المسح على الخفين وما ألحق بهما
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
فإنه باديء ذي بدءٍ، فإن الشخص من حيث تعلقه بمكانه وموطنه، إما إنه مواطن، سواء كان أصليا أم مستوطنا، وإما مسافر، يرجع عند الفراغ من حاجته، وإما مقيم، وهذا بناء على تقسيم الجمهور الثلاثي للأشخاص.
والمواطِن هو من أقام بالبلد بنية عدم الانتقال عنها، سواء ولد بها أم استوطنها.
والمسافر هو من خرج من عمران بلده مع قصد سير مسافة مخصوصة، دون جزم بإقامة عدد من الأيام محدد([1]).
فإن جزم الإقامة المطلقة أو المدة التي يلزمها فيها إتمام الصلاة، كان في حكم المواطن (المقيم) من لحظة دخوله البلد، فلا يترخص برخص السفر، وقد تقدم أن الخلاف بين أهل العلم في تحديد الأيام التي يكون بها مقيما خلاف كبير([2]).
وإن لم يجزم إقامة معينة، ولم يعلم متى يخرج كان في حكم المسافر ولو كان شهورا؛ لأنه ليس بمستوطن بل منزعج انزعاج السائرين فصار بمثابة السائر([3]).
وعليه فالمقيم هو المسافر الذي دخل بلدة، فنوى أن يقيم بها إقامة مطلقة، أو نوى الإقامة بها المدة التي يلزمها فيها إتمام الصلاة([4]).
وهو بهذا القيد لا يترخص عند الجمهور برخص السفر من أول وصوله تلك البلدة التي دخلها؛ لأنه في حكم المقيم، فإن لم يجمع إقامة مدة معينة، فهو مسافر يترخص برخص السفر ما دام على هذا الوصف.
قال ابن المنذر رحمه الله: "للمسافر القصر ما لم يجمع إقامةً، وإن أتى عليه سنون"([5]).
وهذا التقسيم الثلاثي المذكور بناء على تقسيم جمهور الفقهاء المسافر إلى مسافر نوى الإقامة المطلقة أو الإقامة مدة معينة ويسمى مقيما، ومسافر لم ينوِ مدة معينة أو إقامة مطلقة فيبقى مسافرا، فكان المسافر على هذا قسمين، والقسم الثالث هو المواطن أو المستوطن.
وقد تقدم أن هذا التقسيم ليـس له أصل من كتاب أو سنة أو عرف أو لغة، بل الأدلة كتاباً وسنةً تكاد تتوافر على التقسيم الثنائي للشخص، وهو إما أنه مسافر أو مقيم مواطن أو مستوطن([6]).
وهذا التقسيم هو الأرجح دليلا، فإن أقام بمكان بنية السفر بعد فترة فهو مسافر، سواء حدد المدة ابتداء، أو كانت نيته أنه متى أراد أن يخرج خرج، على حدٍّ سواء.
ومعلوم تعلق السفر بالوطن من ناحية أن السفر هو مفارقة الوطن، أو مفارقة محل الإقامة، بناء على ما تقدم فإن هناك جملة كبيرة من الأحكام المترتبة على مفارقة الوطن والخروج منه، فإن المسلم إذا سافر كان له أن يترخص برخص السفر، ومن ذلك: الزيادة في مدة المسح على الخفين، وقد قامت الأدلة الشرعية على مشروعية المسح على الخفين، سواء في الحضر والإقامة أو في السفر، من ذلك:
أولا: حديث اَلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ مَعَ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَتَوَضَّأَ, فَأَهْوَيْتُ لِأَنْزِعَ خُفَّيْهِ, فَقَالَ: (دَعْهُمَا, فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ) فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا([7]).
ثانيا: حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالمسح على الخفين في غزوة تبوك ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوما وليلة للمقيم"([8]).
قال الإمام أحمد: "هو أجود حديث في المسح على الخفين لأنه في عزوة تبوك وهي آخر عزاة عزاها النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخر فعله"([9]).
ثالثا: حديث صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا إِذَا كُنَّا سَفْرًا أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ, إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ وَلَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ([10]).
رابعا: حديث شُرَيْحِ بن هَانِئٍ قال: أَتَيْتُ عَائِشَةَ أَسْأَلُهَا عن الْمَسْحِ على الْخُفَّيْنِ؟ فقالت: عَلَيْكَ بِابْنِ أبي طَالِبٍ فَسَلْهُ فإنه كان يُسَافِرُ مع رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلْنَاهُ فقال: جَعَلَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ لِلْمُسَافِرِ وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ([11]).
خامسا: حديث ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً, فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَمْسَحُوا عَلَى اَلْعَصَائِبِ وَالتَّسَاخِينِ([12]).
سادسا: حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أنه بال ثم توضأ ومسح على خفيه، فقيل له: أتفعل هذا؟ فقال: نعم، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه"([13]).
وإسلام جرير رضي الله عنه كان بعد نزول المائدة التي فيها قول الله تعالى: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ [ المائدة-6، وهي الآية التي قيل: إنها ناسخة للمسح، مع كونها عند التحقيق دالة صريحا على مشروعية المسح في القراءة الثانية: ] وأرجُلِكم [ بالكسر، معطوفا على قوله: ] بِرُؤُوسِكُمْ [([14]).
