الطب الحديث ينفي أن يعيش الجنين في بطن أمه أكثر من سنة.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الخلق وسيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
فإن مما لا يخفى على أحد الخلاف الكبير بين الفقــهاء في أكثر مدة للحمل، والآثار المترتبة على ذلك، وقد جرى الخلاف على النحو الآتي:
القول الأول: أنه لا حدَّ لأكثر مدة الحمل، وهو رواية عن الإمام مالك؛ مستدلين لذلك بأن الشارع لم يحدد مدة لأقصى الحمل.
القول الثاني: أن أكثر مدة الحمل سبع سنوات، وبه قال الزهري، وبعض المالكية، ودليله الوجود، بأن وجد بعض النساء حملن سبع سنوات، ففي المدونة عن الليث بن سعد عن ابن عجلان أن امرأة له وضعت في سبع سنوات.
القول الثالث: أن أكثر مدة الحمل خمس سنوات، وهو المشهور من مذهب المالكية، ودليله وجود بعض النساء حملن خمس سنوات.
القول الرابع: أن أكثر مدة الحمل أربع سنوات، وهو رواية عن مالك، ومذهب الشافعية، وظاهر مذهب الحنابلة، والدليل وجود بعض النساء حملن أربع سنوات، وهو مشهور في نساء بني عجلان، وقيل: إن الضحاك ولدته أمه لأربع سنوات وقد نبتت ثناياه، وهو يضحك؛ فلذا سمي ضحاكا، ويحكى أن الماجشون ولد بعد أربع سنوات في بطن أمه، وهي أيضا عادة معروفة في نساء ماجشون.
القول الخامس: أن أكثر مدة الحمل ثلاث سنوات، وهو قولٌ مرويٌّ عن الليث، ودليله الوجود أيضا.
القول السادس: أن أكثر مدة الحمل سنتان، وهو المشهور من مذهب الحنفية، ويستدلون بأثر عن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما تزيد المرأة في الحمل عن سنتين" أخرجه سعيد بن منصور والدارقطني وغيرهما، قالوا: ومثل هذا له حكم الرفع إذ لا اجتهاد فيه، وكذلك استدلوا بالوجود.
القول السابع: أنه سنة واحدة، وهو قول منسوب لبعض المالكية، كابن رشد الحفيد، والقرطبي، ودليله أنه أقرب إلى المعتاد في النساء، والعمل بالعادة لا بالنادر.
القول الثامن: أنه تسعة أشهر، وهو قول ابن حزم، ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ودليله أن الحمل والفصال في القرآن لا يزيد على ثلاثين شهرا، فمن ادَّعى أن حملا وفصالا يكون في أكثر من تلك المدة فقد أتى بالباطل، كما أن عادة غالب النساء تسعة أشهر، فتكون هي أكثر مدة الحمل، إذ العبرة بالغالب الأكثر، لا بالنادر القليل.
الجواب عن النصوص السابقة:
أجاب ابن حزم عن النصوص السابقة بقوله:" وكل هذه أخبار مكذوبة راجعة إلى من لا يصدق، ولا يعرف من هو، ولا يجوز الحكم في دين الله بمثل هذا".
هذا باختصار شديد غاية ما جاء عن الفقهاء في تقدير أكثر مدة الحمل، وهي كما ترى في بعضها غرابة وندرة بالغة.
أكثر مدة الحمل في الطب الحديث:
معلوم أن الأطباء في العصر الحديث، والذي تقدم فيه علم الطب إلى مراحل عظيمة، معلوم أنهم أعلم الناس بهذا الشأن، ومع رَصْدِ عددٍ كبير جدا من حالات الولادة والوضع، يبلغ الملايين لم تسجل لديهم حالات حمل طويلة مديدة تبلغ السنة الواحدة، فضلا عن السنتين والثلاث أو أكثر من ذلك.
بقاء الجنين في بطن الأم مدة طويلة يعرضه للموت قطعا:
لقد قرر الأطباء في العصر الحديث أن أكثر مدة يمكن أن يوجد فيها الجنين في بطن الأم هي (280) يوما، أي تسعة أشهر، وعشرة أيام، لا أكثر، بل أكد الأطباء على أن هناك مدة إذا بقي فيها الحمل في بطن الأم فإنه لا يمكن أن يولد حيًّا، ويختلفون في تلك المدة، فمنهم من قال: عشرة أشهر؛ لأن المشيمة التي تغذي الجنين تصاب بالشيخوخة بعد الشهر التاسع، وتقل كمية الأكسجين والغذاء المارَّيْن من المشيمة إلى الجنين، فيموت الجنين.
وقال البعض: (310) يوما، وقيل: أحد عشر شهرا، ويقولون: إن مدة الحمل مائتان وثمانون يوما، فإذا تأخرت الولادة فإن في المشيمة بقيةَ رصيدٍ يخدم الجنين بكفاءة لمدة أسبوعين فقط آخرين كما تقدم، ثم يعاني الجنين من المجاعة بعد ذلك، التي تؤدي إلى موته في الأسبوع الثالث على الأكثر، ومن النادر طبِّيًّا أن ينجو أحد من الموت.
