د. الدالي: الخلاف في جواز الحلف بغير الله ضعيف.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
فإنه من المتقرر عند أهل العلم تحريم الحلف بغير الله مطلقا. البحر الرائق 4/306، وفتح المعين4/312، وكفاية الطالب 2،24، والفواكه الدواني 1/408، والفروع 6/303، والمحرر في الفقه 1/257، وأخصرالمختصرات1/257، وانظر:اختلاف العلماء (217)، والمحلى8/5، وسبل السلام4/101 .
وقد نقل ابن عبد البر الإجماع على ذلك. التمهيد 4/366 .
وسواء كان المحلوف به ممن يستحق التعظيم، كالنبيr أو الكعبة، أو غير معظم كما هو جارٍ على كثير من ألسنة الناس، من الحلف بالآباء، أو الأبناء أو الأولياء أو المشايخ ونحوه، وهو أكثر ما يكون سيما مع قلة العلم وعدم الوعي، وقد جاءت النصوص صريحة جِدًّا بتحريم هذا الأمر، وهذا طرف منها: -
أولا: عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله rأدرك عمر بن الخطابt وهو يسير في ركب يحلف بأبيه فقال: " أَلا إنَّ الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت" قال عمرt: فما حلفت بها بعـد ذلك ذاكرا ولا آثرا.أخرجه البخاري (6647)، ومسلم (1646).
قال القرطبي: وهذا حصر في عدم الحلف بكل شيء سوى الله تعالى، وأسـمائه
وصفاته. تفسير القرطبي 6/271.
ثانيا: عن أبي هريرةtقال: قال رسول الله r: "لا تحلفوا بآبائكم، ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد، ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون" . أخرجه النسائي (3709)، وأبو داود (3248)، وابن حبان في صحيحه 10/199، والبيهقي10/29، وصححه الألباني كما في صحيح سنن أبي داود 2/627 0
وفي لفظ: "ألا من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله"، فكانت قريش تحلف بآبائها فقال: "لا تحلفوا بآبائكم". أخرجه البخاري (3836)، ومسلم (1646) عن ابن عمر رضي الله عنهما0
ثالثا: عن ابن عمر رضي الله عنهما سمع رجلا يقول: لا والكعبة، فقال ابن عمر: لا يحلف بغير الله، فإني سمعت رسول اللهrيقول: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك". أخرجه أحمد2/69، وأبو داود (3251)، والترمذي (1535)والحاكم1/65، وابن حبان10/200، والبيهقي10/29، وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وأصله في البخاري معلقا0
رابعا: عن أبي هريرةt عن النبي rأنه قال: "من قال في حلفه: واللات والعزى، فليقل: لا إله إلا الله". أخرجه البخاري (4860)، ومسلم (1647)0
خامسا: عن بريدة عن أبيه قال: قال رسول اللهr: "من حلف بالأمانة فليس مِنَّا". أخرجه أحمد5/352، وأبو داود (3253)والحاكم4/331، والبيهقي10/30، والحديث صححه الحاكـم ووافقه الذهبي، والهيثمي كما في المجمع4/332، والألبـاني كما في الجامع الصغير (957)0
قال ابن مسـعودt: لأن أحـلف بالله كاذبـا أحب إلي من أن أحـلف بغيره
صادقا. أخرجه عبد الرزاق في المصنف8/469، وابن أبي شيبة في المصنف 3/79، وصححه الهيثمي كما في مجمع الزوائد4/177، والمنذري كما في الترغيب والترهيب3/372.
قال شيخ الإسلام: لأن حسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق، وسيئة الكذب أسهل من سيئة الشرك. الفروع6/303.
