ما وجهُ اعتبارِ فوائدِ الودائعِ الجاريةِ بالبنوك ربويةً؟
وبيان حقيقة العلاقة بين البنك والعملاء أو المرابحين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد
فإن هذا الأمر بالرغم من اشتهاره بين الناس، سواء مُفتِين، أم مستفتين، إلا أن قليلا من يفهم وجه ربوية فوائد الودائع الجارية، ولربما ناقشت أحدهم فتندهش لعدم فهمه دليل ذلك!!
فأقول باختصار شديد: العقود التي يكون المال قوامها، على وجه الرد والاسترجاع، لا تتعدى أن تكون مضاربة (شركة) أو عارية أو وديعة أو قرضا. ثلاثة منها لا يكون المالُ فيها مضمونا على قابضها إلا بالتعدي أو التفريط، وهي: المضاربة، والعارية، والوديعة. فإن أتلف المضارَبُ أو المودَعُ أو المستعيرُ المالَ، بغير تعدٍّ أو تفريطٍ، فلا ضمان عليه.
ومثاله: لو أن الشخص استودع مالَ غيرِهِ وديعةً، يحفظه له، ثم سُرق مع سائر ماله، بلا تعدٍّ منه، ولا تفريطٍ، فإن المودَع لا يضمن هذا المال، حيث كانت يده عليه يد أمانة (أي: بإذن من المالك)، والأمان ينافي الضمانَ، فكما لو أن هذا المال سُرق من المالك الأصلي، فإنه لا يضمنه لنفسه، فكذا المودَع.
وكذا العارية، فلو استعار شخص من آخر قلمًا ليكتب به، فأعطاه إياه، فقد صار في لسان الفقه "أمينًا"؛ لأنه أخذ القلم بإذن من المالك، فإن تلف القلم في يده، بغير تعدٍّ منه، ولا تفريطٍ، فإنه لا يضمنه للمالك؛ لأنه بمثابة تلفه بيد المالك تماما، وهو لا يضمن لنفسه، فكذلك المستعير لا يضمنه له؛ لأنه أقامه مقامه في الاستعمال.
وكذا المضارَبُ، على نفس النحو السابق، فلا يضمن لمن ضاربه بماله إلا بالتعدي أو التفريط.
فإن حصل التعدي أو التفريط من أحد هؤلاء الثلاثة، كأن استعار القلم، فاستعمله بطريقة غير سليمة، فتلف القلم، فعليه ضمانه، للتعدي في الاستعمال.
ولو أودعه مالا لحفظه، فتركه دون حفظ، فسُرق، فعلى المودَع الضمان، للتفريط.
أما إن تلف المال في الأمور الثلاثة السابقة، بغير تعدٍّ من الأمين، أو تفريط، فلا ضمان عليه.
أما القرض: فإن المقترض ضامنٌ للمال الذي اقترضه بكل حال، سواء تعدى أم لا، وسواء فرط أم لا، وهذا ما يجعله مختلفا عن الثلاثة السابقة، فالمقترض لا يقول للمقرِض: لو سُرق المال، أو تلف، فلن أردَّه، فهذا لا يعني المقرِضَ، وله ماله بكل حال، سواء سُرق أم حُرق أم تلف، وسواء بتعد وتفريط أم لا، وهذا يسمى ضمان رأس المال بكل حال، أو الضمان المطلق.
وهو لا يكون إلا في القرض، كما تبين لك.
وبناء عليه، فإن الوديعة الجارية في البنك، وهي المال الذي يقدمه العميل للبنك، لحفظه، فإن البنك يضمنه للعميل بكل حال، ولا يتأتى للبنك أن يقول: إن تلف المال، أو سرق ونحوه، فلا ضمان عليَّ!! فهذا لا يقبله أي عميل، إنما هو يضمن البنكُ المالَ للعميل بكل حال.
وهذا ما يجعل العلاقةَ بين البنكِ والعميل علاقةَ اقتراضٍ، وليست إيداعا، كما يسمونه قانونيا، إنما فقهيا هو قرض، بسبب أنه يضمن للعميل رأسَ المال بكل حال، ولا شركة كما توهمه البعض، فالشركة تقوم على العدل، الذي هو الاشتراك في الربح والخسارة، بحصة رأس المال، وهذا لا يوجد في البنوك البتة.
فلو أن البنك أعطى العميلَ أيَّ فائدةٍ زائدةٍ على رأس المال، صارت ربوية؛ لأنه صار قرضًا جرَّ نفعًا، وهذا ربا بالإجماع، وهو بعينه ما يقع في الودائع الجارية في البنوك.
ومن ثم فالفوائدُ المدفوعة على الودائع الجارية ربويةٌ.
ويستثنى من ذلك ما إذا كان البنك يأخذ المال من العميل على وجه الشراكة، ولا يضمن له رأس المال بكل حال، ويتَّجِرُ فيه حقيقةً، وليس صوريًّا، كما هو في التمويلات والمرابحات البنكية، فهي تجارات صورية، ففي تلك الحال هذه شركة إسلامية عادلة، وحسب ما علمنا من البنك المركزي أن الاتجار منوع بكل حال على البنوك كلها، فلا يوجد هذا من حيث الحقيقة.
لكن بكل أسف، فإن البنك أيضا يتعامل مع الآمِرِين بالشراء، وهم المُمَوَّلُون، من قبل البنك، يتعامل معهم على ضمان رأس ماله هو مطلقا، فلا يخسر البتة في المرابحة، إنما هو رابح فقط، ورأس ماله مضمون بكل حال، فصار المال المقدم لهم من البنك على وجه التمويل، قرضا بهذا الاعتبار، وهو يجر نفعا للبنك، وهو الزيادة التي يتقاضاها البنك من المُمَوَّلين.
فأصبح البنك يضمن للمودِع رأسَ ماله مطلقا، فالعلاقة اقتراض، والزيادة الناتجة منها ربا.
وأصبح البنك أيضا بالنسبة للمرابِحين (الآمرين بالشراء) ضامنًا لرأس ماله هو (البنك)، فصار مقرِضا، للمرابحين، وليس شريكا، والفائدة التي يجنيها منهم أيضا ربوية.
والخلاصة، وما يهم فهمه من تلك المقالة الآتي:
- "الأمين" في لسان الفقهاء، هو: من كانت يدُهُ على المال، بإذن المالك أو نائبه، وليس كما هو في مفهوم العامة، وهو مَن يردُّ الحق!!.
- التعدي: هو فعل ما لا يجوز، والتفريط ترك ما يجب.
- علاقة البنك بالمودِع أو المرابِح (الآمر بالشراء) تقوم على الضمان المطلق لرأس المال، وهذا هو "القرض"، وعليها فأي زيادة تدفع على هذا المال في تلك الحال، وهي المسماة بـ"الفائدة"، تعد ربوية، لكونها ناتجة عن القرض، والإجماع منعقِد على أن كل قرض جر نفعا فهو ربا.
والخلاصُ من ذلك كله في الآتي:
- أن تكون العلاقة بين المودِع وبين البنك شركةً، ولا تكون شركة؛ حتى يتحقق شرطها الأساسي، وهو قيامها على العدل، وهو الاشتراك في الربح والخسارة.
- أن تكون العلاقة بين البنك وبين المرابح شركةً، كما سبق.
- أن يقوم البنك بالاتجار حقيقةً، باعتباره أكبر مؤسسة مالية، في الدول، وفيه تدخر أكثر رؤوس الأموال، ويمكنه قراءة الواقع بأدق تفاصيله، ولا يقوم على التحايل على القرض الربوي، في صورة بيع صوري، وهو ما يسمى بالتمويل البنكي، والذي سماه ابن عباس رضي الله عنهما: "درهم بدرهم بينهما حريرة"، فالبنك لا يريد السلعة، ولا يتاجر فيها أصلا، إنما قصده المال بالمال، مع الزيادة، وهو عين الربا، لكن في صورة بيع!!
والله المستعان
كتبه: د. محمد بن موسى الدالي
في 2/4/1441هـ