المواد / المقالات / طواف الوداع يجب تعظيما للبيت على من أتاه بنسك.

طواف الوداع يجب تعظيما للبيت على من أتاه بنسك.

تاريخ النشر : 25 جمادى أول 1446 هـ - الموافق م | المشاهدات : 1993
مشاركة هذه المادة ×
"طواف الوداع يجب تعظيما للبيت على من أتاه بنسك."

مشاركة لوسائل التواصل الاجتماعي

نسخ الرابط

د.الدالي: طواف الوداع يجب تعظيما للبيت على من أتاه بنسك.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.

فإن لفظ: "طواف الوداع" يدل على المقصود منه بديهة، فهو طواف شرع لتوديع بيت الله الحرام، زاده الله عزًّا وشرفا، فهو من باب إضافة الشئ إلى سببه، أي: الطواف الذي سببه الوداع، وظاهر العبارة أن كل من كان مودِّعا لمكة فإنه يشرع له أن يودع البيت بالطواف، ومن ليس كذلك فإنه لا يشرع له، وهذا واضح فيمن انتهى من نسكه، وأراد الرجوع إلى وطنه، كما اتفقوا على أن من أقام بمكة ولم يخرج منها أنه لا طواف وداع في حقِّه، وأما الذي يخرج من مكة لسفر، لا من نسك ففيه خلاف، وعليه فيمكن صياغة تحرير النزاع في هذه المسألة على النحو الآتي:

أولا: اتفق أهل العلم على أن طواف الوداع مشروع لكل آفاقي ينتهي من نسكه، ويريد الخروج إلى وطنه، على خلاف في الوجوب والاستحباب، فذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والحنابلة وهو الأظهر عند الشافعية إلى أن طواف الوداع واجب، وذهب المالكية إلى أنه سنة، وقول الجمهور هو الأرجح، لكنه عند الشافعية والمالكية واجب لا يختص بالحج، بل هو لكل من فارق مكة. انظر: فتح القدير 2 / 188، وبدائع الصنائع 2 / 42، والتاج والإكليل 4/ 198، ومواهب الجليل 3/137، والمجموع شرح المهذب 8/236، وتحفة المحتاج 4/140، والمغني 3 / 458، وكشاف القناع 2/ 512.

ثانيا: اتفق أهل العلم على أن من أقام بمكة، سواء كان مواطنا أصليا أو آفاقيا أقام بها بعد نسكه أو سفره، أنه لا يجب عليهم طواف الوداع؛ لأن الطواف وجب توديعا للبيت، وهذا المعنى لا يوجد في أهل مكة؛ لأنهم في وطنهم، وكذا الآفاقي الذي أقام بها، وهذا قول جماهير أهل العلم، بل نقل ابن رشدٍ الإجماعَ على أن المكي ليس عليه إلا طواف الإفاضة. انظر: بداية المجتهد 2/ 266.

وهذه نصوص فقهاء المذاهب في هذه المسألة:

    قال ابن الهمام الحنفي: "( وليس على أهل مكة ) ومَنْ كان داخل الميقات، وكذا من اتخذ مكة داراً، ثم بدا له الخروج، ليس عليهم طواف صدر". شرح فتح القدير 2/ 517؛ وانظر: بدائع الصنائع 2/ 332.

    وقال ابن عبد البر: "الوداع عنده -أي: عند مالك- مستحبٌ، وليس بسنةٍ واجبة، لسقوطه عن الحائض، وعن المكي الذي لا يبرح مِنْ مكة بفرقةٍ بعد حجه، فإن خرج من مكة إلى حاجةٍ طاف للوداع، وخرج حيث شاء". الاستذكار 13/ 265؛ وانظر: الذخيرة 3/ 283.

    وفي حاشية العدوي: "وَلَا يُوَدِّعُ الْمَكِّيُّ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ وَلَا مُتَوَطِّنٌ بِمَكَّةَ". حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب الرباني 4/ 227.

