الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد
فإن الدين الإسلامي كامل تام، أُنزل من لدن حكيم خبير رؤوف رحيم، شرع لعباده ما ينفعهم في دنياهم وأخراهم، وقد شرع الله تعالى في دينه للميت أحكاما، ومن أهمها بعد تغسيله وتكفينه: الدعاء له، والصلاة عليه، واتباع جنازته حتى القبر، ثم سؤال الله تعالى له الثباتَ عند سؤاله في القبر، والمواصلة على الدعاء له بعد موته، حتى جعل هذا من العمل المستمر للميت: (أو ولد صالح يدعو له) وهذا إن رأيته وفطنته علمت عظمة هذا الدين، ومدى عنايته بالعبد، حيا وميتا، وحرصه على ما ينفعه.
وفي المقابل تجد ما يفعله الكفار بموتاهم لا روح له، ولا حقيقة، ولا نفع فيه للميت، ومن أشهر أعمال الكفار لموتاهم هو الوقوف دقيقة حداد عليهم!! وما أدري ما الذي يعود به هذا العمل على الميت؟! وأي تعظيم في ذلك لروح الميت، وأي فائدة ترجى من وراء هذاالعمل، سواء للميت أم الحي، الذي قام به؟! ثم من العجب أن ينتقل هذا التصرف إلى المسلمين، وفي محافلهم، واجتماعاتهم، فهو مع كونه عاريا عن الفائدة، متجردا من النفع، فهو عادة من عادات الكفار انتقلت إلينا، وأقل أحوال فاعل ذلك التشبه بالكفار في هذا الصنيع الخاص بهم، والذي كما سبق لا يعود بالنفع على أحد، لا الميت، ولا الحي.
فلا حقيقة لمشروعية هذا العمل، ولا موافقة له للإسلام البتة.
أما من استدل بالسنة على مشروعية هذا العمل، فقال: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ فَقَامَ. فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ! فَقَالَ: أَلَيْسَتْ نَفْسًا؟!" فقال: هذا فيه وقوف للميت، فهو إذن دليل على مشروعية دقيقة حداد، وموافقتها للشريعة الإسلامية!!! والله المستعان.
فالجواب:
- أن هذا القيام كان لجنازة قائمة بالفعل مرت بين يدي رسول الله صلى الله عليه سلم، وليس لشخص غائب، وشتان بين الحالين؛ ولذلك قال: (إِنَّ الْمَوْتَ فَزَعٌ، فَإِذَا رَأَيْتُمُ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا)، وفي لفظ: ( إِذَا رَأَيْتُمْ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا حَتَّى تُخَلِّفَكُمْ )، وفي لفظ: (إِذَا رَأَيْتُمْ الْجَنَازَةَ فَقُومُوا فَمَنْ تَبِعَهَا فَلَا يَقْعُدْ حَتَّى تُوضَعَ).
فهذا مقام آخر لا علاقة له بدقيقة الحداد، لا من قريب، ولا من بعيد، لم يفهمه صاحب الدليل، والله المستعان.
فإن هذا القيام تعظيم للنفس الحاضرة في جنازتها، وتعظيم للموت نفسه، وليس لذات الميت؛ إذ من مات على اليهودية أو غيرها من غير الإسلام، فقد مات على الكفر، فلا يشرع الدعاء له بالرحمة، ولا الثناء عليه، فلا يفهم من هذا النص أنه ثناء على اليهودي أو غيره إلا جاهلٌ؛ إذ القرآن صرح بكفر من مات على الشرك، وعلى غير ملة الإسلام، فقال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) وقال تعالى: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ).
- أن هذا القيام لم يكن يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من أصحابه البتة إن مات ميِّتُهم، كمَعْلَم من معالم الإسلام، إنما شرع الصلاة عليه، إن كان حاضرا، أو صلاة الغائب لمن لم يحضر الجنازة، لا القيام لها.
وأما تعليلهم بأن هذا يحصل به الموعظة والعبرة، فهذا باطل، فما زال أهل الفن وغيرهم يقفون دقيقة الحداد في حفلاتهم، ثم يكملون السهرة بعدها بالغناء والرقص!!
أو يعللون بأن هذا من مظاهر التكريم للميت!
فالجواب: أن التكريم حقيقة هو في الدعاء للميت، والصلاة عليه، حاضرا كان أم غائبا، وحصول النفع العظيم له بذلك، فإن فاتتك الصلاة عليه، فأكثِرْ من الدعاء له، وأدِمْ على ذلك، فهذا هو التكريم الحقيقي، والذي يجب أن يُصدَّر من أهل الإسلام إلى غيرهم، فكان حريا بهؤلاء أن يستبدلوا هذه الدقيقة عند ذكر الميت بدعوة المسلمين للدعاء له والإكثار من ذلك، فهذا هو غاية التكريم.
وأما قولهم: إن هذا لم يعد خاصا بغير المسلمين، إنما هو من جملة المباحات عندهم!
فالجواب: بالرفض والممانعة، فإن هذا من دينهم وعباداتهم، ولا تخلو منه جنازة من جنائزهم، فكيف يكون من جملة المباحات؟!
وأخيرا أدعو نفسي ومن يصله هذا الكلام من المسلمين إلى ضرورة التمسك بالدين الإسلامي وشعائره، ورفض سائر ما يرد علينا من غير المسلمين، مما هو من خصائص دينهم، وعباداتهم، والوقوف عند ذلك بقوة، فالأمر دين.
والله تعالى ولي التوفيق
كتبه: د. محمد بن موسى الدالي
في 13/11/1440هـ