د. الدالي: الصحيح أن نكاح الهازل معتبر ويترتب عليه آثاره.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
فقد اختلف الفقهاء في وقوع نكاح الهازل وصحته على قولين: -
القول الأول: أن نكاح الهازل يقع كجِدِّه، وهو قول العامة، وهو المحفوظ عن الصَّحابة والتابعين، وهو قول الجمهور، ومذهب الحنفية، ومذهب مالك الذي رواه عنه ابن القاسم، وهو المشهور عنه،وقول طـائفة من أصحاب الشـافعي، وهو المروي عن الإمام أحمد نفسه، واختيار شيخ الإسلام، وابن القيم. انظر: المبسوط 24/124، والبحر الرائق 3/277، وشرح فتح القدير 3/199 ، والفواكه الدواني 2/5، ومواهب الجليل 3/423، والشرح الكبير 2/366، شرح الزرقاني 3/214 ، والوسيط 5/386، وإعانة الطالبين 4/5، وخبايا الزوايا 1/186 ، والمغني 9/463، والفروع 8/202، وشرح منتهى الإرادات 5/119 ، وبيان الدليل على بطلان التحليل(105-106) وإعلام الموقعين3/109، وانظر:تفسير القرطبي 8/197، وتحفة الأحوذي4/304، وسبل السلام 3/176 .
واستدلوا بالآتي:-
أولا: قوله تعالى: ]وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا[(البقرة-231)وقد جاء في سبب نزولها ما رواه أبو الدرداءtقال:"كان الرجل يطلق في الجاهلية وينكح ويعتق، ويقول: أنا طلقت، وأنا لاعب، فأنزل الله هذه الآية، فقال الرسولr: "من طلَّق أو حرَّر، أو نكح، فقال: كنت لاعبا فهو جاد".عزاه الهيثمي إلى الطبراني وضعفه، ولم أقف عليه عنده، انظر: مجمع الزوائد4/288، وانظر: جامع البيان عن تفسير آي القُرْآن2/482، والدر المنثور1/683.
فقوله: ]وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا[ أي: لا تتخذوا أحكام الله تعالى في طريق الهزاء، فإنها جدٌ كلها، فمن هزل فيها لزمته.أحكام القُرْآن لابن العربي 1/243 .
ثانيا: عن أبي هريـرةtقال: قال رسول اللهr: "ثلاث جِدُّهن جِدٌ وهزلهن جِـدٌ النكاح والطلاق، والرجعة"، وخصَّ الثلاثة بالذكر لتأكُّد أمر الفروج . فيض القدير 3/300 .
ووجه الدلالة: أن من تلفظ هازلا بلفظ النكاح أو الطلاق أو الرجعة فقد وقع منه ذلك.
المناقشة: نوقش هذا الحديث بأنه ضعيف .
الجواب: أجيب عن ذلك بأن الحديث حسن بمجموع طرقه.
ثالثا: عن الحسن قال: قال رسول الله r: "من طلَّق أو حرَّر أو أنكح أو نكح، فقال: إني كنت لاعبا فهو جائز". أخرجه ابن أبي شيبة4/115، وهو حديث مرسل، انظر:الإرواء6/227 .
رابعا: عن عمرtقال: "أربع لا لعب فيهن الطلاق والعتاق والنكاح والنذر". أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف4/114من طريق الحجاج بن أرطاة، وهو مدلس وقد عنعنه، انظر: الإرواء6 /227.
خامسا: عن عبادة بن الصامت tقال: "لا يجوز اللعب في ثلاث: الطلاق والنكاح والعتاق، فمن قالهن فقد وَجَبْن " . أخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده (119) وهو ضعيف، في إسناده علتان، الانقطاع بين عبيد الله بن أبي جعفر، وعبادة بن الصامت، فإنه لم يثبت سماع لعبيد الله من الصَّحابة، كما أن فيه عبد الله بن لهيعة، وهو صدوق اختلط بعد احتراق كتبه، انظر:الإرواء6/226 .
سادسا: عن أبي ذر tقال: "من طلق وهو لاعب فطلاقه جائز، ومن أعتق وهو لاعب فعتقه جائز، ومن نكح وهو لاعب فنكاحه جائز". أخرجه عبد الرزاق في المصنف6/133، وإسناده واهٍ جدا، فيه إبراهيم بن محمَّد بن أبي يحيي الأسلمي "متروك" كما قال الحافظ في التقريب، انظر:الإرواء6/227،226.
