الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد
فإنه لا يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث واحد أنه أرسل يديه في قيامه البتة، لذلك فمما يكاد يحصل عليه الاتفاق بين أهل العلم هو قبض الشمال باليمين في القيام في الصلاة، وهو صريح السنة المحفوظة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أكثر من طريق، وعن أكثر من صحابيٍّ من أصحابه صلى الله عليه وسلم، فهو مروي في الصحاح عن سهل بن سعد، وفي السنن عن وائل بن حجر، وابن مسعود رضي الله عنهم، وهذا على الصحيح قول جماهير أهل العلم من أصحاب المذاهب، ومن كبار محققي الإسلام، كشيخ الإسلام وابن عبد البر وابن قدامة وغيرهم.
وأما المنسوب إلى الإمام مالك رحمه الله تعالى، من كونه يرسل يديه في الصلاة، فإن كبار فقهاء المالكية نفوه عنه، وأنهم يرون السنة الصحيحة، التي لا يختلف عليها أن وضع اليمين على الشمال في القيام في الصلاة من مندوباتها.
وأجابوا عن فعل مالك -ولم يثبت هذا فيما أعلم- أو ما يراه رحمه الله من كراهة القبض، حسب الرواية في المدونة، أنه إنما أراد دفعَ وَهْمِ أن القبض من أركان الصلاة! أو أنه رحمه الله كان يكره الاتكاء والاستناد على اليدين مقبوضتين في الصلاة، وكذا أصحابه يكرهون ذلك، أو أنه عجز عن القبض لِمَا أصابه في ذراعيه في ضربه، أيام ابتلائه رحمه الله تعالى في إبطاله طلاقَ المكره، وغايته أن يكون إرساله يديه رحمه الله في تلك الحال ضرورة، وليس لكونه السنة!! فهذا عند التحقيق غاية ما يمكن حمل أحوال مالك عليه في تلك المسألة، فانتبه.
ثم اعلم أن الإمام مالك رحمه الله تعالى روى القبض في الموطأ من رواية أبي مصعب المدني، رواه من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، وعن غيره!
أما من قال: إن الأصل الإرسال!! فهذا نعم يسلم له خارج الصلاة، أما داخل الصلاة فالأصل القبض، ولا شك، فالسنة واضحة صريحة في هذا الباب، بما لا يدع مجالا للشك، ثم اعلم أن الأصل هو الحالة السابقة الغالبة، ومعلوم أن قيام النبي صلى الله عليه وسلم كله كان مع القبض! فعن أي أصلٍ يتكلمون؟!!
بل إن ظاهر دلالات السنة أن القبض في كل قيام في الصلاة، سواء كان قبل الركوع أم بعده، فالنصوص فيها أنه كان صلى الله عليه وسلم يقبض في الصلاة، وليس للقبض موضع إلا في القيام، وهذا يشمل القيام قبل الركوع، وكذلك بعده.
ويؤكد هذا ما جاء بإسناد صحيح عن وائل بن حجر رضي الله عنه قال: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان قائماً في الصلاة يضع يده اليمنى على كفه اليسرى" وهذا قوي الدلالة في أنه يفعل ذلك في قيامه مطلقا، فيشمل ما قبل الركوع وما بعده.وكما سبق لم يأتِ أي أثر في كونه صلى الله عليه وسلم يرسل يديه في الصلاة، لا قبل الركوع ولا بعده!
وعليه فلا وجه لمن قال بمشروعية الإرسال في الصلاة، بل هذا خلاف صريح السنة.
كما أنه لا وجه أيضًا لمن قال بتبديع من قبض شماله بيمينه بعد الركوع، وهذا من أشد ما سمعت في هذا الباب!
وبكل حال أخي الكريم، لا يتجاوز الأمر أن يكون القبضُ في القيام سنةً، وهو قبل الركوع صريح السنة، وبعد الركوع ظاهر السنة، وما دام سنة فحسب، فلا ينبغي أن يصل الخلاف في ذلك إلى حد الإنكار والشقاق والنزاع بين المسلمين.
والله الموفق
كتبه: د. محمد بن موسى الدالي
في 12/6/1446هـ