وقد روى مشروعية المسح على الخفين أكثر من ثمانين من الصحابة رضوان الله عليهم منهم العشرة([15]).
وبالنظر في هذه الأدلة نجد أن الشريعة الإسلامية اعتبرت الإقامة بالمكان وعدم الخروج منه أخفَّ في الرخصة من الانتقال والخروج عنه بالسفر، فأباحت للمقيم أن يمسح يوما وليلة، بينما المسافر فإنه يمسح ثلاثة أيام بلياليهن([16])، تخفيفا ومراعاة لحاله في السفر، من انزعاج وعدم استقرار واضطراب، وهذا مطَّرِد في الشرع.
وفيما يتعلق بأثر الوطن والانتقال عنه في هذا المبحث مسألتان:
الأولى: فيما إذا ابتدأ المسح مسافرا ثم أقام.
الثانية: فيما إذا ابتدأ المسح مقيما ثم سافر.
أما الأولى: وهي فيما إذا ابتدأ المسح مسافرا ثم أقام، فإن الشخص لا يخلو من حالين:
الأولى: أن يكون استكمل مدة المسح، وهو ثلاثة الأيام بلياليهن.
الثانية: ألا يكون استكملها مدة المسح.
فإن كان استكملها نزع خفيه باتفاق القائلين بالتوقيت، ولم يجز له المسح، إلا بعد الخلع ولبسهما على طهارة.
وإن لم يكن استكملها، فله حالان:
الأولى: أن يكون قد مسح أقل من يوم وليلة.
الثانية: أن يكون قد مسح أكثر من يوم وليلة.
فإن كان أقل أتم يوما وليلة، وإن كان استوفى اليوم والليلة، وجب عليه أن ينزع خفيه، وهذا هو المشهور من مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة([17]).
وخالف في ذلك ابن حزم من الظاهرية، فقال: إذا مسح المسافر أقل من يومين وليلتين ثم أقام ابتدأ مسح يوم وليلة، وإذا مسح يومين وليلتين فأكثر أتمها ثلاثة([18])، وهذا
القول رواية عن أحمد([19]).
واستدل الحنفية والشافعية والحنابلة بالآتي:
أولا: أن المسافر إذا أقام انقطعت أحكام السفر، وأخذ حكم الإقامة، فلا يجوز له أن يترخص برخص السفر.
ثانيا: أن المسح عبادة يختلف حكمها بالسفر والحضر، فغلب جانب الحضر، وفرعوا على ذلك أن المسافر إذا مسح أكثر من يوم وليلة لسفر، ثم نوى الإقامة في أثنائها بطلت صلاته؛ لأنه لما نوى الإقامة بطل المسح، فكانت الصلاة على غير طهارة.
دليل القول الثاني:
استدل ابن حزم رحمه الله ومن وافقه بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبح المسح إلا ثلاثة أيام بلياليهن للمسافر ويوما وليلة للمقيم، ولم يبح لأحد أن يمسح أكثر من ثلاثة أيام بلياليها لا مقيما ولا مسافرا، فالمنهي عنه ابتداء المسح، لا الصلاة بالمسح المتقدم.
المناقشة:
نوقش هذا القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب للمسافر زمنا يغاير زمن المقيم، وأباح في السفر ما لم يبحه في الحضر، ومعلوم أن للسفر ابتداء وانتهاء، فابتداؤه بمفارقة عمران البلد وانتهاؤه بالإقامة، فإذا أبيح للمسافر بعد إقامته أن يمسح مسح المسافر وأن يكمل مدته، فقد جمع له بين حكمين فرق الشارع بينهما، وأعطي المقيم حكم المسافر([20]).
الترجيح:
يترجح القول الأول للآتي:
الأول: أن الشخص إذا أقام انقطعت عنه أحكام السفر، تغليبا لجانب الحضر؛ وإنما غلب حكم الحضر لكونه عزيمة وحكم السفر رخصة، وإذا اجتمع العزيمة والرخصة في عبادة غلبت العزيمة احتياطا.
الثاني: أنه إذا جاز له أن يتم المدة أخذ حكم السفر وهو مقيم، وهذا تناقض، فالشخص إما أن يكون مقيما أو مسافرا، أما أن يجمع بينهما في الأحكام فهو أمر لم يعهد في الشرع.
والله تعالى أعلم.
أما المسألة الثانية، وهو ما إذا مسح وهو مقيم ثم سافر، فإن الشخص لا يخلو من حالين:
الأولى: أن يسافر بعد استكمال مدة المسح في الإقامة، ثم يشرع في المسح بعد شروعه في السفر، فهذا يمسح ثلاثة أيام بلياليهن؛ لأنه ابتدأ المسح في السفر، فوجب أن يمسح مسح مسافر، وعليه تدل الأحاديث السابقة التي أعطت المسافر الحق في أن يمسح ثلاثة أيام بلياليهن، ولا أعلم خلافا في هذا بين القائلين بالتوقيت.