قال الشوكاني: قال العلماء السر في النهي عن الحلف بغير الله أن الحلف بالشيء يقتضي تعظيمه، والعظمة في الحقيقة إنما هي لله وحده، فلا يحلف إلا بالله وذاته وصفاته، وعلى ذلك اتفق الفقها. نيل الأوطار 9/124، وانظر: تحفة الأحوذي 5/111، وسبل السلام 4/102 0
الخلاف في جواز الحلف بغير الله:
وقد حكي خلاف في أنه يجوز الحلف بغير الله، وهو مروي عن الشافعية، وبعض المالكية، وأحد الوجهين في مذهب أحمد. الحاوي الكبير 15/262، والمهذب2/129، ونهاية الزين1/6، والمدونة 2/32 ط/مكتبة الرياض الحديثة، القوانين الفقهية(106) 0
واستدلوا بالآتي:-
أولا: أن الله تبارك وتعالى أقسم بكثير من مخلوقاته، فقال تعالى: ]وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا[(الشمس-1) وقال تعالى: ]وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى[(الليل-1)وقال تعالى: ]َالتِّينِ وَالزيتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ[(التين-1، 2) وقوله تعالى: ]لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ[(الحجر-72) .
الجواب: يقال في الجواب عن ذلك: إن لله تعالى أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، وليس ذلك للمخلوقين لثبوت النهي عن الحلف بغير الله، وأن الله إنما أقسم بهذه الأشياء ليعجب بها المخلوقين، ويعرفهم قدرته لعظم شأنها عندهم، ولدلالتها على خالقها.فتح الباري11/534، وعون المعبود 9/56، وتحفة الأحوذي5/113 0
وعجبا لمثل هذا الاستدلال، إذ كيف يقاس المخلوق بالخالق؟! وهو تعالى الذي حرم
على عباده الكبر، وأحله لنفسه، وجعله رداءه. أخرجه مسلم من حديث أبي هريرةI (2620)ولفظه:" العز إزاره والكبرياء رداؤه فمن ينازعني عذبته" .
وهو القائل: ]لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُون[َ(الأنبياء-23) فلله أن يفعل ما يشاء، ولا يمكن إلحاق الخلق به فيما أحله لنفسه .
ثانيا: عن طلحة بن عبيد اللهt في قصة الأعرابي النجدي، وفيه أن النبيrقال: "أفلح وأبيه إن صدق". أخرجه مسلم (11) عن طلحة بن عبيد اللهt0
الجواب: للعلماء في الجواب على هذا الحديث عدة طرق:
الأولى: أن هذه الرِّواية غير محفوظة؛ لأن في هذا الحديث من لا يحتج به، وقد روي من وجه آخر وفيه: " أفلح والله إن صدق " وهذا أولى من رواية "وأبيه"؛ لأنها رواية منكرة تردُّها الآثار الصحاح. التمهيد 14/367.
الثانية: أن هذه اللفظة مصحَّفة من لفظ"والله" قال ابن حجر: وهو محتمل، لكن مثل ذلك لا يثبت بالاحتمال. فتح الباري 11/533، وانظر: نيل الأوطار9/124، وتحفة الأحوذي5/113 0
الثالثة: أن هذا اللفظ كان يجري على ألسنتهم دون أن يقصدوا به القسم، والنهي إنما ورد في حق من قصد حقيقة الحلف، وإليه مال البيهقي.فتح الباري 11/534، وعون المعبود 9/56، ونيل الأوطار 9/124.
الرابعة: أن القسم كان يقع في كلامهم يراد به التوكيد، قال البيضاوي: هذا اللفظ من جملة ما يزاد في الكلام لمجرَّد التقرير والتأكيد، ولا يراد به القسم. مصادر سابقة 0
الخامسة: أن هذا كان جائزا ثم نسخ، وهو المروي عن الماوردي.مصادر سابقة0
السادسة: أن هناك حذفا، والتقدير: "أفلح ورب أبيه". مصادر سابقة، وبداية المجتهد ونهاية المقتصد 1/298 0
السابعة: أن هذا خاص بالشارع دون غيره من أُمَّته، وتُعُقب بأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال، ولا دليل على كونه خاصا.مصادر سابقة0
وقد أجيب بغير ذلك إلا أن الجواب الأول هو الأقرب، ويليه أنها كانت كلمة تجري على ألسنتهم دون قصد، ثم جاءت الشريعة بإبطالها؛ سدا لذريعة الشرك، وحسما لمادته، وأيًّا كان الجواب فإنه لا تعارض بين هذا وبين النصوص المُحرِّمة؛ لأنه على تقدير سلامتها فإنها تحمل على أحد أمرين: فإما إنها مبقية على الأصل، والنصوص المُحرِّمة ناقلة عن الأصل، والمبقي على الأصل مقدم على الناقل، أو أنها من المتشابه، والمتشابه يرد إلى المحكم، كما هو متقرر عند الأصوليين.
