اعتبار الشريعة للألفاظ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق
وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
فإن الكلام في اعتبار الشريعة للألفاظ فرع عن الكلام في
اعتبارها للنية، وقد تقرر كون المعتبر في
العقود المقاصد والنِّيَّات إذا ما وجد ما يدلُّ عليها من قول أو فعل، وما أبحثه
هنا هو الألفاظ من حيث دلالتها على المقاصد والنِّيَّات ودلالتها عليها، ومدى اعتداد
العقد بها.
اللفظ لغة: مصدر لَفَظْتُ الشيءَ ألفظه، إذا ألقيته
نابذا له([1])، يقال: لفظ ريقه وغيرَه لفظا،
أي: رمى به، ولفظ البحرُ دابةً ألقاها إلى الساحل، ولفظت الأرضُ الميتَ قذفته،
ولفظ بقول حسن تكلم به([2])، ويقال للبحر: اللافظة؛ لأنه
يلفظ بكل ما فيه من العنبر والجواهر، والهاء فيه للمبالغة، فالواحد إذا تكلم فكأنه
يرمي، فسمي قوله لفظا([3]) .
قال ابن فارس: اللام والفاء والظاء كلمة صحيحة تدل على
طرح الشيء، وغالب ذلك أن يكون من الفم، تقول: لفظ بالكلام يلفظ، ولفظت الشيء من
فمي([4]).
قال الطوفي: سمي الصوت المعتمد على مخارج الحروف
باللفظ؛لأنه لما خرج الصوت من الفم صار كالجوهر الملفوظ المُلقى، فهو ملفوظ،
فإطلاق اللفظ عليه صار من تسمية المفعول باسم المصدر([5]).
اللفظ اصطلاحا: جاء في التعريفات: أن اللفظ ما يتلفظ به
الإنسان، أو ما في حكمه مهملا كان أو مستعملا ([6]).
وقيل: الصوت المشتمل على بعض مخارج الحروف تحقيقا أو تقريرا([7]).
وفي الروضة: صوت معتمد على مخرج من مخارج الحروف([8])، قال الطوفي: فاللفظ الاصطلاحي
نوع للصوت؛ لأنه صوت مخصوص، ولهذا أُخِذَ الصَّوت في حدِّ اللفظ .
والمراد بقولهم: "على مخرج من مخارج الحروف"
القدر المشترك بين المخرج الواحد الذي يتناول الحرف الهجـائي الواحـد، وبين جميع
المخـارج نحو قولهم: "زيد قائـم في الدار ".
أما اللفظ المعتبر
في الشريعة والذي أنا بصدده، فهو ما كان مفيدا دالًّا على معنى في نفس المتكلم،
وهو مجموعة الكلمات التي وضعت لمعانٍ يحسن السكوت عليها، فليس مجرَّد اللفظ الذي
ذكره الأصوليون من كون الصوت المشتمل على بعض الحروف، أو الصوت المعتمد على مخرج
من مخارج الحروف، لكن المراد هنا الكلام في اصطلاح النحويين، والذي اجتمع فيه
أمران: اللفظ، والإفادة، لا الكَلِم الذي يصح إطلاقه على المفيد وغيره، ولا اللفظ
المجرَّد ([9]).
فكلام المكلف الذي
انضم بعضه إلى بعض حتَّى كوَّن معاني يترتب عليها أحكام هو محل البحث، فإذا كان
كذلك فإن الله I
وضع الألفاظ بين عباده تعريفا ودلالة على ما في نفوسهم، فإذا أراد أحدهم من الآخر
شيئا عرَّفه بمراده، وما في نفسه بلفظه، ورتب على النِّيَّات والمقاصد الأحكام إذا
اقترنت بما يدلُّ عليها من اللفظ أو الفعل، ولم يرتب الحكم على مجرَّد ألفاظ إذا
علم أن المتكلم لم يرد معانيها، ولم يحط بها علما كالساهي والمجنون([10])،
بل جاءت الشريعة بالتجاوز عن الأمة فيما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم([11])،
وتجاوزت عما تكلمت به مخطئة أو ناسية أو مكرهة أو غير عالمة، إذا لم تكن مريدة
لمعنى ما تكلمت به، أو قاصدة إليه؛ وذلك أن الغلط والنسيان والسهو وسبق اللسان بما
لا يريده العبد، بل يريد خلافه، أو التكلم
به مكرها مما لا يكاد ينفك عنه البشـر، فلو رتب الحكــم عليه لحرجت الأمة،
ولحقها غاية العناء والمشـقة، فرفع عنها المؤاخـذة بذلك كـله، حتَّى الخطأ في
اللفظ من شـدة الفـرح أو الغضب أو السكر([12])
.