الثانية: أن يمسح وهو مقيم بعد حدث ثم يسافر، فهذا لا يخلو من حالين:
الأول: أن يكون بعد تمام مدة المقيم، فلا مسح، وله أن يبدأ المسح بعد شروعه في السفر تمام مدة مسافر، ولا أعلم في ذلك خلافا.
الثانية: أن يكون بقي في المدة شئ، أو مسح ثم سافر، فهذه المسألة وقع فيها خلاف على النحو الآتي:
القول الأول:
ذهب الحنفية في المشهور عنهم إلى أنه يمسح مسح مسافر، إن كان مسح أقل من يوم وليلة، فإن تجاوز هذه المدة عاد إلى الحال الأولى، وهو رواية عن أحمد، واختاره الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله([21]).
واستدلوا بالآتي:
أولا: النصوص التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للمسافر ثلاثة أيام بلياليهن([22]).
ووجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق الحكم، فجعل المسافر يمسح ثلاثة أيام بلياليها، سواء ابتدأ المسح وهو مقيم أم وهو مسافر.
ثانيا: أن الغرض من الرخصة التخفيف عن المسافرين وهو بزيادة المدة.
ثالثا: أنه حكم متعلق بالوقت، فيعتبر آخره كالصلاة، بخلاف ما إذا سافر بعد تمام المدة؛ لأن الحدث سرى إلى القدم والسفر لا يرفعه.
رابعا: أن المسحات عبادات لا يرتبط بعضها ببعض ولا يفسد أولها بفساد آخرها فاعتبر كل مسح بالحال التي وقع فيها.
خامسا: أنه يشبه ما لو أحدث ولو لم يمسح حتى سافر، فإنه يمسح تمام ثلاثة أيام وليالهن، وإن كان ابتدأهن من حين الحدث الموجود في الحضر([23]).
القول الثاني:
ذهب الشافعية والحنابلة في المشهور عنهم إلى أنه يجب أن يمسح مسح مقيم مطلقا([24]).
وقد حكى النووي في المجموع تفصيل عند الشافعية على أربعة وجوه، كالآتي:
إحداها: لبس الخف في الحضر وسافر قبل الحدث فيمسح مسح مسافر.
الثانية: لبس وأحدث في الحضر ثم سافر قبل خروج وقت الصلاة، فيمسح مسح مسافر أيضا.
الثالثة: أن يحدث في الحضر ثم يسافر بعد خروج الوقت، فالصحيح من المذهب أن يمسح مسح مسافر.
الرابعة: أن يحدث ويمسح في الحضر ثم يسافر قبل تمام يوم وليلة، فالمذهب أنه يتم يوما وليلة من حين أحدث([25]).
الأدلة:
استدل أصحاب هذا القول بالآتي:
أولا: تغليبا لجانب الحضر، فالسفر يبيحه والحضر يمنعه، فيغلب جانب الحظر احتياطا، كما لو أحرم بالصلاة في سفينة في البلد فسارت وفارقت البلد وهو في الصلاة، فإنه يتمها صلاة حضر بإجماع المسلمين.
ثانيا: أن الشخص إذا خـلع وغسل قدميه فلا شبهة في عبادته، وإن مسح ففي عبادته شبهة.
الترجيح:
بعد النظر في أدلة هذه المسألة يترجح القول بأن من كان مقيما ثم سافر أنه يتم مسح مسافر للآتي:
أنه صدق عليه كونه مسافرا، وقد تقدمت النصوص التي تفيد كون الحكم منوطا بالسفر بإطلاق، ودون تقييد بكونه بدأ المسح في حضر أو سفر، وهذا الشخص مسافر، وكونه ابتدأ المدة في حضر لا يعني ألا يعامل معاملة المسافر فيما إذا انطبق عليه وصف السفر، كمن صام في الحضر، ثم سافر فإن له الفطر، ولا يضر كونه ابتدأ الصوم في الحضر، فكذا من بدأ المسح في الحضر ثم سافر، فإنه يتم مسح مسافر.
والله ولي التوفيق
كتبه:د.محمد بن موسى الدالي
في:20/11/1431هـ
***
([1]) انظر: تحفة الفقهاء 1/148، والفواكه الدواني 3/138، وحاشية الجمل 3/136، وكشاف القناع 4/73.
([2]) انظر: (76).
([3]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 1/411، والفروع 3/24.
([4]) انظر: المجموع 4/503، ومجموع الفتاوى 24/137، والفروع 3/59.
([5]) الفروع 2/64.
([6]) انظر: (78).
([7]) أخرجه البخاري في الوضوء / باب إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان (199)، ومسلم في الطهارة / باب المسح على الخفين (404).
([8]) أخرجه أحمد (22870) وصححه الألباني في إرواء الغليل 1 / 138.
([9]) المغني 1/322 .
([10]) أخرجه أحمد (17396)، والترمذي في الطهارة / باب المسح على الخفين للمسافر والمقيم (89)، والنسائي في الطهارة / باب التوقيت في المسح على الخفين للمسافر (126)، وابن ماجه في الطهارة وسننها / باب الوضوء من النوم (471)، قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وحسنه الألباني كما في إرواء الغليل 1 / 140.