    وقال النووي: "قال أصحابنا مَنْ فرغ من مناسكه وأراد المقام بمكة ليس عليه طواف الوداع، وهذا لا خلاف فيه سواءٌ كان من أهلها أو غريباً، وإن أراد الخروج من مكة إلى وطنه أو غيره طاف للوداع" المجموع 8/ 233؛ وانظر: مغني المحتاج 2/ 280.

    وقال البهوتي: "فإن أراد -أي: الحاج- المقام بمكة، فلا وداع عليه، سواءٌ نوى الإقامة قبل النفر أو بعده" شرح المنتهى 2/ 575؛ وانظر: المغني 5/ 337.

    وقال شيخ الإسلام: "ولهذا لم يكن على أهل مكة طواف قدوم ولا طواف وداع؛ لانتفاء معنى ذلك فى حقهم، فإنهم ليسوا بقادمين إليها، ولا مودعين لها ماداموا فيها". مجموع الفتاوى 26/ 261، وانظر: الذخيرة 3/ 283، والمغني 5/ 336. 

        ثالثا: اختلفوا في المكي والآفاقي الذي يخرج من مكة في سفر، لا من نسك، على قولين، ومنشأ الخلاف في هذه المسألة هو: هل طواف الوداع خاص بالنسك، فيلزم من قدم مكة حاجاً أو معتمراً فقط وأراد الخروج، أم أنه عبادة مستقلة وليست نسكا فيلزم كل من خرج من مكة، حتى أهلَها والآفاقيَ الذي لم يأت لنسك، والخلاف على قولين:

القول الأول: أن طواف الوداع ليس خاصا بالنسك، بل يجب على كل من أراد الخروج من مكة مسافة القصر، ولو كان غير حاج أو معتمر بل ولو كان من أهلها، وهو الصحيح من مذهب الشافعية والحنابلة، وذهب إليه المالكية، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية.انظر: المنتقى شرح موطأ مالك 3/ 511، ومواهب الجليل 4/ 196، والمجموع 8/ 235، ومغني المحتاج 2/ 280، وكشاف القناع 6/ 336، ومجموع الفتاوى 26/ 6، ومجلة البحوث العلمية 7/ 491.

الأدلة:

        استدلوا لذلك بالآتي:

        أولا: عن العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه قَالَ: قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( يُقِيمُ الْمُهَاجِرُ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا ). أخرجه البخاري (3640)، ومسلم (2409)، وهذا لفظ مسلم.

وجه الدلالة: أن طواف الوداع بعد هذه ثلاثة الأيام، وقد سمَّاه النبي صلى الله عليه وسلم قبل فعله الوداع قاضيا للمناسك؛ مع أنه لم يأت بالوداع بعد، فدل على أن الوداع ليس من النسك.

المناقشة:

يناقش هذا بأن الحديث ليس فيه الإشارة إلى حكم الوداع، لا من قريب، ولا من بعيد، وغايته الدلالة على مشروعية بقاء المهاجر بعد الانتهاء من النسك ثلاثا، أما الوداع فقد قام الدليل على وجوبه على الناسك دون غيره، بدليل أن الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أهل مكة وغيرهم، بل ورسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه، يدخلون ويخرجون من مكة، دون إلزام النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالوداع، مما يدل على خصوصية هذا الحكم بالناسك.

ثانيا: استدلوا بعموم الأدلة على مشروعية طواف الوداع دون التقييد بالنسك، ومن ذلك الآتي:

أولا: عن ابن عباس رضي الله عنهما قَالَ: ( أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ، إِلا أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ ). أخرجه البخاري (1636)، ومسلم (2351).

ثانيا: عن ابن عباس رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَنْصَرِفُونَ فِي كُلِّ وَجْهٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ). أخرجه مسلم (2350)

والحديثان عامَّان فيمن خرج لنسك أو لغيره.