وإتماما لاستيعاب هذا النادر، فإنه تمد المدة إلى أسبوعين آخرين، لتكون المدة ثلاثمائة وثلاثين يوما، أي أحد عشر شهرا.
جواب الأطباء على ما ذكره الفقهاء وأهل السير والتاريخ:
وموقف الأطباء مما ذكره الفقهاء، وحكاه أهل السير والتاريخ أن تلك المدد الطويلة التي ذكرت تحمل على أحد أمور:
- فإما أنها حمل وهميٌّ كاذب، وغالبا ما يحدث الحمل الوهمي أو الكاذب عند النساء في نهاية العقد الثالث من عمرهن، سيما مع التشوف والشغف الشديدين للحمل، والسبب هو اضطراب هرموني مؤقت يسبِّب أعراضَ ذلك الحملِ الكاذبِ.
- الخطأ في الحساب، كحساب مدة انقطاع الدورة الشهرية ضمن مدة الحمل، وقد أشار ابن الهمام الحنفي إلى وجود حالات كهذه في عهده.
- موت الحمل في البطن، ومكثه مدة طويلة، والحمل طبيا قد يموت في بطن الأم، وبمرور الوقت يتكلس ويترسب إلى أملاح الكالسيوم حتى يصبح مثل الجير، إلى أن ينزل أو يقذفه الرحم.
- ومما أجابوا به أيضا ما ذكره ابن حزم رحمه الله، وهو أن تلك الأخبار مكذوبة موهومة.
ولا شك أنه ما دام ثبت طبيا استحالة بقاء الحنين أكثر من أحد عشر شهرا حيًّا في بطن الأم، فإن الواجب اعتبار ذلك؛ وذلك أن الطب الحديث بهذه النتائج حسٌّ مشاهَدٌ، لا يمكن تجاهله، أو التعلق بتلك الآثار التي لا يعلم عن صحتها، مع كونها محتملة أحد الاحتمالات السابقة، والتي يحيلها ويمنعها الطب، فالأقرب أن تكون المرجعية في هذا الباب للطبِّ الحديث، سيما وأن تلك الأخبار الواردة ليست نصًّا من كتاب أو سنة أو إجماع، إنما هي مجرد أحوال نادرة، لا يعلم عن صحتها أو ثبوتها، وغالب من أخذ بها إنما هو من باب الاحتياط لا أكثر، مع خطر الأحكام المبنية عليها.
الآثار المبنية على أكثر مدة الحمل:
بعض الناس قد تدعوه نفسه إلى اتهام أهل العلم بأنهم قد يهتمون بأمور لا أثر لها، وليس من ورائها طائل، وهذا أمر يطول عرضه، وهو من الأخطاء الكبيرة التي يمارسها بعض العوام، وربما بعض صغار طلبة العلم، فهذه المسألة التي بين أيدينا ربما اعترض البعض على أهميتها، وحينما ينظر في الآثار المبنية عليها لتراجع عن كلامه ذاك، فمن تلك الآثار الآتي:
1- ثبوت نسب الوالد إلى الزوج ونفيه عنه: وتصوير ذلك في حال ما إن وضعت المرأة الولد لأكثر من مدة الحمل من تاريخ الفرقة بطلاق، أو تغيُّبه عنها بسفر أو سجن ونحوه، فإنه في هذه الحال لا ينسب له، فلو أن امرأة أنجبت ولدا لأكثر من سنة ?حسب المدة التي قررها الأطباء- وكان الزوج قد فارقها بطلاق ونحوه، فإنه لم يلحق به إذا نفاه، وهو من أبرز وأهم الآثار.
2- ثبوت ميراث الحمل المولود بعد وفاة المورث وعدمه: من المتقرر شرعا أن الحمل لا يرث إلا بعد التحقق من وجوده حين موت المورث، ولو نطفة، مع انفصاله حيا حياةً مستقرةً، فإن وُلد لأقل من أكثر مدة الحمل من موت المورث، فإنه يرث للقطع بوجوده في الرحم عند موت المورث، أما إن ولد لأكثر من أكثر مدة الحمل، فإنه لا يرث للتأكد من كونها طبًّا نشأت به من رجل آخر، زوج أو سيد، وبناء على ما قرره الأطباء في هذه المسألة، فلو أن الجنين ولد لأقل من سنة من موت المورث وَرِث، للتحقق من وجوده، أما إن ولد لأكثر من سنة، فإنه لا يرث لكونه نشأ من رجل آخر.
3- أثر ذلك في الوصية للحمل: يكاد يتفق الفقهاء على صحة الوصية للحمل، مع اختلافهم في اشتراط كونه موجودا أم غير موجود، وبناء على تصحيح الوصية له، واشتراط الوجود، فإنه أيضا ينظر في أكثر مدة الحمل للتحقق من وجود الحمل عند الوصية، فإن ولد لأقل من أكثر مدة الحمل تحقَّقنا من وجوده عند الوصية، وصحت له، وإلا بأن وُلد لأكثر من أكثر مدة الحمل من الوصية، فإنه لا تصح للتيقن من كونه وجد بعدها.
والله الموفق
كتبه: د. محمد بن موسى الدالي
في 2/4/1433هـ