الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق، وسيد المرسلين، الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى، ولا يقول إلا حقا، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وبعد.
فإن كثيرا من مبتدعة هذا الزمان، تتجاوز بهم القنطرة، فيستدلون بالحق على الباطل، ويسخرون من النصوص ما يخدمهم، ولو بثنيها عما وضعت له، ولعل من أعجب ما تسمع من أدلتهم على مشروعية الإحداث في دين الله تعالى قوله صلى الله عليه وسلم: ( من سن في الإسلام سنة حسنة، كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ..) الحديث، والحديث على زعمهم صريح في جواز التسنين في الإسلام!!والله المستعان.
وللجواب على ذلك لابد أولا من بيان معنى الحديث باختصار:
فالحديث كما في مسلم إنما جاء في سياق حث النبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة لطائفة من الفقراء، فَأَبْطَأ الصحابة رضي الله عنهم حَتَّى رُئِيَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ إِنَّ رَجُلا مِنْ الأَنْصَارِ جَاءَ بِصُرَّةٍ مِنْ وَرِقٍ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ، ثُمَّ تَتَابَعُوا حَتَّى عُرِفَ السُّرُورُ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَلا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ .. الحديث."
والحديث كما تراه، هل فيه أن أحدا من الصحابة رضي الله عنهم أحدث أو سنَّ في الإسلام شيئا جديدا، فمدحه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ذلك؟! لا، ليس في الحديث إلا أن الرجل امتثل أمر النبي صلى الله عليه وسلم في الصدقة، وتصدق، فأين ذلك من معانيهم الباطلة؟!.
فالحديث يندب ويرغب في العمل بسنةٍ تباطأ الناس فيها، أو كسلوا عنها، أو جهلوها، أو سنة ماتت، فلم تعلم ولم تعمل بعد، فمن سنَّها للمسلمين، لا يعني أنه ابتدأ تشريعها وتسنينَها؛ إذ ليس هذا المعنى في الحديث بحال، بل هو معنى فاسد، يجعل للبشر تدخلا في تسنين الشريعة، إنما المراد "بسن في الإسلام سنة حسنة" أي: أسرع إليها، وأظهرها، وهو معنى واضح متماش مع أصول الشرع، ويحصل به صيانة الدِّين من أي تدخلات بشرية.
ومثاله: من رأى الناس تكاسلوا عن صلاة الضحى، فبينها لهم، أو تركوا الوتر، أو تركوا صفة من صفات الصلاة، فبينها، وعلمهم إياها، أو كسلوا عن عون الأرمل واليتيم، فنبههم إلى ذلك، أو تهاونوا في صدقة الفطر، فدلهم عليها .. إلخ، من الأعمال التي وضعها الشارع، ثم اندثرت أو تباطأ عنها المسلمون.
ويكون المعنى الصحيح المراد بالحديث إحياء السنن، أو الأمر بها، أو بيانها للناس، أو الدلالة عليها، لا أن يحدثوا سننا من عند أنفسهم، فهذا لم يقله أحد من كبار شراح السنة، ولا أحد من أئمة الإسلام، إنما قاله نابتة سوء، ابتلينا بهم في هذا الزمان، والله المستعان.
وعليه فحمل الحديث على معنى "جواز أن يسن المسلم ما يشاء في دين الله" ممتنع غاية الامتناع، وذلك من وجهين هامين:
الأول: أن هذا يتعارض تمام المعارضة مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) وقد كرر التحذير من ذلك مرات عديدة، وقال: ( من أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ )، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم يصدق بعضه بعضا.
الثاني: أن هذا يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو المسلمين إلى الإحداث في دين الله تعالى، ويندب لهم هذا العمل، ويجعلهم هم ومن تابعهم مأجورين على ذلك، إلى يوم القيامة!!
وهذا مع كونه متعارضا مع أصول الشرع في النهي عن الإحداث في الدين، إلا أنه قاضٍ على الشريعة بالزوال والضياع؛ إذ لو فتح الباب لعموم المسلمين أن يسنوا في الإسلام ما يشاؤون، على عظيم أعدادهم، ومع مرور أجيالهم، لأفضى هذا إلى إيجاد دين جديد.
ولك أن تتخيل أن مسلما فهم هذا الفهم السقيم من النص، فسنَّ صلاة جديدة في الإسلام، وآخر سنَّ صوما جديدا، وثالث سنَّ ذكرا جديدا، وآخر سنَّ عيدا جديدا، وملايين المسلمين سنوا ما يشاؤون، حتى ترى دينا جديدا، لا يمت إلى الإسلام بصلة، بدعوى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سن في الإسلام سنة حسنة ..)!!! فأي سقم هذا في فهم النص؟!
وأي جهل هذا في النظر إلى نصوص الشريعة، وضرب بعضها ببعض؟!
فلو أن أحدهم أنصف، وتأمل معنى الحديث، وسياقه الوارد فيه، وما يفضي إليه هذا العبث من مفاسد وطوام، لتاب إلى الله تعالى من هذه الترهات، واستغفر ربه أن يوقع عباد الله في مشاركته تعالى في وضع سنن للعباد، بفهم عجيب لكلام رسوله الكريم، والذي لا ينطق عن الهوى، صلى الله عليه وسلم !!
نسأل الله السلامة والعافية، ونسأله تعالى الفقه في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
والله ولي التوفيق
كتبه: د. محمد بن موسى الدالي
في 10/3/1441هـ