ما المراد بقولهم: (كل قرض جر نفعًا، فهو ربا)
وما المنفعة المباحة في هذا الباب؟
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد
فإن مراد أهل العلم بهذه العبارة التي تناقلها السلفُ، بدايةً من صدر الإسلام، من التابعين وغيرهم من أهل القرون المفضلة، ومَنْ بَعدهم، إلى زماننا هذا، مرادهم بهذه العبارة: "كل قرض جر نفعًا فهو ربا"، أي: كل قرض شُرط فيه منفعةٌ متمحضةٌ للمقرضِ، على المقترض، فهي ربوية.
كأن يقول: أقرضك على أن أسكن في بيتك، أو أقرضك على أن أركب سيارتك، أو أقرضك على أن ترهنني قلمك، أكتب به، أو طلب منه مقابل القرض أن يساعده في عمل وحَمْل ونحوه، أو مقابل القرض أن يبيعه، وينقص في ثمن السلعة، أو يؤجره، وينقص في الأجرة، فكل هذا لا يجوز، لكونه نفعا مشروطا للمقرض، وربما لم ينشيء القرض إلا من أجله.
وقد جاء في الأثر عن ابن سيرين قال: أقرض رجل رجلا خمسمائة درهم، واشترط عليه ظهر فرسه، فقال ابن مسعود: "ما أصاب من ظهر فرسه فهو ربا".والآثار في ذلك كثيرة جدا.
والتحرير: أن المنفعة المقصودة في تلك العبارة، هي المنفعة المشروطة من المقرض، المتمحضة له، على المقترِض ابتداء، ويزيد بعض الفقهاء أن تكون تلك المنفعة هي الموجِبة لعقد القرض أصلا، فلولاها ما أقرضه، كما لو أقرضه ليأخذ زيادة شهرية، فتكون دخلا للمقرض، فهو لم يقرضه إلا من أجل الزيادة، وهذا من أقبح الربا.
ووجه تحريم الفائدة في عقد القرض: أن الأصل فيه أنه للإرفاق والتخفيف، وشرط الفائدة يُخرِج العقدَ عن بابه إلى باب المعاوضات، واستغلال حاجة المقترض.
أما وجود منافع في عملية القرض عموما:
فليس مطلق المنفعة في القروض محرمة؛ إذ ذلك لا ينفك عنه قرضٌ، فالمقترض قطعًا ينتفع بالقرض، بشراء أو بناء ونحوه، بل حتى المقرض أحيانا ينتفع بإقراضه، بحفظ ماله عند المقترض ونحوه، كما ينتفع بالأجر والثواب أيضا، وهو نفع معنوي.
وأيضا هناك بعض النفع غير المقصود، كما لو أن المقرض أراد استيفاء دينه، فذهب إلى المقترض يطالبه بالسداد، وجلس على كرسيه، وانتفع بمصباحه ومكيِّفِه، فهنا انتفع المقرض من المقترض، لكنها ليست مشروطة، ولا يمكن الانفكاك عنها، فلا يقال: تلك منافع ربوية!
كما لا يدخل في تحريم النفع ما لو نفع المقترضُ المقرضَ بطيبِ خاطرٍ منه، بغير شرط، ولا شبهة فيه، فقد قام دليل السنة على جواز الزيادة على أصل القرض، إن لم تُشرط، ولم يكن فيها شبهة، أما إن قامت الشبهة، فإن الورع ترك تلك المنفعة.
ودليل جواز انتفاع المقرض من المقترض لو كان بغير شرط: ان رسول اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ استسلف بَكْرًا، ولم يجد إلا خِيارًا رباعيًا، وهو سِنٌّ أعلى في الإبل، فقالَ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: (أعطِهِ إيَّاهُ، فإنَّ خيارَ النَّاسِ أحسنُهُم قضاءً).
فهنا زاده المقترِض وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم عند السداد، لكن لم يكن مشروطا عليه، وبرضا تامٍّ منه وإحسانٍ، فجرى مجرى التبرع.
ويدخل في ذلك ما لو جرى بينهما الهدية قبل القرض، فلا بأس في الهدية من المقترض للمقرض إذن، ودليله حديث أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال: الرجُلُ منا يُقرِضُ أخاه المالَ، فيُهدي إليه؟ فقال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (إذا أقرَضَ أحدُكم قرضًا، فأَهْدى إليه، أو حمَلَه على الدَّابَّةِ؛ فلا يَرْكَبنَّها، ولا يَقبَلْه إلَّا أنْ يكونَ جَرى بيْنَه وبيْنَه قبْلَ ذلك).
غير أن الأحوط في تلك الحال تركها ما دام القرض باقيا؛ خروجا من الشبهة.
ودليل ترك المنفعة غير المشروطة، إن خشي الشبهة: حديث أَبِي برْدَة رضي الله عنه قَالَ: أَتَيْتُ المَدِينَةَ فَلَقِيتُ عَبْدالله بن سَلامٍ رَضيَ اللهُ عَنهُ، وفيه قال: "إِنَّكَ بِأرْضٍ الرِّبَا بِهَا فَاشٍ، إِذَا كَانَ لَكَ عَلَى رَجُلٍ حَقٌّ، فَأهْدَى إِلَيْكَ حِمْلَ تِبْنٍ، أوْ حِمْلَ شَعِيرٍ، أوْ حِمْلَ قَتٍّ، فَلا تَأْخُذْهُ فَإِنَّهُ رِباً".
فهنا أمره ألا ينتفع من المقترض بشيء، ولو كان غير مشروط؛ دفعًا للشبهة، ودفعًا أيضا للتهمة عن نفسه، مع كونه جائزا كما تقدم.
والخلاصة:
- أن المنفعة الربوية المحرمة: هي المشروطة على المقترِض، أولَ القرض، والمتمحضة للمقرِض، أو التي من أجلها وجد القرض.
-أن المنفعة المباحة: هي ما كانت بغير شرط أو تواطؤٍ بين المقترض والمقرض، أو كانت منفعة لا انفكاك عنها، أو كانت منفعة جرت بينهما قبل القرض، وإن كان الأولى عدمها مادام القرض باقيا.
والله الموفق
كتبه: د. محمد بن موسى الدالي
في 25/2/1444هـ