([11]) أخرجه مسلم في الطهارة / باب التوقيت في المسح على الخفين (414).
([12]) أخرجه أحمد (21349)، وأبو داود في الطهارة / باب المسح على العمامة (125)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (146).
([13]) أخرجه البخاري في الصلاة / باب الصلاة في الخفاف (374)، ومسلم في الطهارة / باب المسح على الخفين (401).
([14]) تفسير ابن كثير 3/52 ط. دار طيبة، والنشر في القراءات العشر 2/287.
([15]) فتح الباري 1/306 ط.دار المعرفة، وانظر: أحكام السفر في الشريعة الإسلامية (52) .
([16]) وهذا هو مذهب الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة على تفصيل بينهم في سفر الطاعة وسفر المعصية، ويرى المالكية أن المسح على الخفين غير مؤقت، وأن لابس الخفين وهو طاهر يمسح عليهما ما بدا له، والمسافر والمقيم في ذلك سواء، ما لم ينزعهما، أو تصبه جنابة، إلا أنه يندب نزعه كل يوم جمعة، ويستحب كل أسبوع أيضا من اليوم الذي بدأ فيه المسح، واستدل الجمهور بالأحاديث المذكورة في أصل البحث، واستدل المالكية بالآتي:
ما رواه أبي بن عمارة قال: " قلت يا رسول الله، أمسح على الخفين؟ قال: نعم قلت: يوما؟ قال: يوما قلت: يومين؟ قال: يومين قلت: وثلاثة:؟ قال: وما شئت ". أخرجه أبوداود، وقال:وقد اختلف في إسناده، وليس هو بالقوي، ورواه ابن أبي مريم ويحيى بن إسحاق، ويحيى بن أيوب، واختلف في إسناده.أهـ. فهو حديث ضعيف لا تقوم به حجة. العلل المتناهية 1 / 358.
وما رواه الدراقطني والبيهقي بإسناد شاذ عن زبيد بن الصلت قال: سمعت عمر رضي الله عنه يقول: "إذا توضأ أحدكم ولبس خفيه فليمسح عليهما وليصل فيهما ولا يخلعهما إن شاء إلا من جنابة".
ومن النظر أنه مسح في طهارة فلم يتوقت بوقت كمسح الرأس في الوضوء والمسح على الجبائر.
ولأن التوقيت لا يؤثر في نقض الطهارة، إنما الناقض للطهارة الحدث من البول والغائط والجنابة، ولهم أدلة أخرى لا تخلو من مقال.
انظر: فتح القدير 1/ 130، ومغني المحتاج 1/ 63، وحاشية الباجوري 1/ 48، والمغني والشرح الكبير1/ 293 ط. الكتاب العربي، وبداية المجتهد 1/ 20، ومواهب الجليل 1/ 318- 324، وحاشية الدسوقي 1/ 110،152.
([17]) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق1/51، ورد المحتار 1/ 279، والأم 1/48، ومجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر 1/ 50، ومغني المحتاج 1/204، والمغني 1/329 ، وشرح منتهى الإرادات 1/60 ط. عالم الكتب.
([18]) المحلى 2/ 109-111.
([19]) الإنصاف 1/187، والعدة شرح العمدة 1/260، وقال شيخ الإسلام: "واختار هذه الرواية أبو بكر عبد العزيز الخلال، وقال: رجع أحمد عن قوله الأول إلى هذا. اهـ، وقواه في الإنصاف وغيره".
([20]) أحكام السفر في الشريعة الإسلامية (62).
([21]) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق1/51، والعناية شرح الهداية 1/155، ومجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر 1/49.
ووجه رواية أحمد الثانية: أنه وجد السبب الذي يستبيح به هذه المدة، قبل أن تنتهي مدة الإقامة، أما لو انتهت مدة الإقامة كأن يتم له يوم وليلة؛ ثم يسافر بعد ذلك قبل أن يمسح؛ ففي هذه الحال يجب عليه أن يخلع.
جاء في المغني: "اختلفت الرواية عن أحمد في هذه المسألة فروي عنه مثل ما ذكر الخرقي (أي: مسح مقيم) وهو قول الثوري والشافعي وإسحاق، وروي عنه أنه يمسح مسح المسافر، سواء مسح في الحضر لصلاة أو أكثر منها بعد أن تنقضي مدة المسح وهو حاضر، وهو مذهب أبي حنيفة لقوله عليه السلام ( يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن ) وهذا مسافر، ولأنه سافر قبل كمال مدة المسح، فأشبه من سافر قبل المسح بعد الحدث".
انظر: المغني 1/328 ، وانظر: حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء 1/22، ومختصر اختلاف العلماء 1/16، والشرح الممتع 1/ 252.
([22]) سبق تخريجها ص (68).
([23]) شرح العمدة 1/260.
([24]) الأم 8/ 104، وأسنى المطالب 1/100، وحاشية الجمل 1/ 141، والمغني 1/328، وشرح منتهى الإرادات 1/60.
([25]) المجموع 1/488.
