سجود المُمثِّل المسلم لغير الله
في عمل تمثيلي
الحمد لله رب
العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله
وصحبه أجمعين، وبعد.
فهذه الصورة ترد
في الأعمال التَّمثيلية الدِّينية أو التاريخية، ويقوم المُمثِّل المسلم في الأصل
بأداء دور كافر يسجد لصنم أو يتبرك به، ويتمسح به، أو يسجد لصليب، أو يسجد لمولاه،
أو سيده أو ملكه، كما هو الحال عن المجوس، ونحو ذلك من صور الكفار عند تعظيمهم
لآلهتهم، ومعبوداتهم .
وقد قدمت أعمال
تمثيلية، سواء سينـمائية أو تليفزيونية -خاصة المسلسلات الإسلامية- اشتملت على هذه
الصور بكثرة .
وقد اتفقت كلمة الفقهاء على أن من سجد لغير الله، من
كوكب، أو شمس، أو قمر، أو صنم، أو صليب، ونحوه أنه يكفر([1])، وسوَّى الشافعية في ذلك بين دار
الإسلام ودار الحرب، إلا إذا سجد للصنم في دار الحرب كَرها([2])، وظاهر كلام الفقهاء التسوية في
هذا الباب بين الجد والهزل، وهو مبني على الأصول التي سبقت من كون العبد لا يجوز
أن يهزل في جانب الألوهية والربوبية، وأن الهزل في باب الكفر موجب للخروج عن
الملة، إلا بالتوبة، والإنابة إلى الله، وهذا ?أيضا-مبني على أن الردة كفر المسلم
بصريح لفظ يقتضيه، أو فعل يتضمنه، ولا شك أن السجود لغير الله، ولو على وجه اللعب
والهزل، داخل في حد الردة، سيما وهيئة السجود من الهيئات الدالة على تعظيم المسجود
له، وهي من أشرف ما يكون عليه العبد مع ربه؛ ولذلك جاء في الحديث: "أقرب ما يكون
العبد إلى ربه وهو ساجد"([3])، ولما سجد رجلٌ لرسول اللهrنهاه عن ذلك، وقال: "لو كنت آمراً أحداً أن يسجد
لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها"([4]) .
قال شيخ الإسلام في سياق كلامه
على منع غير المسلمين من إظهار شعائر دينهم: فإذا كان المسلمون قد اتفقوا على
منعهم من إظهارها، فكيف يسوغ للمسلمين فعلها؟! وإنما منعناهم من إظهارها لما فيه
من الفساد، إما لأنها معصية، أو شعار المعصية، وعلى التقديرين فالمُسْلِمُ ممنوعٌ
من المعصية، أو من شعائر المعصية، ولو لم يكن في فعل المسلم لها من الشر، إلا
تجرئة الكافر على إظهارها لقوة قلبه بالمسلم([5]) .
وبناء على ذلك فلا يجوز للمُمثِّل القيام بهذا الدور
لما فيه من بذل ما لا يجوز إلا لله لغير الله، وتحريم ذلك حيث كان صورة ظاهرة
للشرك بالله.
فإن قال المُمثِّل: إذا سجدت لغير الله أثناء العمل
التَّمثيلي فإني أنوي بسجودي أن يكون لله تعالى، لا السجود لذلك الصنم، أو الصليب.
فالجواب على ذلك من وجوه:
أولا: لا نسلم ذلك؛ لأن هذا يتعارض مع التأثر والاندماج
التام الذي يطالب به المُمثِّل أثناء أدائه للدور، وهو قطعا إذا أراد أن يقوم
بالدور على الوجه الأكمل لابد وأن يتسرب إليه شعور ولو يسيراً بأنه يسجد لذلك
الصنم، حتَّى يؤدي الدور بإتقان.
ثانيا: لو سلمنا هذا الأمر، فإن في ذلك مشابهة صريحة
لأهل الكفر والشرك عند عبادتهم وسجودهم
لآلهتهم، وقد جاءت نصوص الشريعة بالمنع من التشبه بالكفار مطلقا، ومن ذلك الآتي: -
1- حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول اللهr: "من تشبه بقوم فهو منهم"([6])، أي: من تكلف مشابهة أحد فهو
مثله في الحال والمآل، فمن تشبه بالصالحين كان صالحا وحشر معهم، ومن تشبه الكفار
أو الفساق كذلك([7])، قال شيخ الإسلام: هذا الحديث
أقل أحواله تحريم التشبه بأهل الكتاب، وإن كان ظاهره يقتضي تشبه كفر المتشبِّه بهم([8])، وقال الصنعاني: "الحديث
دالُّ على أن من تشبه بالفساق كان منهم، أو بالكفار، أو بالمبتـدعة في أي شيء مما
يختصون به من ملبوس أو مركوب أو هيئة" ([9]).
2-عن عبد الله بن عمرو أن النبيr قال له حين رأى عليه ثوبين معصفرين: "إن هذه من ثياب الكفار،
فلا تلبسها"([10])، قال أحمد شاكر: "هذا
الحديث يدلُّ بالنص الصريح على حرمة التشبه بالكفار في الملبس وفي الحياة والمظهر،
ولم يختلف أهل العلم من الصدر الأول في هذا، حتَّى جئنا في هذه العصور المتأخرة
فنبتت في المسلمين نابتة ذليلة مستعبدة ديدنها التشبه بالكفار في كل شيء..."([11]) .
قلت: ففي الحديث النـهي عن التشـبه بهم في
الملبس، فكيف بما هو من خواص عباداتهم؟! فالأمر صريح بمخالفة المشركين وتحريم ذلك؛
لأنه ذريعة مفضية إلى التشبه بهم في الباطن، فجاء النهي جريا على قاعدة سد الذرائع.
3-جاءت الشريعة بالنهي عن بعض الصور التي تكون مشابهة لصور الكفار أثناء
عباداتهم، ومن ذلك أن النبيrقال: "صلِّ الصبح ثم اقصر
حتَّى تطلع الشمس حتَّى ترتفع، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذٍ يسجد
لها الكفار...ثم اقصر عن الصلاة حتَّى تغرب الشمس، فإنها تغرب بين قرني شيطان،
وحينئذٍ يسجد لها الكفار"([12])ففي ذلك النهي عن الصلاة في تلك
الأوقات خشية التشبه بالكفار في سجودهم للشمس، مع أن من يصلي من المسلمين في هذه
الأوقات لن يسجد للشمس، بل لله، ومع ذلك نهوا عنه؛ سدا لذريعة التشبه بالكفار،
وهذا نظير فعل المُمثِّل الذي يسجد بين يدي الصنم، ويقصد بسجوده السجود لله، فإذا
كان نهي عن أداء الصلاة التي هي عبادة وقربة من أَجَلِّ القربات؛ حتَّى لا يكون في
حال سجوده في حالٍ تشبه حال الكفار في سجودهم للشمس، فمنعه من السجود لغير الله
تمثيلا من باب أولى.
ومن ذلك أن النبيrنهى أن يصلي الرجل مختصرا([13]) في الصلاة([14])، قالت عائشة رضي الله عنها: إن
اليهود تفعله([15])،فإنما نهي عن ذلك حيث كان صورة
من فعل اليهود، وقد أمرنا بمخالفتهم، مما يدلُّ على تحريم ذلك أثناء العبادة.
والنصوص في هذا الباب كثيرة، وهي
تدل على تحريم مشابهة غير المسلمين، وهي تقرِّر أصلا عظيما، وهو تحريم مشابهة
الكفار في العبادات خاصة، وكذلك في غيرها، وبالجملة فكل ما يتفق في الصورة الظاهرة
مع ما يفعله الكفار في عباداتهم فهو ممنوع منهي عنه، إما نهي تحريم، أو كراهة،
وسواء قصد المشابهة أو لم يقصد، بل عامة هذه الأعمال السَّابقة لا يتعمد فيها
المسلم مشابهة الكفار؛ والحكمة من ذلك أن المشابهة في الظاهر تفضي إلى الحب والميل
إليهم حتَّى يشابههم في الباطن، ويستحسن عملهم، وفي ذلك مفاسد عظيمة قد تصل
بالشَّخْص إلى الكفر بالله؛ ولذلك منع من الصلاة إلى القبور([16])؛ لما ذلك من مشابهة من يعظم
القبور ويصلي إليها؛ تعظيما وتمجيدا، فكان النهي سدا لذريعة التشبه بعبدة الأوثان،
والله أعلم.
كتبه: د.محمد بن موسى الدالي
في 23/7/1428هـ
([1]) انظر:حاشية
ابن عابدين4/222ط/دار الفكر، والتاج والإكليل6/279، وإعانة الطالبين4/136، وحواشي
الشرواني9/91، والفروع10/188ط/الرسالة، والإقناع4/294 0
([4]) أخرجه
أحمد4/381، والترمذي في الرضاع/باب ما جاء في حق الزوج على المرأة(1159)، وابن
ماجه في النكاح /باب حق الزوج على المرأة(1852)، والدارمي في الصلاة/باب النهي أن
يسجد لأحد(1428)والحاكم2/206، وابن حبان في صحيحه9/470، والبيهقي7/84، قال
الترمذي:حديث حسن غريب، وصححه الحاكم، وتعقبه الذهبي بقوله:بل منكر، وصححه
الألباني كما في الإرواء7/54 0
([13]) المختصر:هو الذي يصلي ويده على خاصرته، انظر:النهاية في غريب الأثر2/36، وغريب
الحديث لابن الجوزي1/280 0