الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد
فإن أصول الشرع أن فعل المحظور في العبادة على وجه الخطأ أو النسيان أو الجهل أو الإكراه، لا يؤاخذ به العبد، ولا يطالب بقضائه، وقد تواترت الأصول على ذلك، فمن تكلم في الصلاة بغير علم، فهذا محظور، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة، وإنما علمه أن الصلاة لا يصح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التكبير والتسبيح.
ومن أكل ظانًّا أن الليل باقٍ، وجعل يرقب وسادته، حتى يرى الخيط الأبيض! وهذا فعل محظور في العبادة، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بقضاء اليوم.
ومن أكل أو شرب ناسيًا في رمضان، فإن الشارع أمره أن يتم صومه، ولم يأمره الشارع بالقضاء، مع أنه فعل محظورًا في العبادة.
ومن أحرم بالعمرة، وبعد ما أحرم صفَّر لحيته بالطيب، وكان عليه جُبَّة! وتلك محظورات في العبادة، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم، إلا بغسل الطيب، ونزع الجبة.
وفي الحديث الصحيح عن أسماء رضي الله عنها، قالت: (أفطرنا في يوم غيم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم طلعت الشمس) البخاري، ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالقضاء، وهذا صريح في تلك المسألة خاصة.
أما من قال: لعل النبي صلى الله عليه وسلم لم يطَّلِع على الحدث، فنقول: حتى ولو لم يطلع عليه، فإن الزمن زمنُ تشريعٍ، وقد اطلع الله تعالى عليه وعلمه، ولو كان القضاء واجبًا في تلك الحال، لأمر الله تعالى به، سواء في كتابه أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم.
ثم الأكل أو الشرب ظانًّا غروب الشمس، فهذا أيضا من الخطأ الذي عفى الله تعالى عنه، قال تعالى: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) قال تعالى: قد فعلت، وقال تعالى: ( وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به، ولكن ما تعمدت قلوبكم) فهذا يرفع الخطأ كله، ولو ألزمنا الناس بالقضاء في تلك الحال، لكنا قد جعلنا عليهم جناحا، وقد رفعه الله تعالى!!
وقد قال تعالى في أعظم المحظورات وأعلاها في الحج، وهو قتل الصيد، قال: (ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل .. ) فلم يرتب الله تعالى عليه الضمان إلا مع التعمد، وهو احتراز ممن فعله خطأ أو نسيانا أو جهلا أو إكراها.
فلا فرق في فعل المحظور، بين الجهل والخطأ والنسيان والإكراه، فكل ما وقع على وجه من تلك الوجوه، فلا إثم، ولا ضمان، من قضاء ونحوه.
وهذا بخلاف ترك الواجب، فهو الذي لا يعذر فيه العبد بتلك الأربعة، فإن ترك الواجب على أحد تلك الوجوه: الخطأ أو النسيان أو الجهل أو الإكراه، فإنه يرفع عنه الإثم، ويطالب بالواجب نفسه أو بدله.
وهذا يحصل فيه خلط عند بعض الأخوة عند الفتوى، فيسوِّي بين فعل المحظور في العبادة، وبين ترك الواجب لها، فيحصل هذا الخطأ!
وأما أمْرُ عمرَ رضي الله عنه لمن أفطر في يوم غيم، ثم طلعت الشمس، فأمرهم بالقضاء، فهو إما لم يطلع على قصة أسماء رضي الله عنها، وإما أنه من باب الاحتياط.
لكن الباب مطرد وواضح، وهو حدث وقع زمن التشريع، ولم يأمر الشارع فيه بشيء، إضافةً إلى الأصول المطردة التي سبق ذكرها، والتي لا تُلزِم من أخطأ أو جهل أو نسي أو أُكرِه، لم تُلزِمْه بشيءٍ.
وليس الخطأ من النسيان ببعيد، وفي الحديث الذي تقدم: (فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه) ولم يأمر بالقضاء.
والله الموفق
كتبه: د. محمد بن موسى الدالي
في الثالث عشر من رمضان، لعام ثلاثة وأربعين وأربعمائة وألف، من الهجرة المباركة.