المسح على الخفين وما ألحق بهما
المسح على الخفين وما ألحق بهما
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
فإنه باديء ذي بدءٍ، فإن الشخص من حيث تعلقه بمكانه وموطنه، إما إنه مواطن، سواء كان أصليا أم مستوطنا، وإما مسافر، يرجع عند الفراغ من حاجته، وإما مقيم، وهذا بناء على تقسيم الجمهور الثلاثي للأشخاص.
والمواطِن هو من أقام بالبلد بنية عدم الانتقال عنها، سواء ولد بها أم استوطنها.
والمسافر هو من خرج من عمران بلده مع قصد سير مسافة مخصوصة، دون جزم بإقامة عدد من الأيام محدد([1]).
فإن جزم الإقامة المطلقة أو المدة التي يلزمها فيها إتمام الصلاة، كان في حكم المواطن (المقيم) من لحظة دخوله البلد، فلا يترخص برخص السفر، وقد تقدم أن الخلاف بين أهل العلم في تحديد الأيام التي يكون بها مقيما خلاف كبير([2]).
وإن لم يجزم إقامة معينة، ولم يعلم متى يخرج كان في حكم المسافر ولو كان شهورا؛ لأنه ليس بمستوطن بل منزعج انزعاج السائرين فصار بمثابة السائر([3]).
وعليه فالمقيم هو المسافر الذي دخل بلدة، فنوى أن يقيم بها إقامة مطلقة، أو نوى الإقامة بها المدة التي يلزمها فيها إتمام الصلاة([4]).
وهو بهذا القيد لا يترخص عند الجمهور برخص السفر من أول وصوله تلك البلدة التي دخلها؛ لأنه في حكم المقيم، فإن لم يجمع إقامة مدة معينة، فهو مسافر يترخص برخص السفر ما دام على هذا الوصف.
قال ابن المنذر رحمه الله: "للمسافر القصر ما لم يجمع إقامةً، وإن أتى عليه سنون"([5]).
وهذا التقسيم الثلاثي المذكور بناء على تقسيم جمهور الفقهاء المسافر إلى مسافر نوى الإقامة المطلقة أو الإقامة مدة معينة ويسمى مقيما، ومسافر لم ينوِ مدة معينة أو إقامة مطلقة فيبقى مسافرا، فكان المسافر على هذا قسمين، والقسم الثالث هو المواطن أو المستوطن.
وقد تقدم أن هذا التقسيم ليـس له أصل من كتاب أو سنة أو عرف أو لغة، بل الأدلة كتاباً وسنةً تكاد تتوافر على التقسيم الثنائي للشخص، وهو إما أنه مسافر أو مقيم مواطن أو مستوطن([6]).
وهذا التقسيم هو الأرجح دليلا، فإن أقام بمكان بنية السفر بعد فترة فهو مسافر، سواء حدد المدة ابتداء، أو كانت نيته أنه متى أراد أن يخرج خرج، على حدٍّ سواء.
ومعلوم تعلق السفر بالوطن من ناحية أن السفر هو مفارقة الوطن، أو مفارقة محل الإقامة، بناء على ما تقدم فإن هناك جملة كبيرة من الأحكام المترتبة على مفارقة الوطن والخروج منه، فإن المسلم إذا سافر كان له أن يترخص برخص السفر، ومن ذلك: الزيادة في مدة المسح على الخفين، وقد قامت الأدلة الشرعية على مشروعية المسح على الخفين، سواء في الحضر والإقامة أو في السفر، من ذلك:
أولا: حديث اَلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ مَعَ اَلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَتَوَضَّأَ, فَأَهْوَيْتُ لِأَنْزِعَ خُفَّيْهِ, فَقَالَ: (دَعْهُمَا, فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ) فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا([7]).
ثانيا: حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالمسح على الخفين في غزوة تبوك ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوما وليلة للمقيم"([8]).
قال الإمام أحمد: "هو أجود حديث في المسح على الخفين لأنه في عزوة تبوك وهي آخر عزاة عزاها النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخر فعله"([9]).
ثالثا: حديث صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا إِذَا كُنَّا سَفْرًا أَنْ لَا نَنْزِعَ خِفَافَنَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ, إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ وَلَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ([10]).
رابعا: حديث شُرَيْحِ بن هَانِئٍ قال: أَتَيْتُ عَائِشَةَ أَسْأَلُهَا عن الْمَسْحِ على الْخُفَّيْنِ؟ فقالت: عَلَيْكَ بِابْنِ أبي طَالِبٍ فَسَلْهُ فإنه كان يُسَافِرُ مع رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلْنَاهُ فقال: جَعَلَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ لِلْمُسَافِرِ وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ([11]).
خامسا: حديث ثَوْبَانَ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اَللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً, فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَمْسَحُوا عَلَى اَلْعَصَائِبِ وَالتَّسَاخِينِ([12]).
سادسا: حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أنه بال ثم توضأ ومسح على خفيه، فقيل له: أتفعل هذا؟ فقال: نعم، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه"([13]).
