الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد
فمع دراسة الفقه والتوسع في ذلك يظهر للدارس مهارات الفقهاء في الاستدلال، وطرقهم الذكية، وعلى الطالب أن يجمع بين الحين والآخر تلك الطرق، ويدونها، كأصول له في النظر فيما بعد، ومن ذلك الآتي:-
حديث: "كنا نعزل والقرآن ينزل"، فهذا يقرر قاعدة عظيمة، وهي أن ما فعل زمن التشريع، ولم يرد فيه تنبيه أو إنكار من الشرع، فهو جائز، فقولهم: "كنا نعزل والقرآن ينزل" أي: يعزلون عن النساء عند جماعهم، فهذه المقالة مفادها: ولو كان هذا مما ينهى عنه الشرع لنهانا، فالقرآن ينزل وسكت عما نفعله، مما يدل على جوازه.
وفيه رد على من قال: إن الفعل قد يقع من الصحابة رضي الله عنهم، ولا يراه النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يكون حجة! وهذا خطأ، فإنه ولم يره النبي صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى رآه، والزمن زمن تشريع، فلم سُكِت عنه دل على جوازه.
- سهو المأموم، فالصحابة رضي الله عنهم يصلون خلف رسول الله صلى الله عليه، ومعلوم أنه يصيبهم السهو شأنَ الناسِ، ولم يكن أحد يبتدر فيسال النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يسألهم على ذلك، ولم يكن ينبههم على شيء من ذلك، مما يدل على أن الأمر معفوٌّ عنه، ومن ثم انعقد الإجماع على أن سهو الإمام لا سجود له.
وهذا فيما لو أدرك الصلاة كاملة مع الإمام، أما إن انفرد فله أحكام أخرى.
فالدليل هو: حال الصحابة رضي الله عنهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسكوت الشرع عن سهوهم.
- قاعدة "ليس في الصلاة سكوت"، في الحديث الصحيح أن أبا هريرة رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة، ماذا تقول .. الحديث)، فدل على أن المتقرر عندهم أن لا سكوت في الصلاة، وإلا لم يكن للسؤال داعٍ! لذلك قيل: (لا سكوت في الصلاة).
- في الحديث: كان النبي صلى الله عليه وسلم يوتر على راحلته "غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة"، فهذا القيد الأخير"غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة" يدل على أن المتقرر عند الصحابة رضي الله عنه: أن ما ثبت في الفرض ثبت في النفل، وإلا لم يكن للاستثناء فائدة؛ إذ استثنى الناقلُ خشيةَ أن يعم هذا الحكم الفرضَ كما هو في النفل، وكأنه يقول: لا تظن أن الصلاة على الراتبة في الفريضة أيضا، إنما هي في النفل فقط؛ لأن المتقرر عندهم أن الذي يثبت هنا يثبت هنا، فاحتيج للاستنثناء، ومن ثم أخذت هذه القاعدة: "أن ما ثبت في الفرض ثبت في النفل، والعكس".
- جاء في حديث نوم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما استيقظ صلى النافلة ثم الفريضة، وجهر فيها، فقد استدل بذلك شيخ الإسلام وغيره على أن النائم إن استيقظ مطلقا، يؤدي الراتبة، ثم الفريضة، حتى ولو استيقظ قبيل طلوع الشمس بما يسع الفريضة أو جزءا منها؟!!
فهذا الاستدلال من جنس ما نحن فيه، غير أن هذا في الحقيقة محل نظر، إذ الحديث في باب آخر، فهنا كلتا الصلاتين فات وقتهما، الراتبة والفريضة، فالترتيب بينهما في الأداء متعين، إنما من استيقظ قبل طلوع الشمس، بما يسع الفريضة، باب آخر، وإلحاقه بالأول محل نظر، فهذا الشخص مطالب شرعا بأداء الفرض قبل خروج الوقت، ولا وجه لتقديم الراتبة؛ إذ ليست شرطا، ولا واجبا للفريضة حتى تتقدم، مع كونه يمكن أن يأتي بها بعد الفريضة، ولو كان الوقتُ وقتَ نهيٍ، مع أن الشرع يقول: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة، وهو عام يشمل من تأخر بنوم أو غيره، حتى تضايق وقت الصلاة فهو مطالب بالفريضة، ولو أدرك ركعة منها، فكيف إن أدرك الفريضة كاملة؟! فلا شك أن الفريضة أولى بالتقديم على الراتبة، والله أعلم.
فتأمل..
كتبه: د. محمد بن موسى الدالي
في :12/6/1441هـ