نَقلُ الزكاةِ من المكانِ الذي وَجَبَت فيه إلى آخرَ
الحمد
لله ر ب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى
آله وصحبه أجمعين، وبعد
فعند
التأمل لا نجد أن نقل الزكاة مرتبط بالمكان ارتباطا وثيقا، إلا إذا توسعنا، وقلنا:
المراد المكان الذي وجبت فيه الزكاة، فيكون الوطن وطنا للمال، وليس المراد وطن
الشخص، وهذا جائز على ضربٍ من التجوُّز؛ ووجهه أن الزكاة قد تجب على شخص في بلد
ليس وطنا له، ويريد أن ينقلها إلى وطنه الأصلي، أو إلى بلد آخر، فالمسألة هنا لم
ترتبط بوطن شخص، إنما بالوطن الذي وجبت فيه الزكاة، وهو ما يمكن تسميته بالموطن
الزكوي، أو موطن المال، كما سماه بعض المعاصرين([1]).
وبدايةً
المراد بنقل الزكاة في اصطلاح الفقهاء هو ما عبر عنه الشيخ القليوبي بقوله: "المراد
بنقلها أن يعطى منها من لم يكن في محلها وقت الوجوب" سواء كان من أهل ذلك
المحل أو من غيرهم، وسواء أخرجها عن المحل أو جاءوا بعد وقت الوجوب إليه([2]).
تصوير
المسألة:
لنقل
الزكاة ثلاث صور:
الأولى:
أن تجب الزكاة على أهل بلد، مواطنون أو مستوطنون فيها، وأموالهم في هذه البلاد، ثم
يريدون أن يخرجوها خارج البلاد، لداعٍ من الدواعي.
الثانية:
أن تجب الزكاة على مسافرين، أموالهم معهم، ثم يريدون أن يخرجوها لوطنهم الأصلي.
الثالثة:
أن تجب الزكاة على شخص، وهو في وطن، وماله في وطن آخر.
أما
الصورة الأولى والثانية، فتحرير النزاع فيها على النحو الآتي:
أولا: اتفق
أهل العلم أنه إذا فاضت الزكاة في بلد عن حاجة أهلها
جاز نقلها، بل قيل بوجوبها([3]).
ثانيا: اختلف أهل العلم فيما إذا
أراد المزكي نقل الزكاة، وبالبلد من يستحقها على أربعة أقوال، وإنما وقع الخلاف في
نقلها من بلد مع حاجة فقرائه؛ لأنه مخِلٌّ بالحكمة التي فُرضت لأجلها الزكاة، قال
ابن قدامة: "إن المقصود بالزكاة إغناء الفقراء بها عن السؤال، فإذا أبحنا
نقلها أفضى إلى بقاء فقراء ذلك البلد محتاجين"([4]).
والخلاف كالآتي:
القول الأول: أنه يكره نقل الزكاة من
بلد إلى بلد، وإنما تفرق صدقة كل أهل بلد فيهم، وهو مذهب الحنفية([5]).
واستثنى الحنفية مسألتين:
الأولى: أن ينقلها المزكي إلى قرابته،
لما في إيصال الزكاة إليهم من صلة الرحم.
الثانية: أن ينقلها إلى قوم هم أحوجُ
إليها من أهل بلده، وكذا لأصلح، أو أورع، أو أنفع للمسلمين، أو من دار الحرب إلى دار
الإسلام، أو إلى طالب علم.
الأدلة:
استدلوا لذلك بالآتي:
أولا: قول النبي صلى الله عليه وسلم:
( تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم )([6]).
ووجه الاستدلال: أن الخطاب لأهل
اليمن، فيكون المراد فقراءهم دون غيرهم.
المناقشة:
أجاب
العيني على الاستدلال بهذا الحديث بقوله: "هذا الاستدلال غير صحيح؛ لأن
الضمير في فقرائهم يرجع إلى فقراء المسلمين، وهو أعمُّ من أن يكون من فقراء أهل
تلك البلدة أو غيرهم"([7]).
ثانيا: عن أبي جحيفة رضي
الله عنه قال: "قدم علينا مُصدِّقُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الصدقة
من أغنيائنا، فجعلها في فقرائنا، فكنت يتيما فأعطاني منها قلوصا"([8])([9]).
