المواد / المقالات / يسن الجهر بالذكر عقب الصلاة بصورة فردية، وهي سنة مهجورة.

يسن الجهر بالذكر عقب الصلاة بصورة فردية، وهي سنة مهجورة.

تاريخ النشر : 26 شوال 1445 هـ - الموافق م | المشاهدات : 2572
مشاركة هذه المادة ×
"يسن الجهر بالذكر عقب الصلاة بصورة فردية، وهي سنة مهجورة."

مشاركة لوسائل التواصل الاجتماعي

نسخ الرابط

د.الدالي: يسن الجهر بالذكر عقب الصلاة بصورة فردية، وهي سنة مهجورة.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.

فإن من السنن التي هجرها كثير من المسلمين، بل حتى الملتزمون، هي سنة الجهر بالذكر بعد الصلاة، والمنقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يسن الجهر بالتسبيح والتحميد والتكبير عقب الفريضة، فهذا هو ما ثبتت به السنة الصحيحة الصريحة.

ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم".

        وقال رضي الله عنه: "كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته".

وفي رواية: "كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتكبير".رواه البخاري ومسلم.

وعن مُعَاوِيَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ".أخرجه البخاري ومسلم.

قال ابن الزبير رضي الله عنه : "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُهَلِّلُ بِهِنَّ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ" أخرجه مسلم. والإهلال رفع الصوت.

وكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ رضي الله عنه يُهَلِّلُ فِي دُبُرِ الصَّلَاةِ يَقُولُ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَلَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ".

ومع كون هذه السنة ظاهرة جلية، وبها أخذ جمع كبير من أهل العلم المتقدمين والمعاصرين، إلا أنه أنكرها جمع كبير أيضا من أهل العلم، مستدلين لذلك بالآتي:

- قوله تعالى: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ }الأعراف-55، ونحوه من الآيات.

- حديث أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكُنَّا إِذَا أَشْرَفْنَا عَلَى وَادٍ هَلَّلْنَا وَكَبَّرْنَا ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا إِنَّهُ مَعَكُمْ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ تَبَارَكَ اسْمُهُ وَتَعَالَى جَدُّهُ) أخرجه البخاري ومسلم.

- ومن النظر: أن في الجهر بالذكر بعد الصلاة، تشويشا على المصلين.

- البعض يستدل بمفاسد الجهر، وأنه ينافي الإخلاص ونحوه، وأن السر مطلوب في العبادات.

- البعض يستدل بأنه لم ينقل عن الصحابة رضي الله عنه أنهم كانوا يجهرون بالذكر عقب الصلاة.

وأجابوا عن الأحاديث السابقة بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فعلها لتعليم أصحابه رضي الله عنهم.

والجواب عن ذلك أن يقال:

أولا: السنة التي ثبت بها الجهر بالذكر بعد الصلاة المكتوبة صحيحة صريحة، والنصوص التي استدلوا بها عامة، وقاعدة الشريعة أن العام إذا قام من الأدلة ما يخصصه عمل به، فأحاديث الجهر مخصِّصة للعمومات السابقة، والذي أُنزلت عليه هذه الآية، وقال هذا الحديث: (اربعوا على أنفسكم...) هو نفسُه صلى الله عليه وسلم مَنْ كان يجهر بالذِّكر بعد الصلاة، وهو أفهم وأعلم بمراد الله عز وجل، فلا تعارض، والجمع بينهما هو تخصيص العموم بأحاديث الجهر، وقد خُصِّصت هذه العمومات أيضا في عدة مواضع ، منها:

فعل الصحابة رضي الله عنهم في الحج، فإنهم كانوا يجهرون بالتلبية والتهليل والتكبير، بل نُدب لهم ذلك.

فعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ أَيُّ الْحَجِّ أَفْضَلُ؟ قَالَ: (الْعَجُّ وَالثَّجُّ)أخرجه الترمذي وابن ماجه، وحسنه الألباني، والثج رفع الصوت بالتلبية، والمبالغة في ذلك، فهل يقال بترك هذه السُّنة، عملا بقوله تعالى: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ }؟!!