المناقشة: نوقشت هذه الآثار بأنها ضعيفة، فلا تنهض لإثبات حكمٍ شرعيٍّ.
الجواب: أن نقل هذه الآثار عن الصَّحابة رضي الله عنهم، وإن كان في كل طريق ما يدلُّ على ضعفه، لكن مجموعها يدلُّ على أن لهذه المسألة أصلا معمولا به عند الصَّحابة، وأنه مشتهر عندهم .
ومن النَّظر يستدل بالآتي: -
أولا: أن الهازل أتى بالقول ملتزما بحكمه، وترتُّب الأحكام على الأسباب للشارع لا للعاقد، فإذا أتى بالسبب لزمه حكمه شاء أو أبى؛ لأن ذلك لا يقف على اختياره؛ ووجه ذلك أن الهازل أتى باللفظ وقصده مع علمه بمعناه وموجبه، ومن المعلوم أن قَصْدَ اللفظ المتضمن لمعنى قَصْدٌ لذلك المعنى؛ وذلك لتلازم كلِّ لفظٍ ومعناه، إلا أن يعارض بقصد آخر، كما هو الحال في المكره والمحلل، فالهازل قصد السبب وإن لم يقصد حكمه ولا ما ينافي حكمه، فلم يعارض مقتضى السبب قصد آخر، فترتب حكمه عليه بقوة الشرع.بيان الدليل على بطلان التحليل بتصرف(107،106)، وانظر:زاد المعاد في هدي خير العباد 5/204، وحاشية ابن عابدين3/250.
ثانيا: أن النكاح والطلاق والعتق والرجعة ونحو ذلك فيها حق لله تعالى، وهذا في العتق ظاهر، ووجهه في الطلاق أنه يوجب تحريم البضع، وكذلك في النكاح فإنه يفيد حلَّ ما كان حراما على وجه لو أراد العبد استحلاله بغير النكاح لم يمكَّن، ومن المعلوم أن التحريم حق لله تعالى، ولهذا لم يستبح إلا بالمهر والشهود والإعلان، وإذا كان كذلك لم يكن للعبد مع تعاطي السبب الموجب لهذا الحكم أن يقصد عدمَه؛ وذلك أن الكلام المتضمن معنى فيه حق لله تعالى لا يمكن قوله مع رفع ذلك الحق، إذ ليس للعبد أن يهزل مع ربه ولا يتلاعب بحدوده، فإذا تكلم الرجل بالنكاح ونحوه رَتَّب الشارع على كلامه الحكم وإن لم يقصده، بحكم ولاية الشرع على العبد، فالمكلف قَصَد القولَ، والشارع قَصَد الحكمَ، فصار الجميع مقصودا. بيان الدليل على بطلان التحليل (109)0
ثالثا: أن الهزل أمر باطن لا يعلم إلا من جهة الهازل، فلا يقبل قوله في إبطال حق المتعاقد الآخر.
رابعا: أن التكلم بالعقد مع عدم قصده مُحرَّم، وقد نهى عنه الشارع بقوله: ]وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا[(البقرة-231)، وقال الرسولr: "ما بال أقـوام يلعبون بحدود الله ويستهزئون بآياته، طلقتك راجعتك، طلقتك راجعتك؟! "فإذا لم يترتب عليه الحكم فقد أُعين على المُحرَّم، فيجب أن يترتب عليه الحكم؛ فسادا لهزله ولِلَعِبه المُحرَّم.
القول الثاني:عدم صحة نكاح الهازل، وهو المشهور عند بعض متأخري المالكية، وهو المشهور عن الشافعي، وطائفة من أصحابه، ورواية عن أحمد أنه لا يقع نكاح الهازل إلا بنية أو قرينة غضب، أو سؤالها. حاشية الدسوقي2/351، ومواهب الجليل 3/423، والوسيط5/386، والإنصاف 8/465، وقال الغزالي: ولم يحكم الشافعي بانعقاد نكاح الهازل، وهو خلاف الخبر .
واستدلوا بما يأتي:-
أولا: أنه لابد لصِـحَّة العقد من نِيـَّة؛لعموم قوله: r"إنما الأعـمال بالنِّيَّات"، والزواج والطلاق إنما يكون عن قصد وعزم، قال تعالى: ]وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ[(البقرة-227) ، فدلت الآية على اعتبار العزم، والهازل لا قصد ولا عزم له . الوسيط 5/368، وطلاق الغضبان(60)، وسبل السلام 4/176 0
المناقشة: يناقش هذا الدليل بأنه عام مخصوص بالأحاديث التي سقناها .