والحق في هذه المسألة هو ما دلت عليه النصوص واختاره أكثر أهل العلم، وهو تحريم الحلف بغير الله، وأنه كبيرة من الكبائر.انظر:أحكام اليمين بالله عز وجل (80)0
وأما كونه كفرا أكبر أو أصغر، فهو بحسب ما قام في قلب الحالف من تعظيم المحلوف به، فإن كان قسمه به تعظيما له فهو كفر أكبر، وعليه يحمل الإطلاق في قوله: "فقد كفر"، أما إذا كان مجرَّد كلمة يقولها الحالف جرت على لسانه بحسب اعتياده، فهذا كفر أصغر؛ لأن العبرة في الألفاظ الشركية بمجرَّد اللفظ بها، وليس القصد، وقد سماه النبيُّ rشِرْكا، وعلى كلا التقديرين فالواجب على المسلم أن يربأ بنفسه عن مواضع الريب ويجتنبها، ويلزم منهج السلف الصالح، وليكن يميـنه بالله تعالى مع حفظه لها .
الحلف باللات والعزى، وما شابههم في تلك العصور:
أما الحلف باللات والعزى فهو مُحرَّم بالاتفاق.القوانين الفقهية1/106،وحاشية العدوي 2/25،وشرح عمدة الأحكام4، 144، وسبل السلام4/101 0
وقد يصل الحال إلى الكفر بالله إذا قام في قلبه تعظيم اللات والعزى، أما إذا كان مجرَّد كلمة تجري على اللسان فأقل أحواله التحريم؛ ولذا استلزم التوبة، والرجوع إلى التوحيد؛ ويستدل لذلك بما يأتي: -
أولا: حديث أبي هريرةtقال: قال رسول اللهr: "من حلف فقال في حلفه: واللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله، ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك فليتصدق". أخرجه البخاري (4860)، ومسلم (1647)0
قال في عون المعبود : إنما أمر بذلك؛ لأنه تعاطى صورة تعظيم الأصنام حين حلف بها، وأن كفارته هو هذا القول لا غير.عون المعبود 9/54.
ثانيا: عن سعد بن أبي وقاص t قال: كنا نذكر بعض الأمر وأنا حديث عهد بالجاهلية، فحلفت باللات والعزى، فقال لي أصحاب رسول الله r: بئس ما قلت، ائت رسول الله r فأخبره، فإنا لا نراك إلا قد كفرت، فأتيته فأخبرته فقال لي: "قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له ثلاث مرات، وتعوذ بالله من الشيطان ثلاث مرات، واتفل عن يسارك ثلاث مرات، ولا تعد له". أخرجه أحمد1/183، والنسائي (3716)، وابن ماجه (2097)، والبزار في مسنده3/341، وابن حبان 10/206، وهو صحيح الإسناد 0
قال القاري: له معنيان: أحدهما: أن يجري على لسانه سهوا جريا على المعتاد، فليقل: لا إله إلا الله، أي: فليتب كفارةً لتلك الكلمات، فإن الحسنات يذهبن السيئات، فهذا توبة من الغفلة، وثانيهما: أن يقصد تعظيم اللات والعزى فليقل لا إله إلا الله؛ تجديدا لإيمانه، فهذا توبة من المعصية.عون المعبود9/54، وشرح النووي على صحيح مسلم 11/107 0
ويلحق باللات والعزى الحلف بمن يظن الناس ولايتهم، كالحلف بالسيد البدوي أو المرسي أبو العباس، أو عبد القادر الجيلاني، أو سيدي فلان، وفلان، أو الحسين أو الحسن، أو علي رضي الله عنهم، فهذا من أقبح أنواح الحلف بغير الله، وأقربه للكفر والشرك، والله والموفق.
كتبه: د.محمد بن موسى الدالي
في 2/11/1426هـ