الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد
فإنه من المعلوم في بعض بلاد المسلمين ما يسمى بعقد الإيجار القديم، والذي يعطي الحقَّ للمستأجر في البقاء في العين المؤجرة، مابقيت العين، ولو بقيت عشرات السنين، ومن سوء هذا العقد أن قيمة الإيجار تبقى كما هي، بالرغم من نقصها نقصا شديدا، الله المستعان.
وهذه المسألة تدخلها تفاصيلُ كثيرةٌ، لا يتسع المقام ولا الوقت لبسطها، ولعلي أوضح ما تيسر:
أولا: قول كثير من الفقهاء أن عدم تحديد المدة، وتركها بدون توقيت يفضي إلى فساد العقد؛ لأن هذا يفضي -حسب قولهم- إلى جهالة المنفعة، فيؤول إلى فساد العقد!!.
وهذه المقدمة لا تُسلَّم، بل إن المنفعة معلومة بكل حال، وهي السكنى، وعدم تحديد المدة، أو تحديد مدة طويلة جدا، لا يفضي بحال إلى جهالة المنفعة، فكل ساكنٍ في عينٍ، يعلم منفعتها بكل وضوح، وهو السكن فيها، فلم يفضِ الجهلُ بالمدة إلى جهالة المنفعة، على أن عقد الإجارة أصلا مختلف فيه، وسببه أن المنفعة ابتداءً غير موجودة، وعليه فالعقد على معدوم، غير أنه لما كان المؤجر يستوفيها يوما بيوم، وكان استيفاء تلك المنفعة غالبا حاصل، كما هو بالاستفاضة في مستأجرات الناس جميعا، فاحتُملت هذه الجهالةُ -والتي مآلها إلى العلم والتحصيل- لما فيه من مصلحة للطرفين: المالك والمستأجر، فتضاءلت تلك المفسدةُ إزاءََ تلك المصلحةِ، فاغتُفِرت.
ثانيا: المالك الأصلي دخل في هذا العقد على بصيرة، وأنه أشبه بعقد تمليك، وقد رضيه ابتداءً، ولم يكن عنده إشكال أن تَطُول المدة، بل بالعكس، كان يخشى خروج المستأجر، وهذا أمر يعلمه كثير من الناس ذلك الحين، فكان أكبرُ هَمِّ المالكِ أن يخرج المستأجرُ من العين، والتي ربما تمكث سنواتٍ بدون مستأجر!! لذلك تجده يغضُّ الطرفَ تماما عن طول المدة؛ أملا في استمرار المستأجر.
وعليه فمصلحة المالك حقيقةً بقاء المستأجر أعواما طويلة، وسكوته عن ذكر المدة في العقد مقصود، وهو مصلحته.
ثالثا: وهي النقطة الأهم في الموضوع: وهي دفع الظلم عن المالك؛ وذلك أن المالك أجَّر بأجرة المثل ذلك الوقت، ولتكن مثلا خمسة جنيهات للشهر، وفي ذلك الوقت هذا المبلغ يعد قيمة شرائية كبيرة، تغنيه أحيانا لمدة شهر، وفي بلد كمصر تناقصت قيمة الجنيه بشكل عظيم فاحش، حتى أصبحت تلك الخمسة لا تساوي شيئا، والعَدلُ في ذلك ليس رفع خمسة الجنيهات إلى عشرين أو خمس وعشرين جنيها مثلا!!! فهذا ظلم بَيِّنٌ على المالك.
وما يجب أن يقال في تلك الحال: أن ينظر للقيمة الشرائية ذلك الوقت لتلك الأجرة، وتربط بثابت من ذهب أو أرض ونحوه، فيقال مثلا: خمسة جنيهات ذلك الوقت تعادل عشرة جرامات من الذهب، فيعطى في هذا الزمان -كأجرةٍ- ما يعادل عشرةَ جرامات من الذهب، فهذه القيمة التي ارتضاها المالكُ في هذا الوقت، وهي مناسبة الآن، فتصل الأجرة إلى قرابة 800 جنيه، وهذا عادل.
وهذا من الناحية الشرعية واجبٌ حتْما على المستأجر، وبقاؤه في العين بتلك الأجرة القديمة محض ظلم وأكل مال بالباطل، ولا يشفع له عند الله تعالى أن القانون القائم يحميه، أو يزيده تلك العشرين جينها!!
لكن من باب الإنصاف يجب أن ينظر إلى أن تلك الشقة كانت وقت الإيجار الأول جديدة، وأصبحت الآن قديمة، وربما متهالكة، وهذا له أثر قطعا في قيمة الإيجار، فيقال: إن كانت حديثة فأجرتها 800 جنيه شهريا، لكن مِثْلُها الآن يقدر بـ 500 جنيه.
أو يترك الأمر من أوله لأهل الخبرة، فيقال: تلك الشقة التي كانت بخمسة جنيهات، لو أُجِّرت اليومَ كم أجرتُها؟ وتعطى هذه الأجرة إلى المالك.
فهذا عدل للجانبين: المالك والمستأجر.
رابعا: فسخ العقد، وهو يَرِدُ على المالك الأصلي، أو على وراثه، أما المالك الأصلي الذي أعطى عقدا مؤبدا، ولم يذكر فيه مدة، فهو مخطيء، ولا شك، ويقال له: أنت دخلت في هذا العقد على بصيرة، وكانت تلك مصلحتك، ومع ذلك إن أنصفه القانون الجديد، وفسخ العقد بعد ضرب مدة معينة، فهذا حسن، وهو إلى العدل أقرب، سيما إن المالك الأصلي قد يرغب في هدم البناء -كما هو كثير الآن- ويبني غيره، وربما لو أعطي الأجرة العادلة -كما سبق أعلاه- يتراجع عن هذا القرار، وبكل حال لو أنصفه القانون، وضرب له مدة بعدها ينتهي العقد، لكان حسنا وعادلا.
أما إن كان المالك قد مات، والعقد غير مؤقت بمدة، فالذي يظهر لي أنه بموته ينفسخ العقد، ويحق للوارث أن يُمضِي العقدَ القديم كما هو، أو يجدده ويرفعه لأجرة المثل، أو لا يجدده، لاعتبارات كثيرة، ويجب شرعا على المستأجر تسليم العين لوارث المالك، ولا يماطل في ذلك.
ومازالت تلك المسألة تحتاج إلى توسع في البحث أكثر،
والله تعالى أعلم
كتبه: د. محمد بن موسى الدالي
في 15/3/1443هـ