فإذا ما تقرَّر
ذلك، فالألفاظ بالنسبة لمقاصد المتكلمين ونِيَّاتهم وإراداتهم لمعانيها ثلاثة
أقسام: -
الأول: أن تظهر مطابقة
اللفظ للنية، وهذا الظهور له مراتب تنتهي إلى اليقين والقطع بمراد المتكلم، وهذا
يظهر إما من نفس الكلام، أو ما يقترن به من القرائن الحالية أو اللفظية أو حال
المتكلم وغير ذلك.
الثاني: ما يظهر
من أن المتكلم لم يرد معناه، وهذا الظهور قد يصل إلى حدِّ اليقين، وهذا القسم
نوعان:
أحدهما: أن لا
يكون المتكلم مريدا لمقتضى ذلك اللفظ ولا لغيره، كالمكره والمجنون والنائم ومن
اشتد غضبه والسكران والهازل.
الآخر: أن يكون
مريدا معنى يخالفه كالمعرِّض والمورِّي والملغز والمتأول.
الثالث: ما هو
ظاهر في معناه واللفظ دلَّ عليه، لكن يحتمل إرادة المتكلم له ويحتمل إرادته لغيره،
ولا دلالة على واحدٍ من الأمرين([13]).
فإذا تبين قصد
المتكلم لمعنى الكلام أو لم يظهر قصد يخالف كلامه وجب حمل كلامه علىظاهره، وهذا
حقٌّ لا ينازع فيه أحدٌ، وهذا هو الواجب في كلام الله ورسولهrأن
يحمل عليه، وكذا يحمل عليه كلام المكلف أيضا، وهو الذي يقصد من اللفظ عند التخاطب،
ومن ادَّعى غير ذلك فهو كاذب، إذ يفضي في الأخير إلى عدم حصول العلم بكلام المتكلم
أبدا، وتبطل بذلك فائدة التخاطب.
وإذا تبيَّن أن
مراد المتكلم بخلاف ما أظهره، فهذا الذي وقع فيه النزاع، وهل الاعتبار بظواهر
الألفاظ دون الالتفات إلى أمرٍ آخرَ، أو العبرة بالقصود والنِّيَّات، وأن لها
تأثيرا يوجب الالتفات إليها ومراعاتها، وقد تقرَّر ذلك، وأن القصود معتبرة في
العقود ومؤثِّرة فيها صحة وفسادا، فالنية روح العمل ولبُّه، يصح بصحتها ويفسد
بفسادها، وقد بيَّنَ ذلك النبي r بكلمتين شافيتين كافيتين، فقالr:
"إنما الأعمال بالنِّيَّات، وإنما لكل امرئ ما نوى"([14])،
فلا يكون عمل إلا بنية، وليس للعامل من عمله إلا ما نواه، وهذا عام يشـمل العبادات
والمعاملات والأيمان والنذور وسائر العقود والأفعال.
وقد علم أن
المعاني التي في النفس هي أصل العقود ومبدأ الحقيقة التي يصير بها اللفظ كلاما
معتبرا، فإذا ما قرنت تلك الألفاظ بمعانيها صارت إنشاء للعقود والتصرفات، وإخبارات
من حيث دلالتها على المعاني التي في النفس، أي:أن اللفظ بمجرَّد دلالته على ما في
النفس فهو إخبار، فإذا اقترن بذلك المعنى أصبح إنشاء، فإذا قصد المتكلم هذه الأقوال
أفادت الأحكام وترتبت عليها.
