الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
فإن الأصل في الدعاء رفع اليدين، فقد تواتر هذا في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي البخاري عن أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبِطَيْهِ.
وعنده أيضا من حديث أنس رضي الله عنه في قصّة الأعرابي الذي طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة أن يستسقي، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يدعو ورفع الناس أيديهم معه يدعون. أخرجه البخاري
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ، يَقُولُ: " اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي, اللَّهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي " فَمَازَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قال: لَمَّا فَرَغَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ خَيْبَرَ بَعَثَ أَبَا عَامِرٍ عَلَى جَيْشٍ إلَى أَوْطَاسٍ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَأَنَّ أَبَا عَامِرٍ رضي الله عنه اُسْتُشْهِدَ فَقَالَ لِأَبِي مُوسَى: يَا بْنَ أَخِي، أَمَّرَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْ لَهُ : اسْتَغْفِرْ لِي , وَمَاتَ أَبُو عَامِرٍ قَالَ أَبُو مُوسَى : فَرَجَعْتُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَخْبَرْتُهُ فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ رَفْعَ يَدَيْهِ فَقَالَ : " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَبْدِكَ أَبِي عَامِرٍ " وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إبْطَيْهِ ثُمَّ قَالَ : " اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَوْقَ كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِكَ وَمِنْ النَّاسِ " متفق عليه .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنَّ الله طَيِّبٌ لا يَقبل إلا طَيِّباً)، وفيه: (ثم ذَكَرَ الرَّجُلَ يطيل السَّفَر، أشعثَ أغْبَرَ، يمدُّ يديْهِ إلى السماء: يا رب، يا رب) رواه مسلم.
قال ابنُ رجب: هذا الكلام أشار فيه صلى الله عليه وسلم إلى آداب الدعاء، وإلى الأسباب التي تقتضي إجابَته، وإلى ما يمنع من إجابته، فذكر من الأسباب التي تقتضي إجابَةَ الدُّعاءِ أربعة ... قال: الثالث: مدُّ يديه إلى السَّماء، وهو من آداب الدُّعاء التي يُرجى بسببها إجابتُه.
وعن سلمان عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : (إن الله حَيِيٌّ كريم يستحْيي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يرُدَّهُما صفراً خائبتين) أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه. ورُوِيَ نحوه من حديث أنسٍ وجابرٍ وغيرِهِما.
والأخبار في ذلك كثيرة جدا.
قال النَّوَوِي في شرح مسلم: "قد ثبت رفع يديه في الدعاء في مواطن، وهي أكثر من أن تُحْصَى. قال: وقد جَمَعْتُ منها نحواً من ثلاثين حديثاً من الصحيحين.
وقد صنف العلماء في رفع اليدين في الدعاء، فالبخاري كتاب "رفع اليدين في الصلاة" ذكر فيه أربعة عشر حديثًا في رفع اليدين في الدعاء.
وللسيوطي رسالة في ذلك سمَّاها "فضُّ الوعاء في أحاديث رفع اليدين في الدعاء".
فهذا هو الأصل من حيث الجملة، أن السنة في الدعاء رفع اليدين.
أما يوم الجمعة والخطيب يخطب ويدعو ويؤمِّن المسلمون على دعائه، فليس من السنة في تلك الحال رفع اليدين، فقد أخرج مسلم من حديث عمارة بن رؤيبة رضي الله عنه أنه رأى بشر بن مروان على المنبر رافعا يديه. فقال : "قبَّح الله هاتين اليدين، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا، وأشار بإصبعه المسبحة".
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: "ما رأيت رسول الله شاهرا يديه قط يدعو على منبر ولا غيره، ما كان يدعو إلا يضع يديه حذو منكبيه ويشير بإصبعه إشارة".أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه ووافقه الذهبي.
قال البيهقي في سننه: "من السُّنة أن لا يرفع يديه في حال الدعاء في الخطبة، ويقتصر على أن يشير بأصبعه".
وكان طاوس يكره دعاءهم الذي يدعونه يوم الجمعة، وكان لا يرفع يديه.
وفي الأثر عن طاووس أن الإمام رفع يوم الجمعة يديه على المنبر، فرفع الناس أيديهم، فقال مسروق: "قطع الله أيدِيَهُم!". أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه.
وعن غضيف بن الحارث الثمالي قال: بعث إليّ عبد الملك بن مروان فقال: يا أبا أسماء، إنا قد جمعنا الناس على أمرين. قال: وما هما؟ قال: رفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة، والقصص بعد الصبح والعصر. فقال: أما إنهما أمثل بدعتكم عندي، ولست مجيبك إلى شيء منهما. قال: لم؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة، فتمسُّكٌ بسنةٍ خيرٌ من إحداثٍ). أخرجه أحمد ، وإسناده حسن.
فاعتبر هذا العمل من البدع، ووافقه على ذلك بعض أهل العلم.
قال البهوتي في "كشاف القناع": "(و) يُسَنُّ أن (يدعو للمسلمين)؛ لأن الدعاء لهم مسنون في غير الخُطبة ففيها أولى ... يكره للإمام رفع يديه حال الدعاء في الخطبة؛ قال المجد: هو بدعة وفاقاً للمالكية والشافعية وغيرهم. (ولا بأس أن يشير بإصبعه فيه) أي: دعائه في الخطبة".
وقال الشوكاني في النيل: "الحديثان المذكوران في الباب يدلان على كراهة رفع الأيدي على المنبر حال الدعاء وأنه بدعة".
تنبيه:روى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَال : "كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ دُعَائِهِ إِلاَّ فِي الاِسْتِسْقَاءِ، وَأَنَّهُ يَرْفَعُ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إِبِطَيْهِ".
فهذا الحديث محمول على رفع اليدين في الخطبة يوم الجمعة، وليس مطلقا، فلم يكن صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في شئٍ من الدعاء يوم الجمعة -كما سبق في حديث عمارة- إلا في الاستسقاء، وهذا يؤكد ما سبق من كون رفع اليدين في غير الاستسقاء يوم الجمعة ليس من السنة،
والله الموفق.
كتبه: د. محمد بن موسى الدالي
في 23/7/1434هـ