د.الدالي: وجوب الجمعة على المسافر بغيره من المستوطنين، لا استقلالا.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
فإن للجمعة شروطَ وجوب، وشروطَ صحة، وفي كل منها ما هو متفق عليه ومختلف فيه، ومن أهم ما يذكر في هذا السياق اشتراط الاستيطان لوجوب الجمعة والخلاف فيه، وقبل ذكر الخلاف في هذه المسألة يحسن الوقوف على ما ذكره فقهاء الشافعية في أقسام الناس في الجمعة، وهو كالآتي:
الأول: من تلزمه وتنعقد به، وهو الذكر الحر البالغ العاقل المستوطن الذي لا عذر له.
الثاني: من تنعقد به ولا تلزمه وهو المريض، والممرض، ومن في طريقه مطر ونحوهم من المعذورين.
الثالث: من لا تلزمه ولا تنعقد به ولا تصح منه، وهو المجنون والمغمى عليه وكذا المميز والعبد والمسافر والمرأة.
الرابع: من لا تلزمه وتنعقد به، وهو من له عذر من أعذارها غير السفر.
الخامس: من لا تلزمه ولا تصح منه وهو المرتد.
السادس: من تلزمه وتصح منه، وفي انعقادها به خلاف، وهو المقيم غير المستوطن، ففيه الوجهان المذكوران في الكتاب، أصحهما: لا تنعقد به". المجموع 4/503، وأسنى المطالب 1/250، وحاشية الجمل 2/21.
وقد اختلف أهل العلم في اشتراط الاستيطان لوجوب الجمعة على قولين:
القول الأول: أن الاستيطان من شروط صحة صلاة الجمعة، فلا تصح الجمعة بالمسافر ولا تنعقد به، فلا يكمل به نصابها، وهو مذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة.كفاية الطالب الرباني 1/ 329، وشرح الخرشي 2/74، ونهاية المحتاج 2/ 306، وحاشية قليوبي وعميرة 1/318، والفروع 2/96، وكشاف القناع 2/ 27.
الأدلة:
واستدلوا بالآتي:
أولا: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسافر فلا يصلي الجمعة في سفره، وكان في حجة الوداع بعرفة يوم الجمعة، فصلى الظهر والعصر، وجمع بينهما، ولم يصلِّ جمعة.
ففي حجة الوداع في حديث جابر رضي الله عنه: ( ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا ). أخرجه مسلم (2137).
والحديث صريح في أنه صلى الله عليه وسلم صلى الظهر، ولم يصلِّ الجمعة، ولو كانت الجمعة تلزم المسافر لصلاها جمعة، كما أنه صلى الله عليه وسلم لم يجهر فيها مما ينفي كونها صلاة الجمعة، والخطبة كانت للنسك، وليس للجمعة، ولذلك تشرع خطبة عرفة ولو في غير يوم الجمعة بإجماع المسلمين.
ثانيا: عن جابر رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة إلا مريض، أو مسافر، أو امرأة، أو صبي، أو مملوك، فمن استغنى بلهو أو تجارة استغنى الله عنه، والله غني حميد ). أخرجه الدارقطني في سننه 2 / 3، والبيهقي في شعب الإيمان 3 / 105، والأثر ضعفه الألباني في مشكاة المصابيح 1 / 309.
المناقشة: نوقش هذا الأثر بأنه ضعيف، لم يثبت بسند صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثالثا: أن الخلفاء الراشدين رضى الله عنهم، كانوا يسافرون للحج وغيره فلم يصلِّ أحد منهم الجمعة في سفره.
رابعا: أن البدو الذين كانوا حول المدينة لم يؤمروا بها، ولا قبائل البادية ممن أسلموا، ولا أقاموها، ولو أقاموها لنقل ذلك.
خامسا: أن هذا هو المروي عن السلف.
فأقام أنس رضي الله عنه بنيسابور سنة أو سنتين فكان لا يُجَمَّع.أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2 / 14.
وعن الحسن أن عبد الرحمن بن سمرة شتى بكابل شتوة أو شتوتين لا يجمِّع ويصلي ركعتين.أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 1 / 442
وقال ابن عمر رضي الله عنه: " لا جمعة على مسافر ". أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 3 / 184، وعبد الرزاق في المصنف 3 / 172.
وقال إبراهيم: " كان أصحابنا يغزون، فيقيمون السنة أو نحو ذلك يقصرون الصلاة، ولا يجمِّعون ". أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 2 / 14، وصحَّحه في التحجيل في تخريج ما لم يخرج في إرواء الغليل (95).
قال ابن قدامة رحمه الله: "وهذا إجماعٌ مع السُّنة الثَّابتة فيه، فلا يسوغ مخالفتُه". المغني 2/138.
القول الثاني: انعقاد الجمعة بالمسافر، وهو المشهور من مذهب الحنفية، واختاره ابن حزم. حاشية ابن عابدين 1/ 548.
الأدلة:
واستدلوا بالآتي:
أولا: عموم قوله تعالى: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [ الجمعة-9.
قال علي رضي الله عنه: " هذا خطاب لا يجوز أن يخرج منه مسافر، ولا عبد بغير نصٍّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ". المحلى 5 / 51.
المناقشة:
يناقش هذا من وجهين:
الأول: أن الآية عامة، وقد قامت أدلة السنة على تخصيصها.
الثاني: أن هذا في غير محل النزاع، فنحن نسلم أن المسافر تجب عليه الجمعة إذا سمع النداء ووجد من المستوطنين من تنعقد بهم الجمعة، فتجب عليه تبعا لهم، ولكن النزاع في أمر آخر، وهو هل يلزم المسافرين الاجتماعُ لإقامة جمعة، وهل إذا لم يوجد إلا جماعةٌ مسافرون، هل تنعقد بهم الجمعة؟
وهذا أمر غير ما ورد عليه دليلهم.
ثانيا: أدلة وجوب الجمعة من السنة، وأحاديث الفضل في حضورها.
وتناقش بما سبق من كونها عامة قامت الأدلة على تخصيصها.
ثالثا: القياس على الجماعة، فإذا كان تلزمه الجماعة، فالجمعة أولى.
المناقشة:
يناقش هذا بأنه قياس في مقابلة النصوص الصريحة، والقياس الذي يقابل النص فاسد الاعتبار، على أننا نوجب الجمعة على المسافر إذا سمع النداء، ولا يعني هذا انعقادها به، والبحث في الأخير، وليس في وجوبها عليه.
الترجيح:
الذي يترجح قول الجمهور القائل بعدم وجوب الجمعة على المسافر، وعدم انعقادها به، وإن كانت تجب عليه بغيره من المستوطنين، للآتي:
أولا: قوة أدلة هذا القول.
ثانيا: كون أدلة قول الحنفية لا تخلو من المناقشة القوية المبطلة للعمل بها.
ثالثا: أن أدلة الحنفية في وجوب الجمعة على المسافر، وهذا مُسلَّم، وكلامنا في انعقادها به، ووجوب اجتماع جماعة المسافرين للجمعة، فهي غير واردة على محل النزاع.
تنبيه:
هذا الخلاف في وجوب الاجتماع للجمعة لمن لم يستوطن، بمعنى إن كان جماعة في بادية ليست محلا للاستيطان، فإنه لا يجب عليهم الاجتماع للجمعة، ولو صلوها جمعة لم تجزئهم عن الظهر، وكذا إذا كان جماعة مسافرون في طريقهم أو نزلوا في بلد ليسوا من أهله، وليسوا مستوطنين فيه، فإنه لا يجب عليهم الاجتماع لإقامة الجمعة؛ لما تقدم، أما إذا كانوا يسمعون الجمعة في المكان الذي تجمَّع فيه، فإن الواجب عليهم الحضور، ويلبُّون النداء، عملا بعموم النصوص الدالة على وجوب حضور الجمعة، وهذا يعني أنه إذا أقامها من تصح منهم إقامتها لزمته الجمعة تبعاً لغيره، لكن لا يحسب من العدد المشروط عند من اشترط العدد. انظر: حاشية ابن عابدين 1/253،546، وجواهر الإكليل 1/92، وروضة الطالبين 2/38، والمغني 2/327، والشرح الممتع 5/12.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " أما المسافر في بلد تقام فيه الجمعة، كما لو مرَّ إنسان في السفر ببلد، ودخل فيه ليقيل، ويستمر في سيره بعد الظهر، فإنها تلزمه الجمعة لعموم قوله تعالى: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [ الجمعة-9، وهذا عام، ولم نعلم أن الصحابة رضي الله عنهم الذين يفدون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبقون إلى يوم الجمعة يتركون صلاة الجمعة، بل إن ظاهر السنة أنهم يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم ". الشرح الممتع 5/12.
والله الموفق.
كتبه: د.محمد بن موسى الدالي
في 5/6/1430هـ
***