حكم تمثيل الذات الإلهية
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على أشرف الخلق
وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
فقد سبق في عدة كتابات لي بيان كيف كانت بداية نشأة فن
التَّمثيل، وأنها كانت دينية تعبدية، وكيف كان لهذه الوثنية التي تميزت بها تلك
البداية امتداد في هذا الفن إلى فترات طويلة من الزمن، وبالرغم من اندثار هذه
الوثنية وغيابها عن فن التَّمثيل، إلا أنه بقيت آثار جاهلية -وإن كانت نادرة
جِدًّا -تعرض وتبث من آن لآخر في الأعمال التَّمثيلية، وقد تطاولت أيدي هؤلاء ذات
اللهI، والأمر مذهل عند تصوره إذ
كيف يجرؤ أحد على محاكاة الله I؟! لكن بحمد الله لم يجرؤ أحد من أبناء الإسلام
على هذا العمل([1])،وغاية وقوعه كان من غير المسلمين
أو ممن ينتحل الإسلام دون الالتزام بأحكامه، مثل ما قام به أحد المخرجين العالميين
محاولا إظهار صوت الرب I عند مناداته لنبيه موسى r عند الطور وتكليمه إياه([2]).
وكذلك ما ذكره
بعضهم مما كان يقع في زمن الخليفة المهدي بالدولة العباسية حيث يقوم داعٍ من
الدعاة العباسيين إذا انتهى الناس من صلاة الجمعة، فينادي عليهم أن يجتمعوا حوله،
وقد جلس على مكان مرتفع وإلى جانبيه نفر من أصحابه، ثم ينادي أين أبو بكر؟ فيأتون
إليه برجل، ويسأله أأنت أبو بكر؟ فيجيب نعم، أأنت الذي آمنت برسول الله وقد كذبه
الناس؟ ويعدد من مناقبه، ثم ينادي نفس
السائل: اصحبوه إلى الجنة، فهو أهل لها، ثم يكرر العمل نفسه مع عمر ثم مع عثمان ثم
مع علي y ويأمر بإدخالهم جميعا الجنة،
ثم ينادي على معاوية، ثم يقول: أأنت الذي خرجت على إجماع المسلمين، وشققت عصا
الطاعة، واغتصبت الخلافة بالحيلة ... وتتكرر معه الأسئلة، ثم ينادي السائل: خذوه
إلى الجحيم، فهو أهل لها .
وبقطع النظر عن الجانب المذهبي والسياسي لهذه
التَّمثيلية، إلا أن الشاهد هو تمثيل هذا السائل المنادي لدور الآمر بإدخال أهل
الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار، وسواء صرح أنه يمثل دور الرَّبِّ أو لم
يصرح، فإنه لا يخفى أن ملك الملوك والآمر والناهي في الآخرة هو اللهIولا يبعد هذا في الرمزية عن الرِّواية العربية المشهورة
"أولاد حارتنا" والتي تناولت بدء الخليقة، وقصة آدم وحواء والنزول إلى
الأرض...إلى أن تنتهي بظهور قاسم الشاب اليتيم الذي تربى في كفل عمه، يرعى الغنـم،
والذي يرمز به إلى نبينا محمَّدr([3]).
ويعد هذا العمل العباسي أقدم عملٍ تمثيليٍّ تناول الذات
الألهية، وتمثيل بعض الصَّحابة، بل كبارهمy.
ويلي ذلك ما قدم في السينما العالمية ?وقد سبقت الإشارة
إليه - من إصدار صوت يمثل صوت اللهIعند مناداته موسىr، بل إن المخرج "سيسيل دي ميل" كان يبحث عن مُمثِّل عربي
يسند إليه القيام بتسجيل صوت الله باللغة العربية في الطبعة التي ستوزع في البلاد
العربية من الفيلم العالمي" الوصايا العشر"والذي قُدِّم للسينما
العالمية عدة مرات، إلى غيره من الأفلام العالمية التي عنيت بقصص الأنبياء .
ومن خلال هذه النماذج يتضح أن تمثيل ذات الله I لم يتم كعمل تمثيلي إلا في القليل النادر، إلا أنه في حال تقديمه
لا يخلو من الأمور المعتادة في الأعمال التَّمثيلية الأخرى، من تقمص المُمثِّل
للشخصية، وهذا يستلزم محاكاة ذلك المُمثِّل للهI، وهو عين ما صنعته المشبهة الذين يشبهون الخالق بالمخلوق في صفاته
وأقواله وأفعاله، وقد اتفق أهل السنة والجماعة على تكفير المتشبه بالله تعالى؛ حيث
توافرت النصوص على كون الله ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله([4])،منها الآتي:
1-قوله تعالى: ]لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ[(الشورى ? 11).
2- قوله تعالى: ]هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا[(مريم-6).
3- قوله تعالى: ]فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ[( النحل ? 74).
والنصوص في ذلك كثيرة جدا، بل القُرْآن الكريم من أوله
إلى خاتمته في تقرير هذا
المعنى، بل لم يرسل الله رسله، ولم ينزل كتبه إلا بذلك([5])، وهذا هو الذي ندين الله به
ونعتقده، وهو قول أئمة الهدى من الصَّحابة والتابعين ومن بعدهـم كأبي حنيـفة والأوزاعي
والثوري وابن عيينة والشافعي وأحمد وإسحق بن راهويه، وغيرهم من أئمة المسلمين، قال
نعيم بن حماد: من شبَّه الله بخلقه فقد كفر([6])
،وقال الطحـاوي: فمن وصف الله
بمعنى من معاني البشر فقد كفر([7])، وقال ابن القيم:
لسنا نشـبِّه ربَّنـا بصفاتنا إن المشبِّه عابـدُ الأوثـانِ
من شبَّه اللهَ العظيمَ بخلقِـهِ فهو الشَّبيه لمشرِكٍ نصراني([8])
فلا يجوز تشبيه الله بخلقه ولا تشـبيه خلقه به أو
تجسيمهI([9])وعليه فمَنْ شبَّه الله بخلقه فهو
كافر عند جمهور السلف، فيحرم تمثيله ويأثم من فعـل ذلك إثما عظيما للوجوه الآتية:
أولا: أن تمثيل الذات الإلهية يتنافى تنافيا تاما مع
عظمتها؛ إذ إن تصوير الذات في الواقع فرع عن تصورها في الذهن، ولا يجوز تصور ذات
اللهIحيث نفى عن نفسه مشابهة شيء من
مخلوقاته، وإذا لم يمكن تصور الذات الإلهية في الذهن حيث لا مثال يمكن قياسها
عليه، فكيف يمكن تمثيلها على خشـبة المسـرح أو شاشة التلفاز أو السينما؟! فهذا من
أعظم الباطل وأقبحه.
ثانيا: تمثيل الذات الإلهية مدعاة للإلحاد باللهIواعتقاد كونه مجسما له صفات تشابه صفات المخلوقين، من
جسم ووجه ويدٍ ورِجلٍ وغيره، وربما استقرَّ هذا الاعتقاد الباطل في نفوس بعض
الضعفاء، فيـكون في ذلك إحيـاء لهذا المذهب الباطل، وقد تقدَّم كفر من اعتقد هذا
الاعتقاد الباطل والمصادم لصريح القُرْآن والسنة والعقل والفطرة السليمة.
ثالثا: هذا العمـل لم يعلم له سند إلا عند اليونان
الوثنـيين أو المسارح الفرعونية الذين نصبوا آلهتهم وأنصـاف آلهتهم للعبادة،
فجعلوا للخمر إلها، وللحب إلها...إلخ، ثم ذهبوا يعبدونهم ويمجدونهم بتمثيل قصصهم
وأمجادهم، فتمثيل الذات الإلهية ما هو إلا دعوة لتلك الوثنية.
رابعا: تمثيل ذات الإله تبارك وتعالى مدعاة للسخرية
بذلك الإله والاستهزاء به، وهذا رأس الكفر.
خامسا: قد اتفقت كلمة العلماء على تحريم تمثيل الأنبياء لما لهم من مكانة عظيمة في نفوس
البشر، وهذه المكانة تهتز حتما بتمثيلهم ومحاكاة عوام البشر لهم، فكيف بذات اللهI؟! فلا شك أن التحريم أشد
والمنع أولى .
سادسا: إذا كان في تمثيل الأنبياء والرسل ازدراء
واحتقار وتنقص لهم ولقدرهم، مع كونهم بشرا كمن يتمثلهم، فالتَّنقُّص والازدراء
لقدر الله I بهذا العمل أشد وأقبح.
فلا يجوز -والحال كذلك- لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر
أن يقدم على هذا العمل القبيح، فيمثل ذات الله تبارك وتعالى، بدعوى المصلحة أو
تقريب الصورة للأذهان، أو غيره مما يذكرون؛ وذلك أن المفاسد في ذلك أعظم بكثير من
أي مصلحة ترجى من وراء مثل هذا العمل.
كما أنه يمكن الاستغناء عن هذا العمل - فيما إذا اضطر
القائمون على هذه الأعمال إلى ذكر شيء من كلام الله I-بأن يكلف شخص يردد كلام الله حاكيا له، كأن يقول: قال الله تعالى،
ثم يذكر الآية، وفي ذلك حصول للمقصود دون الوقوع في محظور شرعي.
والله ولي التوفيق
كتبه: د. محمد بن موسى الدالي
في 2/6/1427هـ