الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،وبعد
فمن واقع قراءة كتابات المبتدعة، وجدناهم يقررون أحكامهم بطرق غير صحيحة، مردودة، لا أساس لها في أصول أهل العلم والاستدلال، ومن ذلك الآتي:
- أن ذكر الكلب في قصة أصحاب الكهف دليل على فضل الكلب، وعلى طهارته .. إلخ!!
والجواب: ليس في العلم كله أن مجرد ذكر الشيء في القرآن دليل على فضله، أو رفعة مكانته، مع أن الله تعالى ذكر الكلب كمضرب للسوء في كتابه العزيز، وهذا أولى بالتقديم على ذكره في قصة أصحاب الكهف، فإنما ساقه الله تعالى كمثل مهين (فمثلُهُ كَمَثَلِ الكلب) بصيغة تقبيحية عظيمة، ومع ذلك تغافلوا عنها، وعن سائر ما ورد في السنة في أحكام الكلب، من كون نجاسته مغلظة، وأنه مانع من دخول الملائكة البيت، وأن اقتناءه منقص للأجر، كل يوم قيراطين، مع أن غاية ما ورد في القصة أن الله تعالى قال: (وكلبُهُم باسِطٌ ذراعَيْهِ بالوَصِيدِ)!
والجواب: أن مجرد ذكر الحيوان أو غيره في القرآن، لا علاقة له بالحكم بأي وجه من الوجوه، فهذا الهُدهُد داعيةُ التوحيدِ في القرآن، وتلك النملة مِنْ أبلغ مَنْ نطق، ومع ذلك كلاهما محرم الأكل، وذكر الحمار وذمه، وبقي حلالا مباحا أول الأمر حتى حُرِّم، فذِكْر الشيء في القرآن مقام، والحُكم مقامٌ آخر.
- بناء المسجد على أصحاب الكهف، مما يدل على جواز بناء المساجد على الأموات من صالحين وغيرهم! وهذا أعجب من ذي قبل، فهذه شريعة أخرى، وإقرار الله تعالى لهم في كتابه لا يعني أنه جائز في شريعتنا، فإنما حكاه الله تعالى، كما حكى غيره، وسكت عنه، وكما سمى آلهة الكفار آلهةً، فقال: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ} [الإسراء: 42]فهل تسمية الله لهم في كتابه "آلهةً" يعني أنهم حقيقة آلهة؟! وهذا تكرر كثيرا في الكتاب العزيز.
ناهيك عن كون الشريعة حرمت هذا الباب، وشددت فيه غاية التشديد، بنصوص صحيحة صريحة، حتى كان آخر ما قال صلى الله عليه وسلم، وهو على فراش الموت: ( ألا لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، إلا فإني أنهاكم عن ذلك) هذا وهو يموت، وغيره من النصوص الكثيرة في هذا الباب، والحافظة لجناب التوحيد، وصد كل ما يناقضه، ومع ذلك مازالوا يستدلون بقوله تعالى: { قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا } [الكهف: 21] مع أنها مقالة أهل الكفر، وليس الموحدين في ذلك الزمان!! فتأمل.
- وجود قبر النبي صلى الله عليه وسلم في مسجده الآن، وهذا باب آخر في الاستدلال الخاطيء، فما وجه الدليل بفعلٍ وقع بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو بأيام، وهو مخالفٌ لما مات عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فضلا عن فعلٍ وقع بعد موته عليه الصلاة والسلام بقرابة ثمانين عاما، فإن أول توسعة وقعت للمسجد النبوي كانت في السنة الثمانين تقريبا من الهجرة، بعد أن مات جل الصحابة رضي الله عنهم، ثم احتاجوا لتوسعة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وليس أمامهم إلا أحد أمرين:
إما نبش القبر النبوي، وإخراج جسده الشريف عليه الصلاة والسلام، أو إبقاؤه وتوسعة المسجد، مع إحاطة القبر بسياج كبير متين، وهذا ما وقع بالفعل!
وقد تم في عهد عبد الملك بن مروان، وحضره قلة من الصحابة رضي الله عنهم، وبإشرافهم، وقد نقل أن البعض منهم كان غاضبا على ذلك.
فما علاقة هذا بحكم بناء المساجد على القبور، والذي حرمه الشرع وشدد فيه، كما سبق؟!فيستدلون بفعلٍ وقع بعد تقرر الشريعة بعشرات السنين، وينقضون به الأدلة المتقررة العظيمة في الباب، فأين هذا الاستدلال في أصول علم الشريعة؟! .