الحديث
يدل على أن صدقة كلِّ بلد تصرف في فقراء أهله، ولا تنقل إلى غيرهم([10]).
المناقشة:
يناقش بأن عمل هذا المصَّدِّق يدلُّ على أن كونها تؤخذ من أغنياء البلد فتجعل في
فقرائهم هو المتقرر المعلوم، لكنه لا ينفي جواز النقل، ولا يدلُّ على كراهته.
ثالثا: أن فيه رعايةَ حقِّ الجوار([11]).
القول الثاني: أنه لا يجوز نقل الزكـاة
إلى ما يزيد عن مسافة القصر، وهو مذهب المالكية والشافعية في الأظهر والحنابلة، إلا
أن المالكية قالوا: المعتبر في الأموال الظاهرة البلد الذي فيه المال، والمعتبر في
النقد وعروض التجارة البلد الذي فيه المالك.
واستثنى المالكية أن يوجد من هو أحوج
ممن هو في البلد، فيجب حينئذ النقل منها ولو نقل أكثرها([12]).
الأدلة:
أولا: حديث معاذ المتقدم([13])
المناقشة:
نوقش بما تقدم من كون الضمير في
قوله: (فقرائهم) يعود على فقراء المسلمين([14]).
ثانيا: أن عمر رضي الله عنه بعث معاذا
إلى اليمن، فبعث إليه معاذ من الصدقة، فأنكر عليه عمر وقال: "لم أبعثك جابِيا،
ولا آخذَ جزيةٍ، ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس فترد على فقرائهم"، فقال معـاذ:
"ما بعثت إليك بشئ، وأنا أجـد من يأخذه مني"([15]).
المناقشة: نوقش هذا الأثر بأنه ضعيف.
ثالثا: أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله
أُتيَ بزكاةٍ من خراسان إلى الشام فردَّها إلى خراسان([16]).
المناقشة:
يناقش هذا من وجهين:
أولا: أنه فعل تابعي، فأيُّ حجة
فيه؟!
ثانيا: أنه على تقدير الاحتجاج به
فإنه يحمل على أن أهل هذه البلاد لم يكتفوا من الزكاة، بل بها من هم مستحقون
للزكاة.
القول الثالث: أنه يجوز مطلقا نقل
الزكاة من بلد لآخر، وهو مذهب الشافعية في غير الأصح، وهو قول
منقول عن الإمام مالك، ووجه عند الحنابلة إذا رجيت مصلحة بشرط ألا تزيد على مسافة
القصر([17]).
الأدلة:
أولا:
قوله تعالى: ] إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ
عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي
سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ [ التوبة-60.
ووجه
الدلالة: أن الآية مطلقة غير مقيدة بمكان خاص.
ثانيا: قول معاذ رضي الله عنه لأهل اليمن:
"ائتوني بعرض ثياب خميس أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة، أهون عليكم،
وخير لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة"([18])([19]).
ففيه
دليل على جواز نقل الزكاة من اليمن إلى المدينة ليتولى النبي صلى الله عليه وسلم
قسمتها.
المناقشة:
نوقش هذا الأثر بالضعف، وأنه منقطع.
القول الرابع:
أنه
يجوز نقلها لمصلحة شرعية كقريب محتاج ونحوه، وهو ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله([20]).
الأدلة:
واستدل
لذلك بأثر معاذ رضي الله عنه السابق: " ائتوني بعرض ثياب خميس أو لبيس في
الصدقة مكان الشعير والذرة، أهون عليكم، وخير لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
بالمدينة "([21]).
المناقشة:
نوقش هذا الأثر بالضعف، كما تقدم.
الترجيح:
بعد
النظر في الأقوال في هذه المسألة، وأدلة كل قول، والمناقشات الواردة عليها، يترجح
التفصيل الآتي:
أولا: أن الأصل في توزيع الزكاة أن يكون في محل
الوجوب، ولا تنقل عنه ما دام فيه مستحقون للزكاة، للآتي:
1-أن الأحاديث الصحيحة قد دلت على أن
الزكاة تؤخذ من الأغنياء في البلد وترد على الفقراء فيه.
2-أن الفقير يرى الأموال التي تجب فيها
الزكاة، ويقع بصره عليها، فلابد أن يعطى منها؛ لكي لا تتولد عنده الكراهية والحسد
والضغينة على الأغنياء.
3-أن الإسلام يحرص على تحقيق التكافل
الاجتماعي بين الوحدات الاجتماعية على مستوى الأسرة والعائلة والقرية والبلدة.
4-أن توزيع الزكاة في محل الوجوب يؤدي إلى
الاكتفاء الذاتي في كل إقليم([22]).
قال
شيخ الإسلام: "وإنما قال السلف: جيران المال أحق بزكاته، وكرهوا نقل الزكاة
إلى بلد السلطان وغيره، ليكتفي أهل كل ناحية بما عندهم من الزكاة"([23]).
فلا
يجوز الخروج عن هذا الأصل إلا بما يوجب ذلك.
ثانيا:
عند تأمل الحكمة من مشروعية الزكاة نجد أن مقتضياتها القول بجواز نقل الزكاة عندما
تترجح المصلحة في غير بلد الوجوب؛ لأن دفع الحاجة والمواساة هي الأساس في مشروعية
الزكاة، والحاجة تختلف باختلاف الأشخاص والأمكنة والأزمنة، فقد تتعين الحاجة
والمصلحة في غير بلد الوجوب، فيحسن حينئذ نقلها.
ثالثا:
أننا لا نجد دليلا صريحا في عدم جواز النقل، مما يدعم القول بجواز نقلها عند وجود
مصلحة في ذلك([24]).
قال
شيخ الإسلام رحمه الله: " وتحديد المنع من نقل الزكاة بمسافة القصر ليس عليه
دليل شرعي، ويجوز نقل الزكاة وما في حكمها لمصلحة شرعية "([25]).
لذا
فإن القول بجواز النقل عند وجود المصلحة في ذلك قول وجيه، موافق لقواعد الشريعة، وتجتمع
به الأدلة، والله أعلم.
الصورة
الثالثة: أن تجب الزكاة على شخص وهو في وطن، وماله في بلد آخر.
ولهذه
الصورة حالتان:
الحال
الأولى: أن يوجد الشخص في وطنه الأصلي، أو الذي استوطنه.
وقد ذهب جمهور الفقهاء في هذه الحال إلى أن
الزكاة تجب في موضع الوجوب، وهو الموضع الذي يوجد به المال، فيجب إخراج الزكاة في
الوطن الذي يوجد به المال.
قال
ابن عابدين: " ويعتبر في الزكاة مكان المال في الروايات كلها "([26]).
وحكي
الخرشي عن المالكية قولهم: "أن الزكاة يجب أداؤها بموضع الوجوب، وهو الموضع
الذي يجبى منه المال، وفيه المالك والمستحقون، أو إلى ما يقرب من موضع الوجوب"([27]).
وقال
الشافعي رحمه الله تعالى: " اذا كان للرجل مال ببلد وكان ساكنا ببلد غيره، قسمت
صدقته على أهل البلد الذي به ماله الذي فيه الصدقة، كانوا أهل قرابة أو غير قرابة
"([28]).
والحنابلة
كذلك، قال ابن مفلح: "ومن لزمه زكاة المال في بلد وماله في بلـد آخر فرَّقها في بلد المال، نصَّ عليه"([29]).
الحال
الثانية: أن يوجد الشخص في بلد آخر، وهو ليس مواطنا فيه، أو مستوطنا له، إنما يكون
مسافرا فيه.
فبالرغم
مما اتَّفق عليه الفقهاء من وجوب دفع الزكاة في محل المال ما دام هناك حاجة، ووجد
في البلد من الأصناف الثمانية ممن يستحق الزكاة، إلا أنهم استثنوا من ذلك حالة
السفر، وذلك كأن يكون المالك مسافرا وحال الحول على ماله الذي تركه في بلده، ففي
هذه الحالة يؤدي زكاة ماله في دار سفره، ولا يشترط عليه توزيعها في وطنه الأصلي.
جاء
في المدونة "سئل مالك عن المسافر تجب عليه الزكاة، وهو في سفر أيقسمها في
سفره في غير بلده، وإن كان ماله وراءه في بلده؟ قال: نعم".
ولو
أن تاجرا سافر ببعض ماله للتجارة، وحال الحول على ما يملكه من مال، ففي هذه الحالة
يحق له زكاة جميع ماله الذي وجبت فيه الزكاة في موضع سفره، سواء كان ما معه أو
الذي خلفه في مصره([30]).
