الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد
فإن قاعدة الشرع في المسح على الخفين وعلى الرأس هو التخفيف، ورفع الحرج والمشقة في هذين العضوين على وجه الخصوص، الرأس والرِّجلان، وتزداد الرأس تخفيفا، حيث الأصل فيها المسح؛ بخلاف الرِّجلين، فالأصل فيهما الغسل، ولم تأتِ الشريعة بالمسح على غير هذين العضوين، ولو كان فيه مشقة، كما لو كان الكُمَّان ضيِّقَيْنِ ويشقن غسل الذراعين، فلا يمسح عليهما، وقد دل على ذلك الأصل، والسنة الفعلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما كان الأصل كذلك وجب على المسلم أن يعمل بموجب الدليل، دون محاولة التوسع الذي لم يدل عليه دليل، ودون التشديد المخالف للأصل في هذا الباب.
وقد ورد في المسح على العمامة عدد من الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي في الصحيحين عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ فَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ، وَعَلَى الْعِمَامَةِ، وَعَلَى الْخُفَّيْنِ، وفي البخاري عن عمرو بن أمية رضي الله عنه قال: (رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ عَلَى عِمَامَتِهِ وَخُفَّيْهِ)، وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين والخمار-أي: العمامة-؛ سميت بذلك لأنها تخمر الرأس وتغطيه.
فهذه أدلة صريحة واضحة في أنه يشرع المسح على العمامة وما شابهها، من خمار لامرأة ونحوه، بشرط أن يجتمع في الجميع مشقة النزع أو مشقة إعادة لفِّها، كالعمامة المكورة على الرأس، أو المحنكة أسفل الذقن، وخمار المرأة مثل ذلك وقد يكون أشد، فمتى شق النزع جاز المسح عليه بدلا من الرأس، ويلحق به ما يلبسه الجُنْدي على رأسه، وكل ما يشق نزعه.
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى المنع من ذلك في خمار المرأة، وجعلوه خاصًّا بالرجال! ولا يصح، فقد ثبت عن أم سلمة رضي الله عنها أنها مسحت على الخمار، ومن حيث المعقول، فإن الشريعة لا تفرِّق بين الرجل والمرأة في مثل ذلك، فمناطُ هذا التيسيرِ هو مشقةُ النزع، وهذا يستوي فيه الرجل والمرأة، فلا وجه لقصر الحكم على الرجال، دون النساء، بل قد تحتاجه المرأة أكثر، سيما إن وجدت في أماكن الرجال، واحتاجت للوضوء، فلا شك أن مسحها على خمارها أولى من مسح الرجل على عمامته!!
ولا يشترط للمسح على العمامة والخمار وما شابه أن يُلبس على طهارة، كما هو الحال في الخفين، فلا دليل على ذلك، كما لا يشترط مدة معينة للمسح، لعدم الدليل، والأصل الإطلاق، حتى يقوم الدليل على اشتراط شيء من ذلك.
ولا يمسح على الشماغ أو الغترة أو الطاقية أو الطرابيش ونحوها، ولا ما تضعه المرأة على رأسها أثناء عملها في بيتها ونحوه؛ إذ ينتفي في الجميع مشقة النزع، بل نزعها كلها يسير.
طريقة المسح على العمامة والخمار: يبنى هذا على ما ورد في صفة مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسَه في الوضوء، فقد كان يبدأ بمقدم رأسه إلى قفاه، ثم يرد يديه إلى مقدم الرأس، فإن قيل: إنه يفعل ذلك من أجل أن يصيب شعرَه، ظاهرَه وباطنَه، فإن هذا منتفٍ في الخمار والعمامة؛ لأن السطح مستوٍ فيهما، وإن قلنا: إنما يفعل ذلك تعبُّدا، فإنه يصنع ذلك أيضا في العمامة والخمار، فيبدأ بمقدم الرأس إلى القفا، ثم يردهما إلى المقدم مرة أخرى، ولو أخذ بالأخير لكان حسنا، فيصنع كما يصنع في مسح الرأس تماما، سيما والمسح عليهما من باب البدل، فيأخذ حكم المبدل منه.
وهل يمسح ناصية الرأس؟ نعم، إن كانت ظاهرة، أما إن كانت مستورة بالعمامة أو الخمار، فإنه يمسح مباشرة على مقدمة العمامة أو الخمار، وليس به حاجة أن يحسر عن رأسه ليمسح الناصية، وما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو محمول على أن ناصيته كانت مكشوفة، فمسح عليها وأكمل المسح على عمامته.
أما المسح على الجبيرة، فكثير من أهل العلم يرى أن المسح عليها بالقياس على المسح على الخفين؛ ولذلك يُجرِي فيها بعضَ أحكامِه، والصحيح أن المسح على الجبيرة يعتبر أصلا بذاته، يُستدَلُّ له بقصة الرجل الذي شُجَّ في رأسه، ثم احتلم واغتسل فمات، فقال صلى الله عليه وسلم: ( إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ، وَيَعْصِبَ عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا، وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ ). وفي إسناده مقال، وعند ابن ماجه بإسناد ضعيف أيضا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: انكسرت إحدى زندي. فسألت النبي صلى الله عليه و سلم، فأمرني أن أمسح على الجبائر.
ومما يؤكد ذلك أن المسح على الجبيرة يفارق المسحَ على الخفين في كل أحكامه، فهي لا تختص بمواضع الوضوء، بل قد تكون في غيرها، كالفخذ ونحوه، ولا يتوقع وضعها في وقت معين، بل تأتي فجأة، كما أن وقتها يطول بحسب الحاجة، كما أنه يمسح عليها في الغسل والوضوء، وليس الوضوء فقط، كالخفين، وكذلك يمسح على سائر الجبيرة؛ لأن المسح هنا بدل عن الغسل، وليس تعبُّديًّا كما هو في الخُفَّين، وقد ورد فيهما طريقة خاصة، وهو المسح أعلاهما فقط.
فالسنة - وإن كان في ثبوتها ضعف - إلا أنها تقرر أصلية المسح على الجبائر، وعلى تقدير أنها لم تثبت سندا فإن المسح على الجبائر والعصائب يكون من باب الاضطرار، وليس بالقياس على مسح الخفين؛ إذ لولا الضرورة لما شرع المسح على تلك المواضع، بخلاف المسح على الخفين، فهو مقصود للشارع ابتداء، سواء وجدت ضرورة أم لا، فالشارع يعمد إليه عمدا، وفي هذا الموضع خاصة.
والله تعالى ولي التوفيق
كتبه: د.محمد بن موسى الدالي
في 27/5/1440هـ