وإسلام جرير رضي الله عنه كان بعد نزول المائدة التي فيها قول الله تعالى: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ [ المائدة-6، وهي الآية التي قيل: إنها ناسخة للمسح، مع كونها عند التحقيق دالة صريحا على مشروعية المسح في القراءة الثانية: ] وأرجُلِكم [ بالكسر، معطوفا على قوله: ] بِرُؤُوسِكُمْ [([14]).
وقد روى مشروعية المسح على الخفين أكثر من ثمانين من الصحابة رضوان الله عليهم منهم العشرة([15]).
وبالنظر في هذه الأدلة نجد أن الشريعة الإسلامية اعتبرت الإقامة بالمكان وعدم الخروج منه أخفَّ في الرخصة من الانتقال والخروج عنه بالسفر، فأباحت للمقيم أن يمسح يوما وليلة، بينما المسافر فإنه يمسح ثلاثة أيام بلياليهن([16])، تخفيفا ومراعاة لحاله في السفر، من انزعاج وعدم استقرار واضطراب، وهذا مطَّرِد في الشرع.
وفيما يتعلق بأثر الوطن والانتقال عنه في هذا المبحث مسألتان:
الأولى: فيما إذا ابتدأ المسح مسافرا ثم أقام.
الثانية: فيما إذا ابتدأ المسح مقيما ثم سافر.
أما الأولى: وهي فيما إذا ابتدأ المسح مسافرا ثم أقام، فإن الشخص لا يخلو من حالين:
الأولى: أن يكون استكمل مدة المسح، وهو ثلاثة الأيام بلياليهن.
الثانية: ألا يكون استكملها مدة المسح.
فإن كان استكملها نزع خفيه باتفاق القائلين بالتوقيت، ولم يجز له المسح، إلا بعد الخلع ولبسهما على طهارة.
وإن لم يكن استكملها، فله حالان:
الأولى: أن يكون قد مسح أقل من يوم وليلة.
الثانية: أن يكون قد مسح أكثر من يوم وليلة.
فإن كان أقل أتم يوما وليلة، وإن كان استوفى اليوم والليلة، وجب عليه أن ينزع خفيه، وهذا هو المشهور من مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة([17]).
وخالف في ذلك ابن حزم من الظاهرية، فقال: إذا مسح المسافر أقل من يومين وليلتين ثم أقام ابتدأ مسح يوم وليلة، وإذا مسح يومين وليلتين فأكثر أتمها ثلاثة([18])، وهذا
القول رواية عن أحمد([19]).
واستدل الحنفية والشافعية والحنابلة بالآتي:
أولا: أن المسافر إذا أقام انقطعت أحكام السفر، وأخذ حكم الإقامة، فلا يجوز له أن يترخص برخص السفر.
ثانيا: أن المسح عبادة يختلف حكمها بالسفر والحضر، فغلب جانب الحضر، وفرعوا على ذلك أن المسافر إذا مسح أكثر من يوم وليلة لسفر، ثم نوى الإقامة في أثنائها بطلت صلاته؛ لأنه لما نوى الإقامة بطل المسح، فكانت الصلاة على غير طهارة.
دليل القول الثاني:
استدل ابن حزم رحمه الله ومن وافقه بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبح المسح إلا ثلاثة أيام بلياليهن للمسافر ويوما وليلة للمقيم، ولم يبح لأحد أن يمسح أكثر من ثلاثة أيام بلياليها لا مقيما ولا مسافرا، فالمنهي عنه ابتداء المسح، لا الصلاة بالمسح المتقدم.
المناقشة:
نوقش هذا القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب للمسافر زمنا يغاير زمن المقيم، وأباح في السفر ما لم يبحه في الحضر، ومعلوم أن للسفر ابتداء وانتهاء، فابتداؤه بمفارقة عمران البلد وانتهاؤه بالإقامة، فإذا أبيح للمسافر بعد إقامته أن يمسح مسح المسافر وأن يكمل مدته، فقد جمع له بين حكمين فرق الشارع بينهما، وأعطي المقيم حكم المسافر([20]).
الترجيح:
يترجح القول الأول للآتي:
الأول: أن الشخص إذا أقام انقطعت عنه أحكام السفر، تغليبا لجانب الحضر؛ وإنما غلب حكم الحضر لكونه عزيمة وحكم السفر رخصة، وإذا اجتمع العزيمة والرخصة في عبادة غلبت العزيمة احتياطا.
الثاني: أنه إذا جاز له أن يتم المدة أخذ حكم السفر وهو مقيم، وهذا تناقض، فالشخص إما أن يكون مقيما أو مسافرا، أما أن يجمع بينهما في الأحكام فهو أمر لم يعهد في الشرع.
والله تعالى أعلم.
أما المسألة الثانية، وهو ما إذا مسح وهو مقيم ثم سافر، فإن الشخص لا يخلو من حالين:
الأولى: أن يسافر بعد استكمال مدة المسح في الإقامة، ثم يشرع في المسح بعد شروعه في السفر، فهذا يمسح ثلاثة أيام بلياليهن؛ لأنه ابتدأ المسح في السفر، فوجب أن يمسح مسح مسافر، وعليه تدل الأحاديث السابقة التي أعطت المسافر الحق في أن يمسح ثلاثة أيام بلياليهن، ولا أعلم خلافا في هذا بين القائلين بالتوقيت.