ثانيا: أنه يشترط الرضا بالنطق اللساني وإرادة مقتضاه. طلاق الغضبان (61)0
ثالثا: أن الفرج مُحرَّم فلا يصح إلا بجدٍّ .
رابعا: قد يستدل لذلك -أيضا- بأن استحلال الفروج بالنكاح أو تحريمها بالطلاق لا ينبغي أن يكون إلا بعقد صحيح متيقن منه غير مشكوك فيه، فلا يبنى عقد بهذه القوة على مجرَّد كلمة هازلة، يقولها الشَّخْص وهو غير قاصد لموجبها، ولا عازم عليها، إذ الأصل في ذلك الحظر والمنع والصيانة والحفظ، وما كان شأنه كذلك لا ينبغي أن تُحلُِّه أو تحرِّمُه هذه الكلمة.
المناقشة: تناقش هذه الوجوه بأن الشارع جعل لهذه العقود أسبابا متى وجدت مقتضياتها وموجباتها، وهذه الموجبات مَرَدُّها إلى الشرع، لا إلى نفس العاقد، فسواء قصدها أم لم يقصدها فإنه يجب أن ترتب، ألا ترى أن الحالف إذا حلف وجب عليه بقوة الشرع الالتزام بيمينه، أو تركه وعليه الكفارة، وإن لم يرد على ذهن الحالف أي شيء من ذلك، وهذا بحكم ولاية الشرع عليه، فلم يفتقر ما يترتب على ذلك إلى نية العاقد، أو قصده لموجب السبب، فلو أقسم هازلا لزمه حكم يمينه، فكذلك لو تلفظ بالنكاح ونحوه هازلا لزمته أحكام هذه الكلمة، بل في ذلك منتهى الصيانة والحفظ لتلك العقود الوثيقة الغليظة، قال تعالى: ] وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا[(النساء-21) فكان مقتضى صيانتها إلزامُ الهازلِ بها، ومنع جعلها موضوعا للعب والهزل، سيما ولا ضرورة لذلك حتَّى يعذر الهازل ولا يؤاخذ بلعبه.
إيراد: إن قال قائل: أَلا ينتقض هذا عليكم بإبطالكم نكاح المحلل والمكره لعدم وجود القصد منهما، فقياس صحة نكاح الهازل وطلاقه أن يصح نكاح المحلل والمكره؛ إذ الباب واحد وهو عدم القصد، فإما أن تصح جميعا أو تبطل جميعا؟
الجواب: يجاب عن ذلك بالوجوه الآتية:
أولا: أن السنة وأقوال الصَّحابة فرَّقت بين قصد التحليل ونكاح الهازل، فأبطلوا نكاح الأول وصححوا نكاح الثاني .
ثانيا: أن نكاح المحلل إنما بطل؛ لأن الناكح قصد ما يناقض النكاح حيث إنه قصد أن يكون نكاحه لهذه المرأة وسيلة إلى ردها إلى زوجها الأول، والشيء إذا فعل لغيره كان المقصودُ حقيقةً هو ذلك الغيرَ، بأن تكون منكوحة للغير لا منكوحةً له، وهذا القدر ينافي قصد أن تكون منكوحة له، إذ الجمع بينهما متنافٍ .
ثالثا: أن المحلل قصد رفع العقد بعد وقوعه، وهذا أمر ممكن، فصار قصده مؤثِّرا في رفع العقد، بخلاف الهازل الذي قصد قطع موجب السبب عن المسبب، فهذا غير ممكن؛ لأن ذلك إبطال حكم الشارع، فيصح نكاحه، ولا يقدح هذا القصد في مقصود النكاح إذ لم يترتب عليه حكم.
