس لها أحد في هذا البلد، فأرادت الانتقال إلى وطنها الأصلي، فهل هذا يسوغ لها شرعا الانتقال، أو يجب عليها الاعتداد في المحل الذي توفي فيه الزوج؟
وقع خلاف يسير في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: أنه يجب اعتداد المتوفى عنها زوجها في المحل الذي أتاها نعيه فيه، وهو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة.شرح فتح القدير 4/343، وتبيين الحقائق 3/37، وجواهر الإكليل 1/391، والمقدمات الممهدات 1/514، والإنصاف 9/306، والمغني 11/29، والتمهيد 21/ 31، وسبل السلام 1/168.
الأدلة:
واستدلوا لذلك بالآتي:
أولا: قوله تعالى: ] لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ [ الطلاق- 1.
قال الشافعي رحمه الله عند هذه الآية: "فكانت هذه الآية في المطلَّقات، وكانت المعتدات من الوفاة معتداتٍ كعدة المطلقة، فاحتملت أن تكون في فرض السكنى للمطلقات، ومنع إخراجهن تدل على أن في مثل معناهن في السكنى، ومنع الإخراج المتوفى عنهن؛ لأنهن في معناهن في العدة".الأم 5/226، وانظر: شرح معاني الآثار 3/79.
المناقشة: الاستدلال بهذه الآية محل إشكال، ولا يخلو من النقاش، فإن أكثر المفسرين على أن الآية في المطلقات الرجعيات، ومعلوم أن المتوفى عنها زوجها لا تلحق بهن إطلاقا، إلا على ضربٍ من القياس، كما هو ظاهر من كلام الشافعي المتقدم.
ثانيا: حديث فريعة بنت مالك رضي الله عنها السابق ذكره، وفيه قالت: "امكثي في بيتك الذي أتاك فيه نعي زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله، قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا ".
وهذا الحديث نصٌّ في الموضوع، وهو حديث ثابت صحيح.
القول الثاني: أن المعتدة من وفاة تعتد حيث شاءت، وهو ما ذهب إليه الحسن البصريّ وعطاء، وهو مروي عن عليّ وابن عبّاس وجابر وعائشة رضي الله عنهم، وحكاه البغوي عن أبي حنيفة، وهو قول داود الظاهري وابن حزم أيضاً.التمهيد 21/ 31، ونيل الأوطار 7/ 61، والجامع لأحكام القرآن 3/177، والمحلى 10/282.
الأدلة:
واستدلّوا بالآتي:
أولا: قوله تعالى: ] وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ [البقرة- 240. قال: مجاهد رحمه الله: ] وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً [ قال: كانت هذه العدة، تعتد عند أهل زوجها واجباً، فأنزل الله: ] وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ [ قال: جعل الله لها تمام السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة وصية، إن شاءت سكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت، وهو قوله تعالى: ] غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [ فالعدة كما هي، واجبة عليها.أخرجه البخاري (4167).
المناقشة:
نوقش هذا بعدم التسليم، فإن الآية لم تتعرَّضْ لهذا الحكم بل نسخت حكماً آخر، وهو استحقاقها للسكنى في بيت الزوج الذي صار للورثة.تهذيب السنن 3/200، وانظر: أحكام الإحداد (127،126).
ثانيا: قوله تعالى: ] وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً [البقرة-234.
ووجه الاستدلال: أن الآيةلم تخصَّ مكانا معينا للعدة، والبيان لا يؤخر عن الحاجة.
المناقشة:
يناقش هذا الدليل بأن الآية ليس فيها سوى بيان المدة التي يجب على المرأة أن تمكثها كعدة واجبة عليها، وليس فيها تعرض لمكان الاعتداد لا بالإثبات ولا بالنفي، وقد قام دليل السنة الصحيح السالم عن المعارض بإيجاب الاعتداد في البيت الذي بلغها خبر وفاته به، والقاعدة الأصولية المطَّردة تخصيص العموم، وتقييد المطلق، فمتى جاء من الشرع ما يقيد المطلق أو يخصص العام وجب أن يكون مُقدَّما عليه، فيقدم الحديث المقيِّد على مطلق القرآن.
ثالثا: عن على بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المتوفى عنها زوجها أن تعتد حيث شاءت. رواه الدارقطني (3/266): وقال: قال الدارقطني : لم يسنده غير أبي مالك النخعي، وهو ضعيف. قال ابن القطان: ومحبوب بن المحرز أيضا ضعيف، وعطاء مختلط، وأبو مالك أضعفهم؛ فلذلك أعله الدارقطني به. نصب الراية 3 / 263.
المناقشة: نوقش هذا الأثر بأنه ضعيف، وقد ثبت فيما هو أقوى منه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المتوفى عنها زوجها أن تعتد في البيت الذي أتاها نعي زوجها وهي فيه.
الترجيح:
الراجح هو القول الأول، وهو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم، من وجوب الاعتداد بالبيت الذي أتاها نعيه وهي به، والمراد سكن الزوج قبل وفاته، وذلك لكون دليل هذه المسألة نصًّا في الموضوع.
قال الشوكاني: "وحديث فريعة لم يأتِ ما يخالفه بما ينتهض لمعارضته، فالتمسك به متعين ولا حجة في أقوال أفراد الصحابة، ومرسل مجاهد لا يصلح للاحتجاج به على فرض انفراده عند من لم يقبل المراسيل مطلقا، وأما إذا عارضه مرفوع أصح منه كما في مسألة النزاع فلا يحل التمسك به بإجماع من يعتد به من أهل العلم". نيل الأوطار 7/ 61.
وبعد ترجيح هذا القول فإن الجمهور القائلين بوجوب اعتدادها في البيت الذي توفي فيه الزوج نصُّوا على جملة من الأعذار التي تبيح للمرأة الانتقال من ذلك البيت إلى بيت آخر تأمن فيه لتكمل به عدتها، وهو مرويٌّ عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم.
فعن ابن مسعود رضي الله عنه في نساء نعى إليهن أزواجهن وتشكين الوحشة. فقال ابن مسعود: "تجتمعن بالنهار، ثم ترجع كل امرأة منهن إلى بيتها بالليل". أخرجه عبد الرزاق في المصنف 7 / 32، والطبراني في المعجم الكبير 9 / 334، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد 5 / 13.
وعن مجاهد مرسلا أن رجالا استشهدوا بأُحد، فقال نساؤهم: يا رسول الله، إنا نستوحش في بيوتنا، أفنبيت عند إحدانا؟ فأذن لهن أن يتحدثن عند إحداهن، فإذا كان وقت النوم تأوي كل واحدة إلى بيتها.أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 4 / 155.
وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه رخص للمتوفى عنها أن تأتي أهلها بياضَ يومها.أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 4 / 155.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان له ابنة تعتد من وفاة زوجها، فكانت تأتيهم بالنهار فتحدث إليهم، فإذا كان الليل أمرها أن ترجع إلى بيتها.أخرجه عبد الرزاق في المصنف 7 / 31.
فهذه الآثار وإن كان في بعض أسانيدها مقال، إلا أنها تصلح للاستئناس بها على جواز خروج المعتدة للعذر.
كما نصَّ على ذلك الفقهاء:
قال الكاساني: "إن اضطرت إلى الخروج من بيتها، بأن خافت سقوط منزلها أو خافت على متاعها أو كان المنزل بأجرة ولا تجد ما تؤديه في أجرته في عدة الوفاة، أو كان المنزل ملكا لزوجها وقد مات، أو كان نصيبها لا يكفيها، أو خافت على متاعها منهم -أي: الورثة- فلا بأس أن تنتقل .. لأن السكنى وجبت بطريق العبادة حقًّا لله تعالى عليها، والعبادات تسقط بالأعذار، وإذا انتقلت لعذر يكون سكناها في البيت الذي انتقلت إليه بمنزلة كونها في المنزل الذي انتقلت منه في حرمة الخروج عنه؛ لأن الانتقال من الأول إليه كان لعذر، فصار المنزل الذي انتقلت إليه كأنه منزلها من الأصل، فلزمها المقام فيه حتى تنقضي العدة". بدائع الصنائع 3/ 205، 206، وفتح القدير 3/ 285. ط.الأميرية ببولاق.
وصرح به المالكية، فقالوا: "كبدوِيَّة معتدةٍ ارتحل أهلها، فلها الارتحال معهم حيث كان يتعذر لحوقها بهم بعد العدة، أو لعذرٍ لا يمكن المقام معه بمسكنها كسقوطه، أو خوف جار سوء أو لصوص إذا لم يوجد الحاكم الذي يزيل الضرر، وإذا انتقلت لزمت الثاني إلا لعذر". الفواكه الدواني 2/ 99، وجواهر الإكليل 1/ 393.
كما أن الشافعية صرحُّوا بذلك، فصرحوا بأن لها الخروج فيما إذا خافت على نفسها أو مالها من هدمٍ أو حريقٍ أو غرقٍ أو لصوصٍ أو فسقةٍ أو جار سوء، وتتحرى القرب من مسكن العدة.روضة الطالبين 8/ 415- 417، ومغني المحتاج 3/ 403- 404.
ومذهب الحنابلة في الجملة لا يخرج عما سبق.المغني 9/ 176، 177، وانظر: فتح القدير 4/ 344، والفواكه الدواني 2/ 99، وجواهر الإكليل 1/ 393، وسبل السلام 3/ 203.
من واقع ما تقدم من نصوصٍ توجب على المرأة الاعتداد في البيت الذي توفي فيه الزوج، بقطع النظر عن كون المرأة في وطن مغاير لوطنها الأصلي أو غيره، فقد دلت السنة على ذلك بشكل واضح، وقد تقدم حديث فريعة رضي الله عنها مع ما شكته لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أحوال تُسوِّغ -بديهةً- جواز الانتقال إلى محل آخر، حتى أفتاها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ثم عدل عنه إلى وجوب أن تعتد بالمكان الذي توفي فيه الزوج، فاستصحابا لهذا النص، تبين أن الواجب على المرأة أن تعتد في المحل الذي توفي فيه الزوج، ولا يجوز لها الانتقال إلى لضرورة، ومن صور الضرورة في العصر الحديث الآتي:
- أن يكون نظام الدَّوْلة التي هي فيها يمنع بقاء الأسرة بعد وفاة صاحب تأشيرة الإقامة بها، كما هو الحال في كثير من الدُّوَل حاليا، فإنه في حال وفاة صاحب التأشيرة تؤمر أسرته بالمغادرة، فهذه ضرورة لا خيار للمرأة فيها، فيجوز لها الانتقال إلى الوطن الأصلي أو غيره لتكمل العدة فيه، مع التزامها بالبيت الذي تنتقل إليه.
- أن تتعذر المعيشة فترة العدة في هذا البلد لانقطاع الراتب، وعدم وجود دخل بعد الوفاة، فحينئذ ليس هناك بد من الرجوع إلى الوطن الأصلي.
- أن يأمرها صاحب البيت بالخروج لانتهاء عقد الإجارة، وليس هناك قدرة على تجديد فترة الإجارة مدة العدة، أو خشيت البقاء في هذا البيت بمفردها، ونحوه، فلها حينئذ الانتقال؛ لأن خروجها من هذا البيت يجعل مطلق الخروج متساويا من حيث الجهة، فإذا جاز لها الخروج من هذا البيت جاز لها الرجوع إلى الوطن، أو حيث شاءت، ولا يلزمها البقاء في نفس البلد.
أما في حال كون المرأة عاملة، أو لها دخل آخر، أو معها من أفراد أسرتها من يكفيها البقاء في هذا البلد، فالواجب أن تعتد حيث أتاها نعي زوجها.
والله تعالى أعلم
كتبه: د.محمد بن موسى الدالي
في 10/3/1430هـ