الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد
فإن أمر الديون، وانشغال الذمم بها من أخطر الأمور في الإسلام، وذلك أنه ما تعلق نفس المؤمن، ولا تحبس بعد موته بشيء إلا بالدَّيْن، ولا يرفعه، ولا الجهاد في سبيل الله، وقد ورد في ذلك نصوص وعيد، تحمِلُ العبدَ الفَطِنَ، إما على عدم إشغال ذمته بدَيْن أصلا، مع كونه مباحا، وقد وقع من النبي صلى الله عليه وسلم؛ حتى مات ودرعه مرهونة صلى الله عليه وسلم، وإما على سرعة المبادرة بسداد الدَّيْن، مهما كان، وفي حال التعذر يجب عليه أن يضمر النية الجازمة بالسداد عند القدرة عليه.
ومما ورد في هذا الشأن الآتي:
ما أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يُغفر للشهيد كلُّ شيء إلا الدَّين".
وعنده من حديث أبي قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال. فقام رجلٌ فقال: يا رسول الله، أرأيتَ إن قُتلتُ في سبيل الله أتكفرُ عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، إن قُتلتَ في سبيل الله وأنت صابرٌ محتسبٌ مقبلٌ غير مدبرٍ. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل: كيف قلت؟ قال: أرأيتَ إن قُتلتُ في سبيل الله أتكفرُ عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، إن قُتلتَ في سبيل الله وأنت صابرٌ محتسبٌ مقبلٌ غير مدبرٍ إلا الدَّينَ، فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك".
وأخرج أحمد وغيره بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نفس المؤمن معلقةٌ بدينه حتى يقضى عنه".
وعند أصحاب السنن عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: "خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هاهنا أحدٌ من بني فلان، فلم يجبه أحدٌ، ثم قال هاهنا أحدٌ من بني فلان، فلم يجبه أحدٌ، ثم قال هاهنا أحدٌ من بني فلان، فقام رجلٌ فقال أنا يا رسول الله، فقال ما منعك أن تجيبني في المرتين الأوليين؟ قال إني لم أنوه بكم إلا خيراً إن صاحبكم مأسورٌ بدينه، فلقد رأيته أُدِّيَ عنه حتى ما أحدٌ يطلبه بشيء".
وفي رواية: "إن صاحبكم حُبس على باب الجنة بدَيْنٍ كان عليه، فإن شئتم فافدوه، وإن شئتم فأسلموه إلى عذاب الله، فقال رجلٌ عليَّ دَيْنه فقضاه".
بل امتنع النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على المَدِين، حتى قام أحد الصحابة رضي الله عنهم وتحمله عنه، فعن جابر رضي الله عنه قال: "تـوفي رجـلٌ فغـسّلناه وكفّناه وحنّطناه ثم أتينا به رسول الله يصلي عليه، فقلنا: تصلي عليه؟ فخطا نـحوه خطوةً ثم قال: أعليه دينٌ؟ قلنا: ديناران، فانصرف فتحملهما أبو قتادة فأتيناه، فقال أبو قتادة: الديناران عليَّ، فقال رسول الله: قد أوفـى الله حـق الـغريم وبرئ منهما الميت؟ قال: نعم فصلى عليه، ثم قال بعد ذلك بيوم: ما فعل الديناران؟ قلت: إنما مات أمس، فعاد إليه من الغد فقال: قد قضيتهما، فقال رسول الله: الآن برَّدت جلدته" رواه أحمد بإسناد حسن.
فهذه النصوص وغيرها كثير جدا في بيان الوعيد الخطير المترتب على عدم أداء الدَّيْن، والموت على ذلك، وأن الدين يحبسه، حتى ولو كان من المجاهدين في سبيل الله -وما أعظمَ أجرَه- ومع ذلك منعه الدَّيْنُ من دخول الجنة، فكيف بغيره؟!
واعلم أن من الديون التي تشغل الذمة، والواجب على المسلم المبادرة بأدائها: أقساط السيارات والشقق وما شابه، والمبادرة فيها يكون بأدائها في أوقاتها المتفق عليها دون تأخير، ومن ذلك أيضا:
ما يأخذه الشخص من آخر على وجه القرض، فإن كان مؤجلا التزم بأجله، وإن لم يكن مؤجلا قضاه بمجرد القدرة عليه.
ومن ذلك: ما يثبت للدولة على العبد من حقوق انتفع بها، وهذا من أخطر ما يثبت في الذمة، حيث كانت من الأموال العامة، كفواتير الكهرباء والماء والغاز وما شابه.
ومن ذلك: ما يثبت على العبد من ضمانٍ لمتلفاتٍ، كما لو أتلف لشخص شيئا، وثبت ضمانه عليه، فعليه المبادرة بأداء ما وجب عليه.
ويدخل في ذلك الديون الثابتة في الذمة للبنوك أو الشركات ونحوه.
وفي الجملة، فكل ما يثبت في الذمة، فعلى العبد المبادرة بأدائه، وإفراغها منه، أو استحلال مالكها منها.
ومتى أمكن للمسلم تجنب الاقتراض ابتداء أو إلزام الذمة بشيء كان أولى ما حَيَا، ففي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في الصلاة ويقول: اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم. فقال له قائلٌ: ما أكثر ما تستعيذ يا رسول الله من المغرم؟ قال: (إن الرجل إذا غَرِم حدَّث فكذب ووعد فأخلف).
والله تعالى ولي التوفيق.
كتبه: د.محمد بن موسى الدالي
في 12/7/1440هـ