أما إذا ادَّعى
أنه لم يقصد بها معناها الذي في النفس، وهو أمر لا يطلع عليه أحد إلا الله، فيحمل
في الظاهر على الصحة كما سبق، وإِلا لما صح عقدٌ ولا تصرُّفٌ، فإذا قال: بعت، أو
تزوجت كان هذا القول منه دليلا على أنه قصد معناه، ويجعله الشارع قاصدا، وإن ادعى
أنه هازل، وهذا شأن سائر أنواع الكلام فإنه محمول على المعنى المفهوم منه عند
الإطلاق، فالمتكلم عليه أن يقصد بتلك الألفاظ معانيها، والمستمع عليه أن يحملها
على تلك المعاني؛ ولذلك إذا لم يقصد بها المتكلم تلك المعاني الدالة عليها، بل
تكلم بها غير قاصد لمعانيها أفسد عليه الشرعُ قَصْدَه، وألزمه إذا كان هازلا أو
لاعبا بمقتضى ذلك اللفظ، كالهازل بالنكاح والطلاق والكفر، وتجرى عليه أحكام ذلك
كله، وإن تكلم بها مخادِعاً مُظهِراً خلافَ ما أبطن لم يعطه الشارع مقصوده
كالمحلِّل أو المرابي بعقد العِينة، بل يبطله عليه، ويجعلها عقودا فاسدة .
وبناء على ما سبق
فكل العقود والتصرفات مشروطة بالقصد، وأن كل لفظ بغير قصد من المتكلم لسهو أو سبق
لسان أو غلط أو عدم عقل أو نوم فإنه لا يترتب عليه حكمه، وتكون هذه الألفاظ هَدَرا
لا قيمة لها؛ لعدم القصد الصحيح، فالشارع لم يرتِّب المؤاخذة إلا على ما يكسبه
القلب من الأقوال والأفعال الظاهرة، قال تعالى: ] وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ[[
البقرة ? 225]فلم يؤاخذ على أقوال أو أفعال لم يعلم بها القلب، ولم يتعمـدها، ولما
اعترف ماعزtعلى
نفسه بالزنـا، قال له النبيr: أبـك جنون؟ ([15])وهذا
يدلُّ على أن الجنون عذر مبطل لما تلفَّظِ به من إقراره على نفسه، إذ لا قصد له،
ولذا عَذَرَ اللهُ المكرهَ في أقواله، بل في أعظم أقواله وهو نطقه الكفر، فلم
يؤاخذه وعفى عنه؛ لأنه لم يقصد بتلفظه بالكفر كفرا، وإنما قصد بذلك اتقاءَ شرِّ من
أكرهه عليها حتَّى ألجأه إليها، ولذلك قال الرسولrلعمارt:
"إن عـادوا فَعُدْ"([16]).
ولا يرد على هذا
أن الأصل تضمين المجنون أو المخطئ أو الناسي مع أنه لا قصد لهم فيما يفعلونه؛ وذلك
أن تضمينهم-والحال كذلك-من باب العدل في حقوق العباد حيث كانت مبنية على الشُّحِّ،
لا من باب العقوبة([17])،
وقد سبق كذلك الجواب على كون الشريعة جاءت بتصحيح نكاح، وطلاق، وعتق، ونذر الهازل
مع كونه لا قصد له في هذه العقود([18]).
فالأقوال في الشرع
لا تعتبر إلا من عاقلٍ، يعلم مايقول ويقصده، فمقاصد اللفظ على نية اللافظ، ولا عبرةَ بقولٍ لم يقصده قائلُهُ .