- رفع الصوت بالذكر دبر الصلاة، وأنه كان للتعليم:
الثابت في الصحاح أن السنة الجهر بالذكر بعد صلاة الفريضة دون اجتماع عليه، فالاجتماع عليه من البدع، أما الجهر، فهو في البخاري ومسلم وغيرهما، ومن أكثر من طريق، وعن أكثر من صحابي، فالمسألة متقررة بما لا يحتمل النزاع.
لكن ذهب البعض إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما جهر بالذكر ليعلِّم الناس، ويقصدون بذلك أنهم إن تعلموا فلا جهر!
وهذا أيضا خطأ في الاستلال، إذ يمكن أن نبطل بهذه الطريقة كلَّ السنة العملية، وأن ندَّعِي أن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها للتعليم، ثم تُترك!!
إنما يقال: هذا فعله النبي صلى الله عليه وسلم للتعليم إن قامت القرينة على ذلك، فإن قامت القرينة على أنه فعل من أجل التعليم ثم ترك، فنقول هذا للتعليم، كصلاته صلى الله عليه وسلم على درج مرتفع أمام الصحابة رضي الله عنهم، وقد قال: إنما فعلت ذلك لتعلموا صلاتي، ثم ترك ذلك، فهذا للتعليم ولا شك، ولا يقال: السنة الصلاة على درج مرتفع! إنما فعله النبي صلى الله عليه وسلم للتعليم ثم تركه.
كما أن كل ما يفعله النبي صلى الله عليه وسلم أصلا للتعليم والاتباع، فما الذي يخرج الجهر بالذكر بعد الفريضة عن هذا الأصل؟!
على أنه يمكن أن يقال: إنما جهر النبي صلى الله عليه وسلم ليعلِّم الناس أن نفس الجهر سنة؛ لأنه لم يبين بعد ذلك أنه إنما جهر ليعلِّمهم، بل جَهَرَ وسَكَتَ، فدل على أن الجهر مقصود في الذكر بعد الفريضة.
كما أن الأصل مداومة النبي صلى الله عليه وسلم على العمل، فكان إذا عمل عملا أثبته، ولم يرد أنه ترك الجهر، وكذا الصحابة رضي الله عنهم، لم يرد أنهم تركوا الجهر، والأصل فيهم اتباعه صلى الله عليه وسلم.
كما أنه ورد في حديث أهل الدثور أنه علمهم ما يقولون دبر الصلاة، يسبحون ويحمدون ويكبرون ثلاثا وثلاثين، فهذا النص هو النص الصريح في أنه للتعليم، فيكون جهرُه بعد ذلك بالذكر بيانًا لكيفية هذا الذكر.
وبهذا يبطل استدلالهم، ويبقى الجهر بالذكر دبر المكتوبات، دون اجتماع عليه من السنة.
- مما يستدلون به على جواز سفر المرأة بغير محرم، قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن طالت بك حياة، لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف أحدا إلا الله).
وهو استدلال غير صحيح؛ وذلك أن مثل هذه النصوص تبين صفة زمن من الأزمنة، ولم تُسَق لبيان الحكم الشرعي، ونظيره حديث: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر.. وفيه أنهم اليهود والنصارى) فهذا الحديث يبين أنه يأتي زمانٌ من صفتِهِ أن يتبع المسلمُ اليهودَ والنصارى! فهل يقول قائل بجواز ذلك؟!
وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا تقوم الساعة، حتى يلحق حيٌّ من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان، فإن وقع هذا، فهل هو دليل على جواز عبادة الأصنام أو اللحوق بالمشركين؟!
مثل هذه النصوص تبين حال الأمة في زمن دون زمن، سواء على وجه المدح أم الذم، ولم تُسَق أصلا لبيان الحكم الشرعي للمثل المضروب.
فحديث الظعينة يبين حال الأمن الذي تصل إليه الأمة، والذي يمكن للمرأة فيه -من شدة الأمن- أن تسافر من كذا إلى كذا، وهذا لا يعني أنه يجوز لها السفر بغير مَحْرَم، إنما هو دليل على شدة الأمن، أما حكم السفر بغير محرم، فهو من مُحْكَمَات شريعة الإسلام، وقد ورد نصوص عديدة في اشتراطه، والقاعدة العريضة أنه عند الاشتباه ترد المُشتبَهات إلى المُحكَمات، كما هو دأب الراسخين من أهل العلم، أما ترك النص المُحْكَم البيِّن الواضح، والتعلق بمثل ذلك، فهو دأب المدلسين، فنص الظعينة يعتبر من المُشتبَهات في الدلالة، فيرد إلى أحاديث اشتراط المحرم المُحكَمَة.
والله الموفق
كتبه: د. محمد بن موسى الدالي
في 10/6/1441هـ