كما ورد الجهر بالذكر أيام العشر، وأيام التشريق، وأيام منى، وعند الخروج للعيدين، وهذا كله مخصِّص لعموم ما استدلوا به.

على أن هذه الآية التي استدلوا بها ونظائرها إنما وردت في الجهر بالدعاء، وهو مذموم إلا في قنوت ونحوه، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى: { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا }الإسراء -110، أنها نزلت في الدعاء، وكذا روي عن ابن عباس وأبي هريرة ،وعن سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة وعروة ومجاهدٍ وإبراهيم وغيرهم .

وقال الإمام أحمد: "ينبغي أن يسرَّ دعاءَه لهذه الآية، قال: "وكان يكره أن يرفعوا أصواتهم بالدعاء".

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "والسنَّةُ في الدعاء كله المخافتة، إلا أنْ يكون هناك سببٌ يشرع له الجهر".مجموع الفتاوى 22 / 468.

فقوله : " إلا أنْ يكون هناك سببٌ يشرع له الجهر" يدل على جواز الجهر فيما إذا نقل السبب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كما نقل في العشر والعيدين والحج، وكذا الذكر دبر الصلاة.

ثانيا: قولهم: إن الجهر يحصل به تشويش على المصلين، فإن المصلين إن لم يكن فيهم مسبوق يقضي ما فاته فلن يشوش عليهم رفع الصوت كما هو الواقع؛ لأنهم مشتركون فيه، وإن كان فيهم مسبوق يقضي فإن كان قريباً منك بحيث تشوش عليه فلا تجهر الجهر الذي يشوش عليه لئلا تلبس عليه صلاته، وإن كان بعيداً منك فلن يحصل عليه تشوش بجهرك. قاله الشيخ ابن عثيمين رحمه الله.

ثالثا: قولهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك للتعليم، يجاب عنه من وجوه:

        الأول: أن الحديث الذي ورد فيه التعليم هو حديث أهل الدثور، فإنه صريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم علَّمهم أن يقولوا هذا الذكر ?التسبيح والتحميد والتكبير ثلاثا-، وليس في حديث ابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهما ما يدل على أنه فعله للتعليم.

        الثاني: أن الأصل فيما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لتعليم أمته، غير ما ورد من كونه يفعل ليعلمهم ثم يتركه، كالصلاة على المنبر، ولم يقل أحد: إنه بعد التعليم تُترك السنة، فالنبي صلى الله عليه وسلم جهر بالذكر ليعلِّمهم، ومنه كيفية الذكر، وأنه جهرا، فلماذا يتركون كيفية ما تعلموه منه صلى الله عليه وسلم، مع أنه لم يحصل منه التنبيه على أنه فعله فقط للتعليم ثم يجهر؟!!

        الثالث: أنه في حال كونه يعلمهم، فالكمُّ والكيف داخلان في التعليم، إذ لم يرد في النص أنه قال لهم: فإذا تعلمتم فاتركوا الجهر، والزمن للتشريع، ولو كان الجهر غير مرادٍ للشارع لنهى عنه بعد التعلُّم، فسكوتُه عليه الصلاة والسلام يدل على أن هذه العبادة مطلوبة للشارع كمًّا وكيفًا.

        الرابع: أن مثل هذا العمل يمكن تعليمه في لحظات، ولا يحتاج إلى فترات طويلة ، فهم أذكى من ذلك بكثير، فكان يكفيه أن يقول لهم قولوا كذا، كما قال لأهل الدثور، وقد تعلموا الذكر المقصود بمجرد أن قال لهم، بل كانوا يتعلمون القرآن في غاية السرعة، فما الداعي لتطبيقه عمليا، ولفترة طويلة، إلا إن كانت تلك الصفة مقصودة للشارع؟!

        الخامس: أن هذا الطريق الذي سلكوه خطر جدا، إذ يمكن لكلِّ مُستدلٍ أن يبطل كثيرا من السنن، فيدَّعي أن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها أو قالها للتعليم، فيقضى بذلك على الشريعة العملية!!