المناقشة: يناقش الاستدلال بالحديثين بالمناقشة السابقة، من كون العموم هذا إنما هو في الناسك فقط، بدليل فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والناس في عهده، ممن يدخل ويخرج من مكة دون وداع، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يلتزم ذلك إلا من نسك.

القول الثاني: أن طواف الوداع واجب في الحج فقط، وهو المشهور من مذهب الحنفية، ووجه عند الشافعية.الفتاوى الهندية 1 / 235، وبدائع الصنائع 2 / 480، والمجموع 8 / 235.

الأدلة:

استدلوا لذلك بالآتي:

أولا: أن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث للحُجَّاج، وليس عاما لكل من أراد السفر من مكة، بدليل حديث ابن عباس رضي الله عنهما: كَانَ النَّاسُ يَنْصَرِفُونَ فِي كُلِّ وَجْهٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ).

فكلام ابن عباس رضي الله عنهما في الحجاج، وليس في سكان مكة أو المقيمين بها؛ لأن سكان مكة لا ينفرون منها.

ثانيا: حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مَنْ حجَّ البيت فليكن آخر عهده بالبيت ).  أخرجه الترمذي (866)، قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وصححه الألباني في إرواء الغليل 4 / 289.

والحديث دليل على أن الوداع خاصٌّ بالحاج؛ لأن الخطاب موجَّه لهم، وهو يقيد الإطلاق في أدلة القول الأول.

الترجيح:

الذي يترجح لدي -والله تعالى أعلم- تفصيل آخر، وهو أن طواف الوداع ليس من واجبات الحج، إنما هو واجب للبيت لا يخاطب به غير الحجاج، ويلحق بالحجاج المعتمرُ الذي مكث فترةً بعد عمرته احتياطا، وذلك للآتي:

أولا: سقوطه عن الحائض ومن في حكمها، ولو كان من واجبات الحج لم يسقط، ولطولبت ببدله.

ثانيا: قوله صلى الله عليه وسلم: ( يُقِيمُ الْمُهَاجِرُ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا ) فهو صريح في أن النسك ينتهي، ولو لم يطف للوداع، وإنما يجب عليه الوداع عند الرجوع إلى وطنه تعظيما للبيت.

ثالثا: النصوص الواردة في إيجاب الوداع إنما خوطب بها الحجاج، إما تصريحا، وإما بدلالة وقرينة السياق، فإن النَّفْر لا يكون إلا لمن أراد الرجوع من النسك، أما الذي يريد السفر من مكة لعمل ونحوه، لا يقال له: لا تنفر حتى يكون آخر عهدك بالبيت!

رابعا: أن في القول بوجوبه مطلقا على كل من أراد الخروج من مكة، ولو من غير نسك، في القول بذلك إشقاقٌ على كثير ممن يقيم بمكة، سواء كان مستوطنا لها أم مقيما بها، فإنه كلما أراد أن يسافر منها لعمل ونحوه طولب بالطواف للوداع، وتزداد المشقة لو كان سفره يوميا، أو في اليوم مرتين ونحوه، فهل فهم الصحابة رضي الله عنهم من قوله: ( أمر الناس ) غير الحجاج، فكان كلما أراد شخص من غير الحجاج الخروج من مكة طاف للوداع؟! فإن الأمر لو كان كذلك لكان من الأهمية بمكان، ولكان نقله مما تتوافر عليه الهمم.

فالذي يظهر لي أن طواف الوداع ليس من النسك، إنما من واجبات البيت التي تجب فقط على من أتاه حاجًّا، أو معتمرا، مكث فترةً بعد العمرة، فحصل فصْل بين عمرته وخروجه من باب الاحتياط والتعظيم للبيت، أما إيجابه على كل من أراد الخروج من مكة، ولو لم يكن جاء في نسك، فهو محل نظر، وفي النفس منه حرج، والله تعالى أعلم.

كتبه: د.محمد بن موسى الدالي

في 7/8/1431هـ

***

 


 

التعليقات (0)

×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف