حكم تزيِّي المسلم بزي الكفار
الحمد لله رب العالمين،
والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد
المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد
هذه الصورة يكثر جِدًّا ممارستها في الأعمال
التَّمثيلية، سيما التاريخية أو الدِّينية أو الاجتماعية، فيقوم المُمثِّل بارتداء
أزياء خاصة بغير المسلمين، ويتعلق الصلبان أو شعارات الكفر، وقد يرتـدي أحـدهم زي
القسيس أو الراهب ونحوه.
تقرر شرعا تحريم التشبه بالكفار،
وجاء الأمر بمخالفتهم، سواء في العبادات أو اللباس، والهيئة والزينة أو في الآداب،
وقد سبق طرف من ذلك، وقد شددت الشريعة في عدم التشبه
بهم في الزي الظاهر ليكون ذلك أبعد عن مشابهتهم في الباطن، فإن المشابهة في أحدهما
تدعو إلى المشابهة في الآخر، فليس المقصود مجرَّد الغيار والتميز في اللباس، بل
المقصود الأعظم ترك الأسباب التي تدعو إلى موافقتهم، ومشابهتهم باطنا([2])، ولكن لما كان الأمر قد يشكل،
كان لابد من وضع الضوابط والقواعد التي يدور عليها التشبه المُحرَّم في هذا الباب،
وهي كالآتي: -
أولا: لا تحصل حقيقة التشبة إلا
بنيةٍ مصاحِبةٍ؛ وذلك أن التشبه فِعلٌ مُتَكلَّف لتحصيل مشابهة المتشبَّه به، ولا
يعني هذا أن المشابهة في الصورة الظاهرة ليست ممنوعة، وأنها ليست من التشبه
الممنوع، بل إن الفعل العاري عن نية التشبه يمنع باعتباره ذريعة إلى التشبه،
فيعامل المتشبه بحسب فعله الظاهر دون الالتفات إلى وجود نية التشبه أصلا([3]).
وعليه فمن كان في لباسه متشبها
بالكفار فإنه يحرم عليه، وإن لم يكن متقصدا التشبه بهم، قال ابن كثير بعد أن ساق
حديث: "من تشبه بقوم فهو منهم" ففيه الدلالة على النهي الشديد
والتهديد والوعيد على التشبه بالكفار، في أقوالهم وأفعالهم ولباسهم وأعيادهم
وعباداتهم، وغير ذلك من أمورهم التي لم تشرع لنا ولا نقر عليها([5]).
ثانيا: أن النصوص الشرعية التي
جاءت في موضوع التشبه فيما يتعلق باللباس تقضي بأن التشبه إنما يقع فيما يختص به
الكافر، كبرنيطة النصراني، وطرطور اليهودي، وقلنسوة المجوسي، أما ما كان مشتركا
بين المسلمين وغيرهم فلا يقع فيه التشبه، حتَّى وإن كان الكافر في الأصل هو الذي
صنعه، وبدأ عنده أولا، فلا يعد لابسه متشبها بالكافر، مادام اللباس قد انتشر وشاع
عند الكافر وغيره، حتَّى لم يَعُدْ علامة عليه، وعلى هذا يحمل لبس النبيr الجبة الرومية من أزياء الروم، والطيالسية الكسروية من أزياء
المجوس، ويدلُّ لهذا الضابط قولهr: "إن هذه ثياب الكفار
فلا تلبسها"أي: الخاصة بهم، وقولهr: "ولا يشتمل اشتمال اليهود"([7]) .
وعليه
فما زال عن كونه شعارا للكفار جاز فعله ما لم يكن مُحرَّما لعينه؛ والسبب أن
التمايز بين المسلمين والكفار يزول بزوال الاختصاص، فلا يتأتى التشبه حينئذٍ،
وعليه فيجوز لبس البنطال والبدلة ونحوهما مما أتى بداية من عند الكفار، وكان مختصا
بهم، ثم شاع بين المسلمين، ولم يعد يميز الكافر عن المسلم لعدم التشبه حينئذٍ، أما
ما كان مختصا بهم ولم ينتشر، كبعض البرانيط وأغطية الرأس وبعض الملابس التي مازالت
مختصة بهم، فإنه لا يجوز لبسها؛ لأنها من التشبه بهم فيما يختص بهم، وهو مُحرَّم.
وهذه الأمور راجعة في الجملة إلى العرف، سواء في
اختصاصهم بها أو عدمه، وهذا لا يعني براءة من بادر من آحاد المسلمين، وكان سببا في
فتح هذا الباب، وإدخال تلك الملابس في بلاد المسلمين([8])، وقد أورد ابن حجر حديث أنسtأنه رأى قوما عليهم الطيالسة، فقال: كأنهم يهود خيبر،
فقال ابن حجر: إنما يصلح الاستدلال بقصة اليهود في الوقت الذي تكون فيه الطيالسة
من شعارهم، وقد ارتفع ذلك فيما بعد، فصار داخلا في عموم المباح([9]) .
رابعا: ألا يوجد حاجة أو ضرورة، فإن وجدت الحاجة أو
الضرورة إلى لباس الكفار جاز لبسها، فقد كان رسول اللهr يلبس النعال التي لها شعر، وهي من لباس الرهبان، فهذا اللبس فيه
دفع الضرر عن اللابس؛ إذ المشي على الأرض مما لا يمكن قطع المسافة البعيدة فيها
إلا بهذا النوع([10])، ولذلك قال شيخ الإسلام: لو أن
المسلم بدار حرب أو دار كفر غير حرب، لم يكن مأمورا بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر
لما عليه في ذلك من الضرر، بل قد يستحب للرجل، أو يجب عليه أن يشاركهم أحيانا في
هديهم الظاهر، إذا كان هناك مصلحة دينية، من دعوتهم إلى الدِّين، أو الاطلاع على
باطن أمورهم لإخبار المسلمين، أو دفع ضررهم عن المسلمين، ونحو ذلك من المقاصد
الحسنة، أما في دار الإسلام والهجرة التي أعَزَّ الله فيها دينه ففيها شرعت
المخالفة([11]) .
الخلاف
في كفر المتشبه بالكفار في لباسهم:
تحرير محل النزاع: -
أولا: اتفق العلماء على أن المسلم
إذا تشبه بالكفار في لبس لباس معين خاص بهم، قاصدا ذلك مريدا له؛ لكون الكفار يفعلونه،
مع محبته و استحسانه وتعظيمه إياه أنه يكفر بذلك.
ثانيا:
اتفقوا على جوازه إذا لكان للضرورة، أو الحاجة الظاهرة .
ثالثا:
إذا لبس لباس الكفار بدون قصد ولا ميل ولا رغبة فيه، فهذا محل الخلاف، فهل يكفر،
أو لا يكفر؟ على قولين لأهل العلم مع اتفاقهم على التحريم: -
القول الأول: أن التَّشبُّه
بالكفار في اللبـاس الذي هو شعار لهم كُفـْرٌ، وهو الصحيح من مذهب الحنفية ([12])، ومذهب المالكية([13]) .
واستدلوا
بالآتي:
أولا: عموم قولهr: "من تشبه بقوم فهو منهم"([14]) .
المناقشة: يناقش هذا الحديث بأن
فيه الدلالة على أنه لابد من القصد، أما إن وقع ذلك بلا قصد فإن الحديث لا يدلُّ
على كفره، ويؤيد ذلك أن النبيr نهى عبد الله بن عمرو بن
العاص رضي الله عنهما لما رأى عليه الثوبين المعصفرين([15])، ولم يكفِّره .
ثانيا:
أن اللباس الخاص بالكفار علامة الكفر، ولا يلبسه إلا من التزم الكفر، ومدرك هذا
الحكم أن المتشبه بهم على هذا النحو قد أخل بأحد أصلي الإيمان، وهو المحبة لله
ورسوله ودينه، وهذا موجب للكفر([16]).
المناقشة:
يناقش هذا بعدم التسليم، بل قد يلبس لباس الكفار لضعف في دينه، لكن هذا الضعف لا
يصل إلى حد الكفر، والإخلال بأصل الدِّين من محبة الله ورسوله ودينه، ولا يمكن أن
يقال: إن هذا مخلٌّ بهذا الأصل إلا إذا علم من حاله تصريحا، أو تلميحا أنه معظِّمٌ
لهذا مؤثِرٌ إياه؛ لكونه لباس الكفار، فإن كان الأمر كذلك اتفقنا على كفره، كما هو
الحال في القِسْم الأول المذكور في تحرير محل النزاع، أما مجرَّد اللبس فهو ليس
كافيا في الدلالة على الكفر، وقد تقرَّر شرعا أن ما ثبت بيقين فلا يزول
بمجرَّد الشك، فإذا ثبت إيمان شخص فلا
ينتقل عنه إلى الكفر إلا بيقين.
القول
الثاني: تحريم التشبه بالكفار في اللباس الذي هو شعار لهم، دون الحكم بكفر فاعله،
وهو قول لبعض الحنفية([17])، وبعض المالكية([18])، ومذهب الشافعية([19])، والحنابلة([20]).
واستدلوا
بالآتي:
أولا: حديث عبد الله بن عمرو رضي
الله عنهما أن النبيr رأى عليه ثوبين معصفرين،
فقال: " إن هذه ثياب الكفار فلا تلبسها"([21]) .
وجه الدلالة: أنه لو كان لبسه
إياها كفرا لأخبره النبي r بذلك، ولأمره بتجديد دينه،
ولبين له الحكم واضحا، ولما أخر البيان عن وقت الحاجة([22]).
ثانيا: أن الأصل الإيمان، فلا
يخرج أحدٌ منه إلا من الباب الذي دخل منه، قال أبو حنيفة: لا يخرج أحد من الإيمان
إلا من الباب الذي دخل منه، وهما الإقرار والتصديق، وهما قائمان([23]).
التَّرجيح:
الرَّاجح في هذه المسألة التفصيل الآتي: -
أولا: إذا كان ذلك اللباس الذي يلبسه المسلم من لباس
الكفار، الذي هو شعار لدينهم، ولا يلبسه إلا المتدينـون منهم، كلباس القساوسة،
والرهبـان، والمتعبدة من المجوس ونحوهم، كتعليق الصليب، أو نجمة داود، فالأرجح
الحكم بكفر من يفعله وهو يعلم ذلك؛ وذلك أن الواجب في مثل هذه الحال مجانبته
ومعاداته.
ثانيا: أما إذا كان اللباس مما
يختص به عوام الكفار، لا أنه زي متدينيهم، كالبرنيطة والطرطور والقلنسوة والزِّنار([24]) ونحوها، فإن الأرجح تحريم ذلك؛
حيث جاء النهي عنها صريحا، كما في قولهr: "إن هذه ثياب الكفار
فلا تلبسها"ولم يكفِّر اللابس، إنما نهاه، وهذا يقتضي التحريم دون الكفر .
وهذا مقيد بما إذا كان هذا اللباس
مختصا بالكفار كما سبق بيانه، أما ما شاع وانتشر بين المسلمين، فإنه لا يحكم
بتحريمه إلا على مَنْ جَلَبه للمسلمين ابتداء.
أما
المُمثِّل، فإن تمثيل غير المسلمين في الأعمال التَّمثيلية من حيث اللباس لا يخلو
من الأحوال الآتية: -
أولا: أن يكون العمل التَّمثيلي
في البيئة العربية التي نزل فيها الإسلام، ومعلوم أن العرب كان لباسهم واحدا، لا يتميز فيه المسلم
عن الكافر، فلا إشكال في القيام بدور غير المسلمين، والتَّزي بزيهم؛ حيث لا يختص
بهم، مع كون هذا مقيدا بأن لا ينطق أو يفعل ما يدلُّ على الكفر صراحة، إنما يحكي
هذا حكاية.
ثانيا: أن يكون العمل التَّمثيلي
بحيث يعالج قضايا مع غير المسلمين، كالنصارى، واليهود، ويحتاج ذلك إلى إظهار قساوستهم
ورهبانهم وعليهم ثيابهم الخاصة بهم، والغالب أنه يتعلق الصليب، ففي هذه الحال سبق
بيان كون هذا العمل على الارجح كفرا، وقد تقرَّر أن الكفر لا يدخله الهزل واللعب،
فلا يجوز للمُمثِّل المسلم التَّزَيِّ بهذه الأزياء حيث كان ذلك موجبا للكفر.
ثالثا:
أن تعرض الأعمال التَّمثيلية عملا تاريخيا أو دينيا، ويظهر فيه صف الكفار من
الجنود والمقاتلين والفرسان، وعليهم زي الفرس أو الروم أو الصليبيين أو النصارى من
المستعمرين الإنجليز أو الفرنسيين أو الإيطاليين، كما هو الحال في الأعمال التي
تعنى بهذا.
فهذه
الأعمال هي محل الإشكال؛ وذلك أنه قد تقرَّر أن لباسهم المختص بهم إذا لم يكن زي
تدينٍ فإنه يحرم لباسه على الأرجح، إلا أنه قد توجد مصلحة في التزيِّ بهذه
الأزياء، وبيان صورة انهزام العدو وفراره وهروبه من صف المعركة وانخذاله، والصورة
لا تكون كاملة إلا بأن يظهر هؤلاء الكفار كما لو كانوا حقيقة، ولا شك أن الزي مما
يكمل هذا المقصد إن لم يكن هو الركيزة الأولى؛ وذلك أنهم في الغالب لا يتكلمون
إنما تظهر صفوفهم دون حديث إلا في القليل النادر .
وقد عرضت أعمال على هذا النحو كان
تأثيرها كبيرا جدا، فربما تكون المصلحة هنا غالبة على مفسدة لبسهم هذا اللباس
لساعات التصوير، سيما عند إظهار انخذالهم وتراجعهم فيسوغ هذا الفعل، مع إمكان تجنب
هذه المفسدة بأن يقوم بهذه الأدوار مُمثِّلون غير مسلمين.
والله
الموفق
كتبه:
د.محمد بن موسى الدالي
في
3/8/1427هـ
([7]) أخرجه أحمد2/148، وأبو داود في الصلاة/باب إذا كان الثوب ضيقا يتزر به(635)، والدارمي في الصلاة/باب النهي عن اشتمال الصماء(1337)، وابن خزيمة في صحيحه1/376، والطبراني في الأوسط6/132، والبيهقي2/236، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي دواد1/126 .
حكم تزيِّي المسلم بزي الكفار الحمد لله رب العالمين،
والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد
المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد هذه الصورة يكثر جِدًّا ممارستها في الأعمال
التَّمثيلية، سيما التاريخية أو الدِّينية أو الاجتماعية، فيقوم المُمثِّل بارتداء
أزياء خاصة بغير المسلمين، ويتعلق الصلبان أو شعارات الكفر، وقد يرتـدي أحـدهم زي
القسيس أو الراهب ونحوه. تقرر شرعا تحريم التشبه بالكفار،
وجاء الأمر بمخالفتهم، سواء في العبادات أو اللباس، والهيئة والزينة أو في الآداب،
وقد سبق طرف من ذلك، وقد شددت الشريعة في عدم التشبه
بهم في الزي الظاهر ليكون ذلك أبعد عن مشابهتهم في الباطن، فإن المشابهة في أحدهما
تدعو إلى المشابهة في الآخر، فليس المقصود مجرَّد الغيار والتميز في اللباس، بل
المقصود الأعظم ترك الأسباب التي تدعو إلى موافقتهم، ومشابهتهم باطنا([2])، ولكن لما كان الأمر قد يشكل،
كان لابد من وضع الضوابط والقواعد التي يدور عليها التشبه المُحرَّم في هذا الباب،
وهي كالآتي: - أولا: لا تحصل حقيقة التشبة إلا
بنيةٍ مصاحِبةٍ؛ وذلك أن التشبه فِعلٌ مُتَكلَّف لتحصيل مشابهة المتشبَّه به، ولا
يعني هذا أن المشابهة في الصورة الظاهرة ليست ممنوعة، وأنها ليست من التشبه
الممنوع، بل إن الفعل العاري عن نية التشبه يمنع باعتباره ذريعة إلى التشبه،
فيعامل المتشبه بحسب فعله الظاهر دون الالتفات إلى وجود نية التشبه أصلا([3]). وعليه فمن كان في لباسه متشبها
بالكفار فإنه يحرم عليه، وإن لم يكن متقصدا التشبه بهم، قال ابن كثير بعد أن ساق
حديث: "من تشبه بقوم فهو منهم" ففيه الدلالة على النهي الشديد
والتهديد والوعيد على التشبه بالكفار، في أقوالهم وأفعالهم ولباسهم وأعيادهم
وعباداتهم، وغير ذلك من أمورهم التي لم تشرع لنا ولا نقر عليها([5]). ثانيا: أن النصوص الشرعية التي
جاءت في موضوع التشبه فيما يتعلق باللباس تقضي بأن التشبه إنما يقع فيما يختص به
الكافر، كبرنيطة النصراني، وطرطور اليهودي، وقلنسوة المجوسي، أما ما كان مشتركا
بين المسلمين وغيرهم فلا يقع فيه التشبه، حتَّى وإن كان الكافر في الأصل هو الذي
صنعه، وبدأ عنده أولا، فلا يعد لابسه متشبها بالكافر، مادام اللباس قد انتشر وشاع
عند الكافر وغيره، حتَّى لم يَعُدْ علامة عليه، وعلى هذا يحمل لبس النبيr الجبة الرومية من أزياء الروم، والطيالسية الكسروية من أزياء
المجوس، ويدلُّ لهذا الضابط قولهr: "إن هذه ثياب الكفار
فلا تلبسها"أي: الخاصة بهم، وقولهr: "ولا يشتمل اشتمال اليهود"([7]) . وعليه
فما زال عن كونه شعارا للكفار جاز فعله ما لم يكن مُحرَّما لعينه؛ والسبب أن
التمايز بين المسلمين والكفار يزول بزوال الاختصاص، فلا يتأتى التشبه حينئذٍ،
وعليه فيجوز لبس البنطال والبدلة ونحوهما مما أتى بداية من عند الكفار، وكان مختصا
بهم، ثم شاع بين المسلمين، ولم يعد يميز الكافر عن المسلم لعدم التشبه حينئذٍ، أما
ما كان مختصا بهم ولم ينتشر، كبعض البرانيط وأغطية الرأس وبعض الملابس التي مازالت
مختصة بهم، فإنه لا يجوز لبسها؛ لأنها من التشبه بهم فيما يختص بهم، وهو مُحرَّم. وهذه الأمور راجعة في الجملة إلى العرف، سواء في
اختصاصهم بها أو عدمه، وهذا لا يعني براءة من بادر من آحاد المسلمين، وكان سببا في
فتح هذا الباب، وإدخال تلك الملابس في بلاد المسلمين([8])، وقد أورد ابن حجر حديث أنسtأنه رأى قوما عليهم الطيالسة، فقال: كأنهم يهود خيبر،
فقال ابن حجر: إنما يصلح الاستدلال بقصة اليهود في الوقت الذي تكون فيه الطيالسة
من شعارهم، وقد ارتفع ذلك فيما بعد، فصار داخلا في عموم المباح([9]) . رابعا: ألا يوجد حاجة أو ضرورة، فإن وجدت الحاجة أو
الضرورة إلى لباس الكفار جاز لبسها، فقد كان رسول اللهr يلبس النعال التي لها شعر، وهي من لباس الرهبان، فهذا اللبس فيه
دفع الضرر عن اللابس؛ إذ المشي على الأرض مما لا يمكن قطع المسافة البعيدة فيها
إلا بهذا النوع([10])، ولذلك قال شيخ الإسلام: لو أن
المسلم بدار حرب أو دار كفر غير حرب، لم يكن مأمورا بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر
لما عليه في ذلك من الضرر، بل قد يستحب للرجل، أو يجب عليه أن يشاركهم أحيانا في
هديهم الظاهر، إذا كان هناك مصلحة دينية، من دعوتهم إلى الدِّين، أو الاطلاع على
باطن أمورهم لإخبار المسلمين، أو دفع ضررهم عن المسلمين، ونحو ذلك من المقاصد
الحسنة، أما في دار الإسلام والهجرة التي أعَزَّ الله فيها دينه ففيها شرعت
المخالفة([11]) . الخلاف
في كفر المتشبه بالكفار في لباسهم: تحرير محل النزاع: - أولا: اتفق العلماء على أن المسلم
إذا تشبه بالكفار في لبس لباس معين خاص بهم، قاصدا ذلك مريدا له؛ لكون الكفار يفعلونه،
مع محبته و استحسانه وتعظيمه إياه أنه يكفر بذلك. ثانيا:
اتفقوا على جوازه إذا لكان للضرورة، أو الحاجة الظاهرة . ثالثا:
إذا لبس لباس الكفار بدون قصد ولا ميل ولا رغبة فيه، فهذا محل الخلاف، فهل يكفر،
أو لا يكفر؟ على قولين لأهل العلم مع اتفاقهم على التحريم: - القول الأول: أن التَّشبُّه
بالكفار في اللبـاس الذي هو شعار لهم كُفـْرٌ، وهو الصحيح من مذهب الحنفية ([12])، ومذهب المالكية([13]) . واستدلوا
بالآتي: أولا: عموم قولهr: "من تشبه بقوم فهو منهم"([14]) . المناقشة: يناقش هذا الحديث بأن
فيه الدلالة على أنه لابد من القصد، أما إن وقع ذلك بلا قصد فإن الحديث لا يدلُّ
على كفره، ويؤيد ذلك أن النبيr نهى عبد الله بن عمرو بن
العاص رضي الله عنهما لما رأى عليه الثوبين المعصفرين([15])، ولم يكفِّره . ثانيا:
أن اللباس الخاص بالكفار علامة الكفر، ولا يلبسه إلا من التزم الكفر، ومدرك هذا
الحكم أن المتشبه بهم على هذا النحو قد أخل بأحد أصلي الإيمان، وهو المحبة لله
ورسوله ودينه، وهذا موجب للكفر([16]). المناقشة:
يناقش هذا بعدم التسليم، بل قد يلبس لباس الكفار لضعف في دينه، لكن هذا الضعف لا
يصل إلى حد الكفر، والإخلال بأصل الدِّين من محبة الله ورسوله ودينه، ولا يمكن أن
يقال: إن هذا مخلٌّ بهذا الأصل إلا إذا علم من حاله تصريحا، أو تلميحا أنه معظِّمٌ
لهذا مؤثِرٌ إياه؛ لكونه لباس الكفار، فإن كان الأمر كذلك اتفقنا على كفره، كما هو
الحال في القِسْم الأول المذكور في تحرير محل النزاع، أما مجرَّد اللبس فهو ليس
كافيا في الدلالة على الكفر، وقد تقرَّر شرعا أن ما ثبت بيقين فلا يزول
بمجرَّد الشك، فإذا ثبت إيمان شخص فلا
ينتقل عنه إلى الكفر إلا بيقين. القول
الثاني: تحريم التشبه بالكفار في اللباس الذي هو شعار لهم، دون الحكم بكفر فاعله،
وهو قول لبعض الحنفية([17])، وبعض المالكية([18])، ومذهب الشافعية([19])، والحنابلة([20]). واستدلوا
بالآتي: أولا: حديث عبد الله بن عمرو رضي
الله عنهما أن النبيr رأى عليه ثوبين معصفرين،
فقال: " إن هذه ثياب الكفار فلا تلبسها"([21]) . وجه الدلالة: أنه لو كان لبسه
إياها كفرا لأخبره النبي r بذلك، ولأمره بتجديد دينه،
ولبين له الحكم واضحا، ولما أخر البيان عن وقت الحاجة([22]). ثانيا: أن الأصل الإيمان، فلا
يخرج أحدٌ منه إلا من الباب الذي دخل منه، قال أبو حنيفة: لا يخرج أحد من الإيمان
إلا من الباب الذي دخل منه، وهما الإقرار والتصديق، وهما قائمان([23]). التَّرجيح:
الرَّاجح في هذه المسألة التفصيل الآتي: - أولا: إذا كان ذلك اللباس الذي يلبسه المسلم من لباس
الكفار، الذي هو شعار لدينهم، ولا يلبسه إلا المتدينـون منهم، كلباس القساوسة،
والرهبـان، والمتعبدة من المجوس ونحوهم، كتعليق الصليب، أو نجمة داود، فالأرجح
الحكم بكفر من يفعله وهو يعلم ذلك؛ وذلك أن الواجب في مثل هذه الحال مجانبته
ومعاداته. ثانيا: أما إذا كان اللباس مما
يختص به عوام الكفار، لا أنه زي متدينيهم، كالبرنيطة والطرطور والقلنسوة والزِّنار([24]) ونحوها، فإن الأرجح تحريم ذلك؛
حيث جاء النهي عنها صريحا، كما في قولهr: "إن هذه ثياب الكفار
فلا تلبسها"ولم يكفِّر اللابس، إنما نهاه، وهذا يقتضي التحريم دون الكفر . وهذا مقيد بما إذا كان هذا اللباس
مختصا بالكفار كما سبق بيانه، أما ما شاع وانتشر بين المسلمين، فإنه لا يحكم
بتحريمه إلا على مَنْ جَلَبه للمسلمين ابتداء. أما
المُمثِّل، فإن تمثيل غير المسلمين في الأعمال التَّمثيلية من حيث اللباس لا يخلو
من الأحوال الآتية: - أولا: أن يكون العمل التَّمثيلي
في البيئة العربية التي نزل فيها الإسلام، ومعلوم أن العرب كان لباسهم واحدا، لا يتميز فيه المسلم
عن الكافر، فلا إشكال في القيام بدور غير المسلمين، والتَّزي بزيهم؛ حيث لا يختص
بهم، مع كون هذا مقيدا بأن لا ينطق أو يفعل ما يدلُّ على الكفر صراحة، إنما يحكي
هذا حكاية. ثانيا: أن يكون العمل التَّمثيلي
بحيث يعالج قضايا مع غير المسلمين، كالنصارى، واليهود، ويحتاج ذلك إلى إظهار قساوستهم
ورهبانهم وعليهم ثيابهم الخاصة بهم، والغالب أنه يتعلق الصليب، ففي هذه الحال سبق
بيان كون هذا العمل على الارجح كفرا، وقد تقرَّر أن الكفر لا يدخله الهزل واللعب،
فلا يجوز للمُمثِّل المسلم التَّزَيِّ بهذه الأزياء حيث كان ذلك موجبا للكفر. ثالثا:
أن تعرض الأعمال التَّمثيلية عملا تاريخيا أو دينيا، ويظهر فيه صف الكفار من
الجنود والمقاتلين والفرسان، وعليهم زي الفرس أو الروم أو الصليبيين أو النصارى من
المستعمرين الإنجليز أو الفرنسيين أو الإيطاليين، كما هو الحال في الأعمال التي
تعنى بهذا. فهذه
الأعمال هي محل الإشكال؛ وذلك أنه قد تقرَّر أن لباسهم المختص بهم إذا لم يكن زي
تدينٍ فإنه يحرم لباسه على الأرجح، إلا أنه قد توجد مصلحة في التزيِّ بهذه
الأزياء، وبيان صورة انهزام العدو وفراره وهروبه من صف المعركة وانخذاله، والصورة
لا تكون كاملة إلا بأن يظهر هؤلاء الكفار كما لو كانوا حقيقة، ولا شك أن الزي مما
يكمل هذا المقصد إن لم يكن هو الركيزة الأولى؛ وذلك أنهم في الغالب لا يتكلمون
إنما تظهر صفوفهم دون حديث إلا في القليل النادر . وقد عرضت أعمال على هذا النحو كان
تأثيرها كبيرا جدا، فربما تكون المصلحة هنا غالبة على مفسدة لبسهم هذا اللباس
لساعات التصوير، سيما عند إظهار انخذالهم وتراجعهم فيسوغ هذا الفعل، مع إمكان تجنب
هذه المفسدة بأن يقوم بهذه الأدوار مُمثِّلون غير مسلمين. والله
الموفق كتبه:
د.محمد بن موسى الدالي في
3/8/1427هـ