في الرَّد على من يقول: البنكُ لا يقول للمُودِع: سلفني، فليس في العلاقة بينهما قرض!!
هل شرطٌ في القرض أن يقول الشخص: سلِّفْني؟
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد
فإن بعض الناس فهم القرض فهما خاطئا، واعتقد أن شرطه المطالبة بالتسليف فقط، فلا بد أن يقول شخص لآخر: سلفني!
فهذا فقط عندهم هو القرض، فإن انتفت تلك العبارة :"سلفني" ما شابهها، فإنه لا قرض.
وتلك المعيارية في معرفة هذا العقد خاطئة جدًّا، بل لا أصل لها عند الفقهاء، فإن العقد عندهم عموما يثبت متى وجدت صفاته، وشروطه، وينتفي بانتفائها.
فإن وجد العِوَض على وجه المبادلة التامة في معاملة، فهي بيع، ولو سماها الناس هدية أو هبة أو غيره.
ومتى وجد العِوَض مقابل الانتفاع بمنفعة عين، فهو عقد إجارة، ولو سماها الناس ترضيةً ونحوه.
ولو دفع شخص عينا لشخص على وجه الإعارة، مع ردها إليه بعينها، فهو عقد عارية، ولو سماه الناس بغير ذلك.
ولو ضارَبَ أو شارك شخصٌ شخصا آخر، مع التزامه برد رأس المال كله حال الخسارة، وضمانه له، وعدم مشاركته في الربح والخسارة، فليست شركة شرعية، موافقة لدين الله، ولو سموها استثمارا، حتى يلج الجمل في سم الخياط، وهلم جرًّا.
فالعبرة في تحقيق أي عقد، هو بوجود شروطه، أو صفته المعروفة لدى أهل التخصص، فيوجد شرعًا بوجودها، وينتفي شرعا بانتفائها.
والقرض هو العقد الذي يترتب عليه أمور أربعة:
الأول: ضمان رأس المال.
الثاني: نقل الملك على وجه التمام في المال المُقترَض إلى المقترِض.
الثالث: جواز تصرف المقترِض في هذا المال، تصرُّفَ المُلَّاك.
الرابع: ثبوت المال (محل القرض) في ذمة المقترِض، وليس في عين ماله.
فمتى وجدت تلك الأمور الأربعة، فالمعاملةُ قرضٌ، وهذا ما عليه الناس عامة، قبل الإسلام، وليس الإسلام من أوجد هذا.
وقد كان الناس سابقا يضعون أموالهم كودائع عند من يثقون في صدقهم وأمانتهم، وصفة الوديعة أنها أمانةٌ الواجبُ حفظُها لمالكها، ثم ردها، دون مساس، ولا تصرف فيها، ولا يحصل بالإيداع انتقال ملك، فتلك صفة الودائع.
وكان الناس يودعون أموالهم عند الزبير بن العوام رضي الله عنه لثقتهم في صدقه وأمانته، والأمين ليس بضامن لهذه الأمانة، لو تلفت باحتراق ونحوه، أو ضاعت أو سرقت، مادام لم يقصر في حفظها، ولم يتعدَّ فيها، فلا ضمان عليه إلا لو تعدى أو فرط، وبغيرهما ينتفي الضمان.
فكان الزبير رضي الله عنه من شدة فقهه وورعه وحرصه على أموال الناس، لا يقبل منهم أموالهم على أنها وديعة، بل على أنها "سلف" أو "قرض" ليصبح مضمونا عليه، وكذلك ليتمكن من التصرف فيه تصرف الملاك، ويطيب له ربحه، ثم يضمن المال كله للشخص الذي دفعه إليه.
قال عبد الله بن الزبير رضي الله عنه كما في البخاري، في الديون التي كانت على والده: "... وإنما كان دَيْنه الذي عليه أن الرجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إياه؛ فيقول الزبير: لا، ولكنه سَلَفٌ!!، فإني أخشى عليه الضيعة..". .