الثانية: أن يمسح وهو مقيم بعد حدث ثم يسافر، فهذا لا يخلو من حالين:
الأول: أن يكون بعد تمام مدة المقيم، فلا مسح، وله أن يبدأ المسح بعد شروعه في السفر تمام مدة مسافر، ولا أعلم في ذلك خلافا.
الثانية: أن يكون بقي في المدة شئ، أو مسح ثم سافر، فهذه المسألة وقع فيها خلاف على النحو الآتي:
القول الأول:
ذهب الحنفية في المشهور عنهم إلى أنه يمسح مسح مسافر، إن كان مسح أقل من يوم وليلة، فإن تجاوز هذه المدة عاد إلى الحال الأولى، وهو رواية عن أحمد، واختاره الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله([21]).
واستدلوا بالآتي:
أولا: النصوص التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للمسافر ثلاثة أيام بلياليهن([22]).
ووجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق الحكم، فجعل المسافر يمسح ثلاثة أيام بلياليها، سواء ابتدأ المسح وهو مقيم أم وهو مسافر.
ثانيا: أن الغرض من الرخصة التخفيف عن المسافرين وهو بزيادة المدة.
ثالثا: أنه حكم متعلق بالوقت، فيعتبر آخره كالصلاة، بخلاف ما إذا سافر بعد تمام المدة؛ لأن الحدث سرى إلى القدم والسفر لا يرفعه.
رابعا: أن المسحات عبادات لا يرتبط بعضها ببعض ولا يفسد أولها بفساد آخرها فاعتبر كل مسح بالحال التي وقع فيها.
خامسا: أنه يشبه ما لو أحدث ولو لم يمسح حتى سافر، فإنه يمسح تمام ثلاثة أيام وليالهن، وإن كان ابتدأهن من حين الحدث الموجود في الحضر([23]).
القول الثاني:
ذهب الشافعية والحنابلة في المشهور عنهم إلى أنه يجب أن يمسح مسح مقيم مطلقا([24]).
وقد حكى النووي في المجموع تفصيل عند الشافعية على أربعة وجوه، كالآتي:
إحداها: لبس الخف في الحضر وسافر قبل الحدث فيمسح مسح مسافر.
الثانية: لبس وأحدث في الحضر ثم سافر قبل خروج وقت الصلاة، فيمسح مسح مسافر أيضا.
الثالثة: أن يحدث في الحضر ثم يسافر بعد خروج الوقت، فالصحيح من المذهب أن يمسح مسح مسافر.
الرابعة: أن يحدث ويمسح في الحضر ثم يسافر قبل تمام يوم وليلة، فالمذهب أنه يتم يوما وليلة من حين أحدث([25]).
الأدلة:
استدل أصحاب هذا القول بالآتي:
أولا: تغليبا لجانب الحضر، فالسفر يبيحه والحضر يمنعه، فيغلب جانب الحظر احتياطا، كما لو أحرم بالصلاة في سفينة في البلد فسارت وفارقت البلد وهو في الصلاة، فإنه يتمها صلاة حضر بإجماع المسلمين.
ثانيا: أن الشخص إذا خـلع وغسل قدميه فلا شبهة في عبادته، وإن مسح ففي عبادته شبهة.
الترجيح:
بعد النظر في أدلة هذه المسألة يترجح القول بأن من كان مقيما ثم سافر أنه يتم مسح مسافر للآتي:
أنه صدق عليه كونه مسافرا، وقد تقدمت النصوص التي تفيد كون الحكم منوطا بالسفر بإطلاق، ودون تقييد بكونه بدأ المسح في حضر أو سفر، وهذا الشخص مسافر، وكونه ابتدأ المدة في حضر لا يعني ألا يعامل معاملة المسافر فيما إذا انطبق عليه وصف السفر، كمن صام في الحضر، ثم سافر فإن له الفطر، ولا يضر كونه ابتدأ الصوم في الحضر، فكذا من بدأ المسح في الحضر ثم سافر، فإنه يتم مسح مسافر.
والله ولي التوفيق
كتبه:د.محمد بن موسى الدالي
في:20/11/1431هـ
***
([1]) انظر: تحفة الفقهاء 1/148، والفواكه الدواني 3/138، وحاشية الجمل 3/136، وكشاف القناع 4/73.
([2]) انظر: (76).
([3]) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 1/411، والفروع 3/24.
([4]) انظر: المجموع 4/503، ومجموع الفتاوى 24/137، والفروع 3/59.
([5]) الفروع 2/64.
([6]) انظر: (78).
([7]) أخرجه البخاري في الوضوء / باب إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان (199)، ومسلم في الطهارة / باب المسح على الخفين (404).
([8]) أخرجه أحمد (22870) وصححه الألباني في إرواء الغليل 1 / 138.
([9]) المغني 1/322 .
([10]) أخرجه أحمد (17396)، والترمذي في الطهارة / باب المسح على الخفين للمسافر والمقيم (89)، والنسائي في الطهارة / باب التوقيت في المسح على الخفين للمسافر (126)، وابن ماجه في الطهارة وسننها / باب الوضوء من النوم (471)، قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وحسنه الألباني كما في إرواء الغليل 1 / 140.