رابعا: الذين استدلوا بمفاسد الجهر، وأنه ينافي الإخلاص ونحوه، وأن السر مطلوب في العبادات.

        يقال لهم: هذه تعليلات في مقابلة النص، ولا يحسن بالمسلم أن تأتيه السُّنة من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم واضحة جلية، فيتركها، ويتعلق بتعليلات عليلة واهية، كما يلزمهم على ذلك أن يتركوا رفع الصوت في الحج، وفي العشر، وأيام منى، والخروج للعيدين، وفي كل موضع وردت السنة برفع الصوت بالذكر فيه، زاعمين أن في الجهر بالذكر مفاسد!!.

خامسا: الذين قالوا بأنه لم ينقل عن الصحابة رضي الله عنه أنهم كانوا يجهرون بالذكر عقب الصلاة.

فالجواب: أن هذا أمر ينقطع له العجب، ما الأصل في حال الصحابة رضي الله عنهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أهو المتابعة أم المخالفة؟ قطعا المتابعة، وليس بنا حاجة أن ننظر في كل سُنَّةٍ فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل اتبعه الصحابةُ أم لا؟ لأن الأصل أنهم اتبعوا، بل من قال بخلاف ذلك طولب هو بالدليل، فمن قال: إن الصحابة رضي الله عنهم لم يتبعوا في هذه السنة-أعني رفع الصوت بالذكر- طولب هو بالدليل.

ومع ذلك فقد ثبت أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يجهرون بالذكر عقب الصلوات، حتى يسمع من يليهم، فقد أخرج النسائي في عمل اليوم والليلة من رواية عون بن عبد الله بن عتبة، قال: صلى رجلٌ إلى جنب عبد الله بن عمرو بن العاص، فسمعه حين سلم يقول: ( أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والاكرام )، ثم صلى إلى جنب عبد الله بن عمر، فسمعه حين سلم يقول مثل ذلك، فضحك الرجل، فقال له ابن عمر: ما أضحكك ؟ قال: إني صليت إلى جنب عبد الله بن عمروٍ، فسمعته يقول مثلما قلت: قال ابن عمر رضي الله عنهما: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك.

وقد أخرج الحافظ ابن رجب جملة من الآثار في هذا.انظر: فتح الباري 6 / 104.

والعجب أن بعض من ينكر هذا العمل، ويجاهد في إبطاله، تجده في مواضع أخرى -تعظيما للسنة- يبحث عن حديث يصحِّحه في غرائب الكتب، كالحيوان للدميري، أو عمل اليوم والليلة لابن السني، ونحوهما، بينما يردُّ العملَ بحديث في الصحاح، وصريح كصراحة حديث ابن عباس، وابن الزبير رضي الله عنهما! فالله المستعان.

بناء على ما تقدم فإن الجهر بالذكر بصورة فردية هو السنة الثابتة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسالمة من المعارض من النظر أو النص الصحيح، وأن الجهر بالذكر دبر الصلاة من المواضع التي وردت الشريعة بمشروعيتها، كما ورد ذلك في التلبية بالحج، والذكر أيام العشر، وأيام التشريق ومنى، ولم ينكرها أحد.

بدعية الاجتماع على هذه الأذكار بعد الصلاة:

أما الجهر بهذه الأذكار بصورة جماعية فهو بدعة، وهو الذي لا يجوز، وبتحريمه وبِدعيَّته صدرت جملة كبيرة من الفتاوى، فالمقصود الجهر بصورة فردية، كما كان حال الصحابة رضي الله عنهم في الحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قَالَ:" كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَدَاةِ عَرَفَةَ فَمِنَّا الْمُكَبِّرُ وَمِنَّا الْمُهَلِّلُ ..الحديث".رواه مسلم. فالحديث صريح في كونهم لم يجتمعوا على هذا الذكر، بل كل واحد منهم انفرد به، والله الموفق.

كتبه: د.محمد بن موسى الدالي

في 24/2/1431هـ


 

التعليقات (0)

×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف