المواد / فتاوى منوعة / الناس بين مسافر ومقيم، ولا قسم ثالث لهما.

الناس بين مسافر ومقيم، ولا قسم ثالث لهما.

تاريخ النشر : 2 ذو القعدة 1446 هـ - الموافق م |

المشاهدات : 772

- Aa +

د.الدالي: الناس بين مسافر ومقيم، ولا
قسم ثالث لهما.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة
والسلام الأتمان الأكملان على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن سار بهديه
إلى يوم الدين، وبعد.

فإن المسلم مادام في سفر فإن له
أحكاما يترخَّص فيها، كما هو متقرر بالشرع الحنيف، من قصر وجمع وفطر ومسح، فمتى بقي
مسافرا، فهذه الأحكام تبقى ثابتة، حتى يأتي بما ينقض هذا الوصف، إما برجوع أو بأن
ينشئ نية الاستيطان في البلد الذي سافر إليه.


        والشخص فيما يتعلق بهذا الباب لا يخلو من أن يتلبس بأحد ثلاثة أوصاف،
باعتبار تقسيم جمهور الفقهاء:

الأول:
أن يكون مسافرا. 

الثاني:
أن يكون مقيما. 

الثالث:
أن يكون مستوطنا. 

فالمسافر:
هو من خرج من عمران بلده مع قصد سير مسافة مخصوصة، دون جزم بإقامة عدد من الأيام
محدد. 

تحفة الفقهاء 1/148، والفواكه الدواني 3/138، وحاشية الجمل 3/136، وكشاف
القناع 4/73.

فإن جزم الإقامة، فقد اختلف أهل العلم
في تحديد الأيام التي يكون بها مقيما اختلافا كبيرا،
فمن أهل العلم من حدَّه بأربعة أيام،
ومنهم من حدَّه بإحدى وعشرين صلاة، ومنهم من حدَّه بخمسة عشر يوماً، ومنهم من حدَّه
بتسعة عشر يوماً. انظر
في الخلاف في ذلك: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 1/411، والشرح الكبير للدردير
1/364، ومغني المحتاج 1/262، شرح منتهى الإرادات 2/250.

فإن جزم الإقامة حسب الخلاف السابق في
المدة، فإنه يكون في حكم المواطن من لحظة دخوله البلد، فلا يترخَّص برخص السفر.

أما إن جزم إقامة مدة أقل من أربعة
أيام، أو لم يجزم إقامة معينة، أو لم يعلم متى سيخرج، فهذا يقصر ويترخص برخص السفر،
ولو مكث شهورا؛ لأنه ليس بمستوطن، بل منزعج انزعاج السائرين، فصار بمثابة السائر.بدائع
الصنائع في ترتيب الشرائع 1/411، والفروع 3/24.

وعليه فالمقيم:
هو المسافر الذي دخل بلدة، فنوى الإقامة بها المدة التي يلزمها فيها إتمام الصلاة.
يعبر عنه البعض بالمقيم غير المستوطن. انظر: مجموع الفتاوى 24/137، والمجموع 4/503،
والفروع 3/59.


ويزيد بعضهم: "الإقامة الخالية عن نية المكث على التأبيد".


شرح الخرشي 2/61.

وذلك أن الإقامة اعتقاد المقام بموضع
مدةً يلزمه إتمامُ الصلاةِ بها.


المنتقى شرح الموطأ 1/ 252.

وهذا أعم تعبير جاء في تعريف الإقامة،
فهو يشمل ما ذكره الفقهاء من كون هذه المدة أربعة أيام فأكثر، أو خمسة عشر يوما، أو
تسعة عشر يوما، أو التحديد بعدد صلوات.

والمسافر بهذا القيد لا يترخص عند
الجمهور برخص السفر من أول وصوله تلك البلدة التي دخلها؛ لأنه يصبح في حكم المقيم،
فإن لم يجمع إقامة مدة معينة، أو نوى إقامة مدةً أقل من أربعة أيام، أو لم يعلم متى
سيخرج، فهو مسافر يترخص برخص السفر ما دام على هذا الوصف.

قال ابن المنذر رحمه الله: "للمسافر
القصر ما لم يجمع إقامةً، وإن أتى عليه سنون". 

والمستوطن:
هو من اتخذ بلداً ما وطناً له بنية عدم الانتقال عنه.

والفرق بين المقيم والمستوطن أن
المقيم إذا نوى إقامة المدة التي توجب عليه إتمام الصلاة انقطع عنه حكم السفر،
ولزمه الإتمام من أول وصوله، لكن لا ينقطع بالنسبة للجمعة؛ لأن الجمعة يشترط فيها
الاستيطان، وهو غير مستوطن، بخلاف المستوطن فإنه تلزمه أحكام المواطن كاملة بما في
ذلك وجوب الجمعة.

فالمقيم غير المستوطن تثبت في حقه
أحكام السفر من وجه، وتنتفي من وجه آخر.الشرح
الممتع على زاد المستقنع 4/ 289.

لذلك يمكن أن يقال: كل استيطان إقامة
وليس كل إقامة استيطانا، فالاستيطان أعمُّ من الإقامة. 

هذا التقسيم الثلاثي المذكور بناء على
تقسيم جمهور الفقهاء المسافرَ إلى: مسافرٍ نوى الإقامة مدة معينة ويسمى مقيما،
ومسافرٍ لم ينوِ مدة معينة، أو نوى مدة لا يلزمه فيها إتمام الصلاة، وهي أقل من
أربعة أيام في قول الأكثرين، فإنه يبقى مسافرا، فكان المسافر بهذا قسمين، وثالثهما
المستوطن، غير أن هذا تقسيم ليـس له أصل من كتاب أو سنة أو عرف أو لغة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:


"فقد تضمنت هذه الأقوال -يعني أقوال
المحدِّدين لمدة انقطاع السفر- تقسيم الناس إلى مسافر، ومقيم مستوطن، ومقيم غير
مستوطن، أوجبوا عليه إتمام الصلاة والصيام والجمعة، قال: وهذا تقسيم لا دليل عليه
من جهة الشرع، قال: والتمييز بين المقيم والمسافر بنية أيام معدودة ليس معلوماً
بشرع ولا لغة ولا عرف". 


وقال: "وقد بُيِّن في غير موضع أنه ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله
عليه وسلم إلا مقيم ومسافر، والمقيم هو المستوطن، ومن سِوى هؤلاء فهو مسـافر يقصر
الصلاة "اهـ.مجموع
الفتاوى 24/ 137، 184، وانظر: الشرح
الممتع 1/ 137.

فالصحيح أن الشخص بين أن يكون مسافرا
أو مقيما مستوطنا، فإن أقام بمكان بنية السفر بعد فترة، فهو مسافر، سواء حدَّد
المدة ابتداء، أو كانت نيته أنه متى أراد أن يخرج خرج، على حدٍّ سواء؛ وذلك أنه لم
يقم دليل على هذا التقسيم، بل الأدلة كتاباً وسنةً تكاد تتوافر على التقسيم الثنائي
للناس، وهو إما أنه مسافر أو مقيم مستوطن. 


        أما اعتبار أن المقيم فقط هو من نوى مدة معينة، سواء أربعة أيام أو أكثر
فأين الدليل على هذا؟!

بل قام الدليل الأثري على أن الذي
يقابل المسافر هو المقيم المستوطن دون غيره، وليس في النصوص غير هذا التقسيم، ومن
ذلك الآتي:

أولا:
ما جاء في صحيح مسلم عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ
فَرَضَ الصَّلَاةَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلَى الْمُسَافِرِ رَكْعَتَيْنِ وَعَلَى الْمُقِيمِ أَرْبَعًا وَفِي الْخَوْفِ
رَكْعَةً). 

ثانيا:
أخرج مسلم أيضا عَنْ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ رحمه الله قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ؟ فَقَالَتْ: ائْتِ
عَلِيًّا فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنِّي، فَأَتَيْتُ عَلِيًّا فَسَأَلْتُهُ
عَنْ الْمَسْحِ؟

فَقَالَ: ( جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيَهُنَّ
لِلْمُسَافِرِ وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ ). 

ثالثا:
عن عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه صَلَّى بِمِنًى أَرْبَعَ
رَكَعَاتٍ فَأَنْكَرَهُ النَّاسُ عَلَيْهِ! فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي
تَأَهَّلْتُ بِمَكَّةَ مُنْذُ قَدِمْتُ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( مَنْ تَأَهَّلَ فِي بَلَدٍ فَلْيُصَلِّ
صَلَاةَ الْمُقِيمِ ). 

ووجه الاستدلال من هذه النصوص:

أن المتقرر في الشرع أن المسافر
يقابله المقيم، وليس المقيم عندهم هو من أنشأ نية إقامة عدد من الأيام، إنما هو من
مكث بالبلد بنية عدم الانتقال عنها، وهو المستوطن الذي ذكره الفقهاء.


        المناقشة:


        يناقش هذا بأن يقال: أين هذا التفريق من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وفعل
أصحابه رضي الله عنهم؟! فإنهم كانوا يترخَّصون برُخص السَّفر، دون ما يدل منهم على
التفريق بين المسافر بنية الإقامة الدائمة، أو الإقامة مدة تزيد على أربع أو تبدأ
من أربع، أو نحو ذلك.

فعن عمران بن حصين رضي الله عنه أنه
قال: " غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدت معه الفتح، فأقام بمكة ثماني
عشرة ليلة، لا يصلي إلا ركعتين، ويقول: 

يا أهل البلد: صلوا أربعا فإنا قوم
سفر.

وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه
أقام بقرية من قرى نيسابور شهرين وكان يقصر الصلاة. 

وأخرج عبد الرزاق في المصنف بسند صححه
الألباني عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أقام بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة.


وأخرج أيضا عن علقمة: أنه أقام
بخوارزم سنتين وكان يقصر. 

فهذه النصوص عامة، ليس فيها أنهم
أقاموا بعدم نية إقامة مطلقة، أو نية عدد من الأيام، وعلى تقدير أن هذا كان في
نفوسهم! فهل خرج هذا مخرج الشرط حتى يعتبر قيدا في المسألة، فهل قال النبي صلى الله
عليه وسلم أو أحد من أصحابه: إننا إنما قصرنا؛ لأننا لم ننوِ الإقامةَ المطلقة، أو
لم ننوِ عددا من الأيام؟!

وعليه فالناس في هذا الباب قسمان:

الأول:
المقيم المستوطن.

الثاني:
المسافر، ويراد به من مكث ببلد بغير نية المكث فيها أبدا، بل متى انتهت حاجته رجع.


فإذا قدم الشخص بلدا معينا بنية السفر، فإنه على الصحيح يترخص برخص السفر ما دام
على هذا الوصف، ولا ينقطع عنه حكم السفر حتى ينشئ نية الاستيطان، فإن أنشأها انقطع
عنه وصف السفر، ولزمته أحكام المواطن شرعا، والله أعلم.

كتبه: د.محمد بن موسى الدالي

في 20/1/1435هـ