([11]) أخرجه مسلم في الطهارة / باب التوقيت في المسح على الخفين (414).
([12]) أخرجه أحمد (21349)، وأبو داود في الطهارة / باب المسح على العمامة (125)، وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (146).
([13]) أخرجه البخاري في الصلاة / باب الصلاة في الخفاف (374)، ومسلم في الطهارة / باب المسح على الخفين (401).
([14]) تفسير ابن كثير 3/52 ط. دار طيبة، والنشر في القراءات العشر 2/287.
([15]) فتح الباري 1/306 ط.دار المعرفة، وانظر: أحكام السفر في الشريعة الإسلامية (52) .
([16]) وهذا هو مذهب الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة على تفصيل بينهم في سفر الطاعة وسفر المعصية، ويرى المالكية أن المسح على الخفين غير مؤقت، وأن لابس الخفين وهو طاهر يمسح عليهما ما بدا له، والمسافر والمقيم في ذلك سواء، ما لم ينزعهما، أو تصبه جنابة، إلا أنه يندب نزعه كل يوم جمعة، ويستحب كل أسبوع أيضا من اليوم الذي بدأ فيه المسح، واستدل الجمهور بالأحاديث المذكورة في أصل البحث، واستدل المالكية بالآتي:
ما رواه أبي بن عمارة قال: " قلت يا رسول الله، أمسح على الخفين؟ قال: نعم قلت: يوما؟ قال: يوما قلت: يومين؟ قال: يومين قلت: وثلاثة:؟ قال: وما شئت ". أخرجه أبوداود، وقال:وقد اختلف في إسناده، وليس هو بالقوي، ورواه ابن أبي مريم ويحيى بن إسحاق، ويحيى بن أيوب، واختلف في إسناده.أهـ. فهو حديث ضعيف لا تقوم به حجة. العلل المتناهية 1 / 358.
وما رواه الدراقطني والبيهقي بإسناد شاذ عن زبيد بن الصلت قال: سمعت عمر رضي الله عنه يقول: "إذا توضأ أحدكم ولبس خفيه فليمسح عليهما وليصل فيهما ولا يخلعهما إن شاء إلا من جنابة".
ومن النظر أنه مسح في طهارة فلم يتوقت بوقت كمسح الرأس في الوضوء والمسح على الجبائر.
ولأن التوقيت لا يؤثر في نقض الطهارة، إنما الناقض للطهارة الحدث من البول والغائط والجنابة، ولهم أدلة أخرى لا تخلو من مقال.
انظر: فتح القدير 1/ 130، ومغني المحتاج 1/ 63، وحاشية الباجوري 1/ 48، والمغني والشرح الكبير1/ 293 ط. الكتاب العربي، وبداية المجتهد 1/ 20، ومواهب الجليل 1/ 318- 324، وحاشية الدسوقي 1/ 110،152.
([17]) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق1/51، ورد المحتار 1/ 279، والأم 1/48، ومجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر 1/ 50، ومغني المحتاج 1/204، والمغني 1/329 ، وشرح منتهى الإرادات 1/60 ط. عالم الكتب.
([18]) المحلى 2/ 109-111.
([19]) الإنصاف 1/187، والعدة شرح العمدة 1/260، وقال شيخ الإسلام: "واختار هذه الرواية أبو بكر عبد العزيز الخلال، وقال: رجع أحمد عن قوله الأول إلى هذا. اهـ، وقواه في الإنصاف وغيره".
([20]) أحكام السفر في الشريعة الإسلامية (62).
([21]) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق1/51، والعناية شرح الهداية 1/155، ومجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر 1/49.
ووجه رواية أحمد الثانية: أنه وجد السبب الذي يستبيح به هذه المدة، قبل أن تنتهي مدة الإقامة، أما لو انتهت مدة الإقامة كأن يتم له يوم وليلة؛ ثم يسافر بعد ذلك قبل أن يمسح؛ ففي هذه الحال يجب عليه أن يخلع.
جاء في المغني: "اختلفت الرواية عن أحمد في هذه المسألة فروي عنه مثل ما ذكر الخرقي (أي: مسح مقيم) وهو قول الثوري والشافعي وإسحاق، وروي عنه أنه يمسح مسح المسافر، سواء مسح في الحضر لصلاة أو أكثر منها بعد أن تنقضي مدة المسح وهو حاضر، وهو مذهب أبي حنيفة لقوله عليه السلام ( يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن ) وهذا مسافر، ولأنه سافر قبل كمال مدة المسح، فأشبه من سافر قبل المسح بعد الحدث".
انظر: المغني 1/328 ، وانظر: حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء 1/22، ومختصر اختلاف العلماء 1/16، والشرح الممتع 1/ 252.
([22]) سبق تخريجها ص (68).
([23]) شرح العمدة 1/260.
([24]) الأم 8/ 104، وأسنى المطالب 1/100، وحاشية الجمل 1/ 141، والمغني 1/328، وشرح منتهى الإرادات 1/60.
([25]) المجموع 1/488.
المادة السابقة
المادة التالية