وحكى
النووي عن الشافعية مثل هذا، فقال: "ولو كان تاجرا مسافرا، صرفها حيث حال
الحول"([31]).
وحكى
ابن قدامة عن الحنابلة ما يقضي بدفع التاجر زكاته حيث حال الحول على ماله في أي
موطن كان، قال رحمه الله: "ومفهوم كلام أحمد في اعتباره الحول التام، أنه
يسهل في أن يفرقها في ذلك البلد وغيره من البلدان التي أقام بها في ذلك الحول"([32]).
نقل زكاة الفطر:
تحرير النزاع:
أولا: اتفق أهل العلم فيما إذا كان
الشخص، ومن يلزمه إخراج زكاة الفطر عنه في مكان واحد أن زكاة الفطر تفرَّق في البلد
الذي وجبت على المكلف فيه، سواء أكان ماله فيه أم لم يكن؛ لأن الذي وجبت عليه هو سبب
وجوبها، فتُفرَّق في البلد الذي سببها فيه([33]).
ثانيا:
اختلفوا فيما إذا كان المخرِج لزكاة الفطر في بلد، ومن يلزمه إخراج الزكاة عنهم في
بلد آخر، فهل العبرة بمكان إقامة المخرِج، أو بمكان من يخرج عنهم؟ على قولين:
القول
الأول: أن العبرة بمكان المخرِج للزكاة، ولا عبرة بمكان المخرَج عنه، وهو الصحيح
من مذهب الحنفية، ومذهب المالكية، والشافعية في الأصح، والمشهور من مذهب الحنابلة،
إلا أن المالكية قالوا باستحباب ذلك، فإن أخرجها عنه أهله في مكانهم أجزأه([34]).
الأدلة:
واستدلوا
لذلك بالآتي:
أولا:
أن زكاة الفطر تجب على المخرِج في ذمته عن رأسه حيث كان هو، ورؤوس أولاده في حقه
كرأسه في وجوب المؤنة التي هي سبب صدقة الفطر، فتجب حيث كان رأسه.
ثانيا:
أن صدقة الفطر تتعلق بذمة المؤدِّي لها، لا بمن تؤدَّى عنهم، فإذا تعلقت صدقة
الفطر بذمة المؤدي لها اعتبر مكانه، لا مكان المؤدى عنهم.
نَقلُ الزكاةِ من المكانِ الذي وَجَبَت فيه إلى آخرَ الحمد
لله ر ب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى
آله وصحبه أجمعين، وبعد فعند
التأمل لا نجد أن نقل الزكاة مرتبط بالمكان ارتباطا وثيقا، إلا إذا توسعنا، وقلنا:
المراد المكان الذي وجبت فيه الزكاة، فيكون الوطن وطنا للمال، وليس المراد وطن
الشخص، وهذا جائز على ضربٍ من التجوُّز؛ ووجهه أن الزكاة قد تجب على شخص في بلد
ليس وطنا له، ويريد أن ينقلها إلى وطنه الأصلي، أو إلى بلد آخر، فالمسألة هنا لم
ترتبط بوطن شخص، إنما بالوطن الذي وجبت فيه الزكاة، وهو ما يمكن تسميته بالموطن
الزكوي، أو موطن المال، كما سماه بعض المعاصرين([1]). وبدايةً
المراد بنقل الزكاة في اصطلاح الفقهاء هو ما عبر عنه الشيخ القليوبي بقوله: "المراد
بنقلها أن يعطى منها من لم يكن في محلها وقت الوجوب" سواء كان من أهل ذلك
المحل أو من غيرهم، وسواء أخرجها عن المحل أو جاءوا بعد وقت الوجوب إليه([2]). تصوير
المسألة: لنقل
الزكاة ثلاث صور: الأولى:
أن تجب الزكاة على أهل بلد، مواطنون أو مستوطنون فيها، وأموالهم في هذه البلاد، ثم
يريدون أن يخرجوها خارج البلاد، لداعٍ من الدواعي. الثانية:
أن تجب الزكاة على مسافرين، أموالهم معهم، ثم يريدون أن يخرجوها لوطنهم الأصلي. الثالثة:
أن تجب الزكاة على شخص، وهو في وطن، وماله في وطن آخر. أما
الصورة الأولى والثانية، فتحرير النزاع فيها على النحو الآتي: أولا: اتفق
أهل العلم أنه إذا فاضت الزكاة في بلد عن حاجة أهلها
جاز نقلها، بل قيل بوجوبها([3]). ثانيا: اختلف أهل العلم فيما إذا
أراد المزكي نقل الزكاة، وبالبلد من يستحقها على أربعة أقوال، وإنما وقع الخلاف في
نقلها من بلد مع حاجة فقرائه؛ لأنه مخِلٌّ بالحكمة التي فُرضت لأجلها الزكاة، قال
ابن قدامة: "إن المقصود بالزكاة إغناء الفقراء بها عن السؤال، فإذا أبحنا
نقلها أفضى إلى بقاء فقراء ذلك البلد محتاجين"([4]). والخلاف كالآتي: القول الأول: أنه يكره نقل الزكاة من
بلد إلى بلد، وإنما تفرق صدقة كل أهل بلد فيهم، وهو مذهب الحنفية([5]). واستثنى الحنفية مسألتين: الأولى: أن ينقلها المزكي إلى قرابته،
لما في إيصال الزكاة إليهم من صلة الرحم. الثانية: أن ينقلها إلى قوم هم أحوجُ
إليها من أهل بلده، وكذا لأصلح، أو أورع، أو أنفع للمسلمين، أو من دار الحرب إلى دار
الإسلام، أو إلى طالب علم. الأدلة: استدلوا لذلك بالآتي: أولا: قول النبي صلى الله عليه وسلم:
( تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم )([6]). ووجه الاستدلال: أن الخطاب لأهل
اليمن، فيكون المراد فقراءهم دون غيرهم. المناقشة: أجاب
العيني على الاستدلال بهذا الحديث بقوله: "هذا الاستدلال غير صحيح؛ لأن
الضمير في فقرائهم يرجع إلى فقراء المسلمين، وهو أعمُّ من أن يكون من فقراء أهل
تلك البلدة أو غيرهم"([7]). ثانيا: عن أبي جحيفة رضي
الله عنه قال: "قدم علينا مُصدِّقُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ الصدقة
من أغنيائنا، فجعلها في فقرائنا، فكنت يتيما فأعطاني منها قلوصا"([8])([9]). الحديث
يدل على أن صدقة كلِّ بلد تصرف في فقراء أهله، ولا تنقل إلى غيرهم([10]). المناقشة:
يناقش بأن عمل هذا المصَّدِّق يدلُّ على أن كونها تؤخذ من أغنياء البلد فتجعل في
فقرائهم هو المتقرر المعلوم، لكنه لا ينفي جواز النقل، ولا يدلُّ على كراهته. ثالثا: أن فيه رعايةَ حقِّ الجوار([11]). القول الثاني: أنه لا يجوز نقل الزكـاة
إلى ما يزيد عن مسافة القصر، وهو مذهب المالكية والشافعية في الأظهر والحنابلة، إلا
أن المالكية قالوا: المعتبر في الأموال الظاهرة البلد الذي فيه المال، والمعتبر في
النقد وعروض التجارة البلد الذي فيه المالك. واستثنى المالكية أن يوجد من هو أحوج
ممن هو في البلد، فيجب حينئذ النقل منها ولو نقل أكثرها([12]). الأدلة: أولا: حديث معاذ المتقدم([13]) المناقشة: نوقش بما تقدم من كون الضمير في
قوله: (فقرائهم) يعود على فقراء المسلمين([14]). ثانيا: أن عمر رضي الله عنه بعث معاذا
إلى اليمن، فبعث إليه معاذ من الصدقة، فأنكر عليه عمر وقال: "لم أبعثك جابِيا،
ولا آخذَ جزيةٍ، ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس فترد على فقرائهم"، فقال معـاذ:
"ما بعثت إليك بشئ، وأنا أجـد من يأخذه مني"([15]). المناقشة: نوقش هذا الأثر بأنه ضعيف. ثالثا: أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله
أُتيَ بزكاةٍ من خراسان إلى الشام فردَّها إلى خراسان([16]). المناقشة: يناقش هذا من وجهين: أولا: أنه فعل تابعي، فأيُّ حجة
فيه؟! ثانيا: أنه على تقدير الاحتجاج به
فإنه يحمل على أن أهل هذه البلاد لم يكتفوا من الزكاة، بل بها من هم مستحقون
للزكاة. القول الثالث: أنه يجوز مطلقا نقل
الزكاة من بلد لآخر، وهو مذهب الشافعية في غير الأصح، وهو قول
منقول عن الإمام مالك، ووجه عند الحنابلة إذا رجيت مصلحة بشرط ألا تزيد على مسافة
القصر([17]). الأدلة: أولا:
قوله تعالى: ] إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ
عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي
سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ [ التوبة-60. ووجه
الدلالة: أن الآية مطلقة غير مقيدة بمكان خاص. ثانيا: قول معاذ رضي الله عنه لأهل اليمن:
"ائتوني بعرض ثياب خميس أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة، أهون عليكم،
وخير لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة"([18])([19]). ففيه
دليل على جواز نقل الزكاة من اليمن إلى المدينة ليتولى النبي صلى الله عليه وسلم
قسمتها. المناقشة:
نوقش هذا الأثر بالضعف، وأنه منقطع. القول الرابع:
أنه
يجوز نقلها لمصلحة شرعية كقريب محتاج ونحوه، وهو ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله([20]). الأدلة: واستدل
لذلك بأثر معاذ رضي الله عنه السابق: " ائتوني بعرض ثياب خميس أو لبيس في
الصدقة مكان الشعير والذرة، أهون عليكم، وخير لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
بالمدينة "([21]). المناقشة:
نوقش هذا الأثر بالضعف، كما تقدم. الترجيح: بعد
النظر في الأقوال في هذه المسألة، وأدلة كل قول، والمناقشات الواردة عليها، يترجح
التفصيل الآتي: أولا: أن الأصل في توزيع الزكاة أن يكون في محل
الوجوب، ولا تنقل عنه ما دام فيه مستحقون للزكاة، للآتي: 1-أن الأحاديث الصحيحة قد دلت على أن
الزكاة تؤخذ من الأغنياء في البلد وترد على الفقراء فيه. 2-أن الفقير يرى الأموال التي تجب فيها
الزكاة، ويقع بصره عليها، فلابد أن يعطى منها؛ لكي لا تتولد عنده الكراهية والحسد
والضغينة على الأغنياء. 3-أن الإسلام يحرص على تحقيق التكافل
الاجتماعي بين الوحدات الاجتماعية على مستوى الأسرة والعائلة والقرية والبلدة. 4-أن توزيع الزكاة في محل الوجوب يؤدي إلى
الاكتفاء الذاتي في كل إقليم([22]). قال
شيخ الإسلام: "وإنما قال السلف: جيران المال أحق بزكاته، وكرهوا نقل الزكاة
إلى بلد السلطان وغيره، ليكتفي أهل كل ناحية بما عندهم من الزكاة"([23]). فلا
يجوز الخروج عن هذا الأصل إلا بما يوجب ذلك. ثانيا:
عند تأمل الحكمة من مشروعية الزكاة نجد أن مقتضياتها القول بجواز نقل الزكاة عندما
تترجح المصلحة في غير بلد الوجوب؛ لأن دفع الحاجة والمواساة هي الأساس في مشروعية
الزكاة، والحاجة تختلف باختلاف الأشخاص والأمكنة والأزمنة، فقد تتعين الحاجة
والمصلحة في غير بلد الوجوب، فيحسن حينئذ نقلها. ثالثا:
أننا لا نجد دليلا صريحا في عدم جواز النقل، مما يدعم القول بجواز نقلها عند وجود
مصلحة في ذلك([24]). قال
شيخ الإسلام رحمه الله: " وتحديد المنع من نقل الزكاة بمسافة القصر ليس عليه
دليل شرعي، ويجوز نقل الزكاة وما في حكمها لمصلحة شرعية "([25]). لذا
فإن القول بجواز النقل عند وجود المصلحة في ذلك قول وجيه، موافق لقواعد الشريعة، وتجتمع
به الأدلة، والله أعلم. الصورة
الثالثة: أن تجب الزكاة على شخص وهو في وطن، وماله في بلد آخر. ولهذه
الصورة حالتان: الحال
الأولى: أن يوجد الشخص في وطنه الأصلي، أو الذي استوطنه. وقد ذهب جمهور الفقهاء في هذه الحال إلى أن