والله
الموفق
كتبه: د. محمد بن
موسى الدالي
في 14/7/1428هـ
([11] ) جزء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه البخاري في الطلاق/باب الطلاق
في الإغلاق000(5269) ومسلم في الإيمان/باب تجاوز الله عن حديث النفس(127)0
([15]) أخرجه
البخاري في الحدود/باب لا يرجم المجنون والمجنونة(6815)و مسلم في الحدود/باب من
اعترف على نفسه بالزنا (1691) عن أبي هريرة رضي الله عنه0
([16])
اعتبار الشريعة للألفاظ الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق
وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد. فإن الكلام في اعتبار الشريعة للألفاظ فرع عن الكلام في
اعتبارها للنية، وقد تقرر كون المعتبر في
العقود المقاصد والنِّيَّات إذا ما وجد ما يدلُّ عليها من قول أو فعل، وما أبحثه
هنا هو الألفاظ من حيث دلالتها على المقاصد والنِّيَّات ودلالتها عليها، ومدى اعتداد
العقد بها. اللفظ لغة: مصدر لَفَظْتُ الشيءَ ألفظه، إذا ألقيته
نابذا له([1])، يقال: لفظ ريقه وغيرَه لفظا،
أي: رمى به، ولفظ البحرُ دابةً ألقاها إلى الساحل، ولفظت الأرضُ الميتَ قذفته،
ولفظ بقول حسن تكلم به([2])، ويقال للبحر: اللافظة؛ لأنه
يلفظ بكل ما فيه من العنبر والجواهر، والهاء فيه للمبالغة، فالواحد إذا تكلم فكأنه
يرمي، فسمي قوله لفظا([3]) . قال ابن فارس: اللام والفاء والظاء كلمة صحيحة تدل على
طرح الشيء، وغالب ذلك أن يكون من الفم، تقول: لفظ بالكلام يلفظ، ولفظت الشيء من
فمي([4]). قال الطوفي: سمي الصوت المعتمد على مخارج الحروف
باللفظ؛لأنه لما خرج الصوت من الفم صار كالجوهر الملفوظ المُلقى، فهو ملفوظ،
فإطلاق اللفظ عليه صار من تسمية المفعول باسم المصدر([5]). اللفظ اصطلاحا: جاء في التعريفات: أن اللفظ ما يتلفظ به
الإنسان، أو ما في حكمه مهملا كان أو مستعملا ([6]). وقيل: الصوت المشتمل على بعض مخارج الحروف تحقيقا أو تقريرا([7]). وفي الروضة: صوت معتمد على مخرج من مخارج الحروف([8])، قال الطوفي: فاللفظ الاصطلاحي
نوع للصوت؛ لأنه صوت مخصوص، ولهذا أُخِذَ الصَّوت في حدِّ اللفظ . والمراد بقولهم: "على مخرج من مخارج الحروف"
القدر المشترك بين المخرج الواحد الذي يتناول الحرف الهجـائي الواحـد، وبين جميع
المخـارج نحو قولهم: "زيد قائـم في الدار ". أما اللفظ المعتبر
في الشريعة والذي أنا بصدده، فهو ما كان مفيدا دالًّا على معنى في نفس المتكلم،
وهو مجموعة الكلمات التي وضعت لمعانٍ يحسن السكوت عليها، فليس مجرَّد اللفظ الذي
ذكره الأصوليون من كون الصوت المشتمل على بعض الحروف، أو الصوت المعتمد على مخرج
من مخارج الحروف، لكن المراد هنا الكلام في اصطلاح النحويين، والذي اجتمع فيه
أمران: اللفظ، والإفادة، لا الكَلِم الذي يصح إطلاقه على المفيد وغيره، ولا اللفظ
المجرَّد ([9]). فكلام المكلف الذي
انضم بعضه إلى بعض حتَّى كوَّن معاني يترتب عليها أحكام هو محل البحث، فإذا كان
كذلك فإن الله I
وضع الألفاظ بين عباده تعريفا ودلالة على ما في نفوسهم، فإذا أراد أحدهم من الآخر