فهنا لم يكن الزبير رضي الله عنه فقيرا ولا محتاجا، ولم يذهب لأحد، ويقول: "سلفني"، ولا غير ذلك، بل كان من أغنياء الصحابة رضي الله عنهم أو أغناهم، فقد كان بين الناس بمثابة البنك اليوم، وكما تلاحظ من فقهه الشديد أنه اكتفى بإيجاد صفات القرض، وهي ضمان رأس المال للمالك، وانتقال الملك إليه، حتى يتمكن من التصرف في المال، وبالتالي يربح فيه، ويبقى المبلغ في ذمته، مضمونا بكل حال لمالكه.
سواء ربح أم خسر، وسواء بقي المال أم ضاع أو تلف، ولم يلتفت أصلا لكونه يبادر بقول: سلفني! إنما بنى الحكم على وجود صفته.
قال ابن حجر رحمه الله تعالى في فتح الباري:
"قوله: "لا، ولكنه سلف" أي: ما كان يقبض من أحد وديعة إلا إن رضي صاحبها أن يجعلها في ذمته، وكان غرضه بذلك أنه كان يخشى على المال أن يضيع؛ فيُظن به التقصير في حفظه؛ فرأى أن يجعله مضموناً فيكون أوثق لصاحب المال وأبقى لمروءته".
زاد ابن بطال: "وليطيب له ربح ذلك المال" .
وقال ابن حجر أيضا: "وفيه مبالغة الزبير في الإحسان لأصدقائه؛ لأنه رضي أن يحفظ لهم ودائعهم في غيبتهم، ويقوم بوصاياهم على أولادهم بعد موتهم، ولم يكتفِ بذلك حتى احتاط لأموالهم وديعةً أو وصيةَ، بأن كان يتوصل إلى تصييرها في ذمته مع عدم احتياجه إليها غالباً، وإنما ينقلها من اليد للذمة مبالغة في حفظها لهم".
فهذا كله لفهمه رضي الله عنه الفرقَ بين الوديعة والسلف من حيث الحقيقة، مع عدم التفاته أصلا للمبادرة بعبارة: سلفني!!!]
فهذا الفقه العزيز، هو مربط الفرس في تلك المسألة، وهو التفريق المتقرر عند الصحابة رضي الله عنهم، وغيرهم من أهل العلم بين القرض (السلف) وبين الوديعة من حيث الحقيقة، وأنه متى وجد صفات العقد حكم به، سواء قصد لفظه المتعاقد أم لا، فالناس في الجملة عوامٌّ، ليسوا من أهل التحرير والتدقيق في العلم، والألفاظ العلمية، فتقع تسمياتهم، وفق فهمهم وعلمهم هم، وليس وفق التسميات الفقهية الصحيحة، ثم يقوم الفقيه المتخصص لإفراز حقيقة هذا العقد من واقع وجود صفاته، أو نفيِهِ بانتفائها.
وعليه، ومن لازم القول: إنه ليس شرطا في البنك أن يقول للعميل: "سلفني"، بل متى وجدت الأمور الأربعة في المعاملة، فهي إقراض.
فإن سماها البنك استثمارا ونحوه، فنبحث عن شرط الاستثمار، وهو قيام العلاقة على العدل، والاشتراك في الربح والخسارة، وعدم الضمان المطلق لرأس المال، فهذا الشرط الأساس في الشركة في الإسلام، وهو منتفٍ تمام الانتفاء في تلك المعاملة، فلم تصح تسميتهم، وتقع لاغية.
بينما الأمور الأربعة السابقة (سمات القرض) كلها متوفرة في العلاقة بين البنك والمودع، وعليه فهي قرض، ولا عبرة بتسميتهم أيًّا كانت.
والله الموفق
كتبه: د. محمد بن موسى الدالي
في 26/2/1444هـ