الزكاة تجب في موضع الوجوب، وهو الموضع الذي يوجد به المال، فيجب إخراج الزكاة في
الوطن الذي يوجد به المال. قال
ابن عابدين: " ويعتبر في الزكاة مكان المال في الروايات كلها "([26]). وحكي
الخرشي عن المالكية قولهم: "أن الزكاة يجب أداؤها بموضع الوجوب، وهو الموضع
الذي يجبى منه المال، وفيه المالك والمستحقون، أو إلى ما يقرب من موضع الوجوب"([27]). وقال
الشافعي رحمه الله تعالى: " اذا كان للرجل مال ببلد وكان ساكنا ببلد غيره، قسمت
صدقته على أهل البلد الذي به ماله الذي فيه الصدقة، كانوا أهل قرابة أو غير قرابة
"([28]). والحنابلة
كذلك، قال ابن مفلح: "ومن لزمه زكاة المال في بلد وماله في بلـد آخر فرَّقها في بلد المال، نصَّ عليه"([29]). الحال
الثانية: أن يوجد الشخص في بلد آخر، وهو ليس مواطنا فيه، أو مستوطنا له، إنما يكون
مسافرا فيه. فبالرغم
مما اتَّفق عليه الفقهاء من وجوب دفع الزكاة في محل المال ما دام هناك حاجة، ووجد
في البلد من الأصناف الثمانية ممن يستحق الزكاة، إلا أنهم استثنوا من ذلك حالة
السفر، وذلك كأن يكون المالك مسافرا وحال الحول على ماله الذي تركه في بلده، ففي
هذه الحالة يؤدي زكاة ماله في دار سفره، ولا يشترط عليه توزيعها في وطنه الأصلي. جاء
في المدونة "سئل مالك عن المسافر تجب عليه الزكاة، وهو في سفر أيقسمها في
سفره في غير بلده، وإن كان ماله وراءه في بلده؟ قال: نعم". ولو
أن تاجرا سافر ببعض ماله للتجارة، وحال الحول على ما يملكه من مال، ففي هذه الحالة
يحق له زكاة جميع ماله الذي وجبت فيه الزكاة في موضع سفره، سواء كان ما معه أو
الذي خلفه في مصره([30]). وحكى
النووي عن الشافعية مثل هذا، فقال: "ولو كان تاجرا مسافرا، صرفها حيث حال
الحول"([31]). وحكى
ابن قدامة عن الحنابلة ما يقضي بدفع التاجر زكاته حيث حال الحول على ماله في أي
موطن كان، قال رحمه الله: "ومفهوم كلام أحمد في اعتباره الحول التام، أنه
يسهل في أن يفرقها في ذلك البلد وغيره من البلدان التي أقام بها في ذلك الحول"([32]). نقل زكاة الفطر: تحرير النزاع: أولا: اتفق أهل العلم فيما إذا كان
الشخص، ومن يلزمه إخراج زكاة الفطر عنه في مكان واحد أن زكاة الفطر تفرَّق في البلد
الذي وجبت على المكلف فيه، سواء أكان ماله فيه أم لم يكن؛ لأن الذي وجبت عليه هو سبب
وجوبها، فتُفرَّق في البلد الذي سببها فيه([33]). ثانيا:
اختلفوا فيما إذا كان المخرِج لزكاة الفطر في بلد، ومن يلزمه إخراج الزكاة عنهم في
بلد آخر، فهل العبرة بمكان إقامة المخرِج، أو بمكان من يخرج عنهم؟ على قولين: القول
الأول: أن العبرة بمكان المخرِج للزكاة، ولا عبرة بمكان المخرَج عنه، وهو الصحيح
من مذهب الحنفية، ومذهب المالكية، والشافعية في الأصح، والمشهور من مذهب الحنابلة،
إلا أن المالكية قالوا باستحباب ذلك، فإن أخرجها عنه أهله في مكانهم أجزأه([34]). الأدلة:
واستدلوا
لذلك بالآتي: أولا:
أن زكاة الفطر تجب على المخرِج في ذمته عن رأسه حيث كان هو، ورؤوس أولاده في حقه
كرأسه في وجوب المؤنة التي هي سبب صدقة الفطر، فتجب حيث كان رأسه. ثانيا:
أن صدقة الفطر تتعلق بذمة المؤدِّي لها، لا بمن تؤدَّى عنهم، فإذا تعلقت صدقة
الفطر بذمة المؤدي لها اعتبر مكانه، لا مكان المؤدى عنهم. التعليقات (0)