شيئا عرَّفه بمراده، وما في نفسه بلفظه، ورتب على النِّيَّات والمقاصد الأحكام إذا
اقترنت بما يدلُّ عليها من اللفظ أو الفعل، ولم يرتب الحكم على مجرَّد ألفاظ إذا
علم أن المتكلم لم يرد معانيها، ولم يحط بها علما كالساهي والمجنون([10])،
بل جاءت الشريعة بالتجاوز عن الأمة فيما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم([11])،
وتجاوزت عما تكلمت به مخطئة أو ناسية أو مكرهة أو غير عالمة، إذا لم تكن مريدة
لمعنى ما تكلمت به، أو قاصدة إليه؛ وذلك أن الغلط والنسيان والسهو وسبق اللسان بما
لا يريده العبد، بل يريد خلافه، أو التكلم
به مكرها مما لا يكاد ينفك عنه البشـر، فلو رتب الحكــم عليه لحرجت الأمة،
ولحقها غاية العناء والمشـقة، فرفع عنها المؤاخـذة بذلك كـله، حتَّى الخطأ في
اللفظ من شـدة الفـرح أو الغضب أو السكر([12])
. فإذا ما تقرَّر
ذلك، فالألفاظ بالنسبة لمقاصد المتكلمين ونِيَّاتهم وإراداتهم لمعانيها ثلاثة
أقسام: - الأول: أن تظهر مطابقة
اللفظ للنية، وهذا الظهور له مراتب تنتهي إلى اليقين والقطع بمراد المتكلم، وهذا
يظهر إما من نفس الكلام، أو ما يقترن به من القرائن الحالية أو اللفظية أو حال
المتكلم وغير ذلك. الثاني: ما يظهر
من أن المتكلم لم يرد معناه، وهذا الظهور قد يصل إلى حدِّ اليقين، وهذا القسم
نوعان: أحدهما: أن لا
يكون المتكلم مريدا لمقتضى ذلك اللفظ ولا لغيره، كالمكره والمجنون والنائم ومن
اشتد غضبه والسكران والهازل. الآخر: أن يكون
مريدا معنى يخالفه كالمعرِّض والمورِّي والملغز والمتأول. الثالث: ما هو
ظاهر في معناه واللفظ دلَّ عليه، لكن يحتمل إرادة المتكلم له ويحتمل إرادته لغيره،
ولا دلالة على واحدٍ من الأمرين([13]). فإذا تبين قصد
المتكلم لمعنى الكلام أو لم يظهر قصد يخالف كلامه وجب حمل كلامه علىظاهره، وهذا
حقٌّ لا ينازع فيه أحدٌ، وهذا هو الواجب في كلام الله ورسولهrأن
يحمل عليه، وكذا يحمل عليه كلام المكلف أيضا، وهو الذي يقصد من اللفظ عند التخاطب،
ومن ادَّعى غير ذلك فهو كاذب، إذ يفضي في الأخير إلى عدم حصول العلم بكلام المتكلم
أبدا، وتبطل بذلك فائدة التخاطب. وإذا تبيَّن أن
مراد المتكلم بخلاف ما أظهره، فهذا الذي وقع فيه النزاع، وهل الاعتبار بظواهر
الألفاظ دون الالتفات إلى أمرٍ آخرَ، أو العبرة بالقصود والنِّيَّات، وأن لها
تأثيرا يوجب الالتفات إليها ومراعاتها، وقد تقرَّر ذلك، وأن القصود معتبرة في
العقود ومؤثِّرة فيها صحة وفسادا، فالنية روح العمل ولبُّه، يصح بصحتها ويفسد
بفسادها، وقد بيَّنَ ذلك النبي r بكلمتين شافيتين كافيتين، فقالr:
"إنما الأعمال بالنِّيَّات، وإنما لكل امرئ ما نوى"([14])،
فلا يكون عمل إلا بنية، وليس للعامل من عمله إلا ما نواه، وهذا عام يشـمل العبادات
والمعاملات والأيمان والنذور وسائر العقود والأفعال. وقد علم أن
المعاني التي في النفس هي أصل العقود ومبدأ الحقيقة التي يصير بها اللفظ كلاما
معتبرا، فإذا ما قرنت تلك الألفاظ بمعانيها صارت إنشاء للعقود والتصرفات، وإخبارات
من حيث دلالتها على المعاني التي في النفس، أي:أن اللفظ بمجرَّد دلالته على ما في