رابعا: أن الهازل قاصد للقول مريد له مع علمه بمعناه، وقصد اللفظ المتضمن لمعنى قصدٌ لذلك المعنى-كما ذُكِر من قبل- إلا أن يعارضه قصد آخر، ولم يوجد من الهازل قصد الحكم ولا ما ينافيه، أما المحلل والمكره فإنهما قصدا شيئا آخر غير معنى القول وموجبه؛ ولذلك جاء الشرع بإبطالهما، فالمكره قصد رفع العذاب عن نفسه فلم يقصد السبب ابتداء، والمحلل قصد إعادة المطلقة إلى المطلق، وذلك ينافي قصده لموجب السبب، والهازل وإن لم يوجد منه قصد يخالف العقد، لكنه لم يوجد منه قصد إلى موجب العقد، وفرق بين عدم قصد الحكم وبين وجود قصد ضده، فالهازل عقد عقدا ناقصا فكمله له الشرع، أما المحلل والمكره فقد زادا على العقد الشرعي ما أوجب عدمه، فكان عقدهما باطلا.
خامسا: أن في تصحيح نكاح الهازل وإبطال نكاح المحلل إعمالا للقاعدة التي تقررت وهي اعتبار النية في العقود؛ وجه ذلك أن الهازل أراد بكلامه التفكُّه والتلهي من غير لزوم حكمه له، فأفسد الشارع عليه هذا الغرض بأن ألزمه الحكم متى تكلم به، فلم يترتب عليه غرضه من التلهي واللعب، والمحلل غرضه إعادة المطلقة إلى زوجها على غير مراد الشرع، فيجب إفساد غرضه عليه بأن لا يصح عَوْدُ هذه المطلقة إلى مطلقها بإفساد نكاح المحلل.
سادسا: أنه لو جاءت الشريعة بتصحيح نكاح المحلل، وإبطال نكاح الهازل لكان ذلك إعانةً لهم على المُحرَّم كما سبق . انتهى بتصرف من يبان الدليل على بطلان التحليل (110)وما بعدها 0
فتبين بذلك حكمة الشارع في تصحيح نكـاح الهازل، وإبطـال نكاح المحلل والمكره.
التَّرجيح:
بعد عرض الأدلة السَّابقة للقولين يترجح قول الجمهور القائل بإيقاع نكاح الهازل للوجوه الآتية: -
أولا: إتيان السنة بهذا الأصل، وعليه عمل الصَّحابة، ومناقشته بالضعف، أو الانقطاع، أو الوقف لا يؤثر؛ حيث كثر نقله عن الصَّحابة بطرق متعددة، مما يؤكد اشتهاره عندهم، وهذا مما لا سبيل لدفعه، فعلى تقدير عدم ثبوته عن النبيrفقد تقرَّر العمل به عند الصَّحابة رضي الله عنهم، فكان ذلك كافياً في إثبات الحكم .
ثانيا: الوجوه التي ذكرها أصحاب القول الثاني لم تسلم من المناقشة التي تبطلها، ولا تجعلها ناهضة للاستدلال بها، مع كونها تعليلات عقلية في مقابل تعليلات عقلية أقوى منها، فضلا عن كونها معارضة للنصوص.
ثالثا: أن الهزل بهذه العقود مما يدلُّ على استخفاف العاقد بحدود الشريعة، والتساهل معه يفتح بابا عظيما للشر، بأن يتلاعب الناس بالعقود، إذ كلما أراد أحد أن يبطل عقد نكاح فإنه يدعي أنه كان هازلا، وبهذا تفسد معاملات المسلمين، سيما في هذه العقود الخطيرة التي يترتب عليها حِلُّ الفروج وتحريمها، فإذا كانت عرضة للعب والهزل كان في ذلك أسهل الطرق لتضييع الحقوق والتلاعب بكرائم المسلمين.
رابعا: أنه مع التأمل والتدبر نجد أن إلزام الهازل بالنكاح هو أردع طريق لصَدِّه عن هزله ولعبه، وأخذ كل الحذر عند التعامل مع هذه العقود، واحترامها وتوقيرها، ولا يمكن أن يقدم عليها إلا على وجه الجد.
خامسا: أنه على تقدير الأخذ بالقول الثاني وأن نكاح الهازل لا يقع، فإن المرأة التي زُوِّجت على وجه الهزل أصبحت بذلك محلَّ شبهة؛ إذ يحتمل أن تكون زوجة بالفعل لمن هزلت إليه، فمن أقدم على زواجها في شكٍّ من أمره، وبمثل هذا لا تُستَحلُّ الفروجُ، فكان الأولى قطع هذا الشك بالقطع بإيقاع نكاح الهازل، والله أعلم.
كتبه: د.محمد بن موسى الدالي
في 4/5/1426هـ