النفس فهو إخبار، فإذا اقترن بذلك المعنى أصبح إنشاء، فإذا قصد المتكلم هذه الأقوال
أفادت الأحكام وترتبت عليها. أما إذا ادَّعى
أنه لم يقصد بها معناها الذي في النفس، وهو أمر لا يطلع عليه أحد إلا الله، فيحمل
في الظاهر على الصحة كما سبق، وإِلا لما صح عقدٌ ولا تصرُّفٌ، فإذا قال: بعت، أو
تزوجت كان هذا القول منه دليلا على أنه قصد معناه، ويجعله الشارع قاصدا، وإن ادعى
أنه هازل، وهذا شأن سائر أنواع الكلام فإنه محمول على المعنى المفهوم منه عند
الإطلاق، فالمتكلم عليه أن يقصد بتلك الألفاظ معانيها، والمستمع عليه أن يحملها
على تلك المعاني؛ ولذلك إذا لم يقصد بها المتكلم تلك المعاني الدالة عليها، بل
تكلم بها غير قاصد لمعانيها أفسد عليه الشرعُ قَصْدَه، وألزمه إذا كان هازلا أو
لاعبا بمقتضى ذلك اللفظ، كالهازل بالنكاح والطلاق والكفر، وتجرى عليه أحكام ذلك
كله، وإن تكلم بها مخادِعاً مُظهِراً خلافَ ما أبطن لم يعطه الشارع مقصوده
كالمحلِّل أو المرابي بعقد العِينة، بل يبطله عليه، ويجعلها عقودا فاسدة . وبناء على ما سبق
فكل العقود والتصرفات مشروطة بالقصد، وأن كل لفظ بغير قصد من المتكلم لسهو أو سبق
لسان أو غلط أو عدم عقل أو نوم فإنه لا يترتب عليه حكمه، وتكون هذه الألفاظ هَدَرا
لا قيمة لها؛ لعدم القصد الصحيح، فالشارع لم يرتِّب المؤاخذة إلا على ما يكسبه
القلب من الأقوال والأفعال الظاهرة، قال تعالى: ] وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ[[
البقرة ? 225]فلم يؤاخذ على أقوال أو أفعال لم يعلم بها القلب، ولم يتعمـدها، ولما
اعترف ماعزtعلى
نفسه بالزنـا، قال له النبيr: أبـك جنون؟ ([15])وهذا
يدلُّ على أن الجنون عذر مبطل لما تلفَّظِ به من إقراره على نفسه، إذ لا قصد له،
ولذا عَذَرَ اللهُ المكرهَ في أقواله، بل في أعظم أقواله وهو نطقه الكفر، فلم
يؤاخذه وعفى عنه؛ لأنه لم يقصد بتلفظه بالكفر كفرا، وإنما قصد بذلك اتقاءَ شرِّ من
أكرهه عليها حتَّى ألجأه إليها، ولذلك قال الرسولrلعمارt:
"إن عـادوا فَعُدْ"([16]). ولا يرد على هذا
أن الأصل تضمين المجنون أو المخطئ أو الناسي مع أنه لا قصد لهم فيما يفعلونه؛ وذلك
أن تضمينهم-والحال كذلك-من باب العدل في حقوق العباد حيث كانت مبنية على الشُّحِّ،
لا من باب العقوبة([17])،
وقد سبق كذلك الجواب على كون الشريعة جاءت بتصحيح نكاح، وطلاق، وعتق، ونذر الهازل
مع كونه لا قصد له في هذه العقود([18]). فالأقوال في الشرع
لا تعتبر إلا من عاقلٍ، يعلم مايقول ويقصده، فمقاصد اللفظ على نية اللافظ، ولا عبرةَ بقولٍ لم يقصده قائلُهُ . والله
الموفق كتبه: د. محمد بن
موسى الدالي في 14/7/1428هـ ([11] ) جزء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه البخاري في الطلاق/باب الطلاق
في الإغلاق000(5269) ومسلم في الإيمان/باب تجاوز الله عن حديث النفس(127)0 ([15]) أخرجه
البخاري في الحدود/باب لا يرجم المجنون والمجنونة(6815)و مسلم في الحدود/باب من
اعترف على نفسه بالزنا (1691) عن أبي هريرة رضي الله عنه0
التعليقات (0)